في أحد الصفوف شبه المظلمة داخل المدرسة، كنت أقف وجهًا لوجه أمام أخ كوغامي، ذلك الشاب ذو الشعر الأبيض والأسود الذي لا يملك أي شبه معها. كان حضوره ثقيلاً، ونظراته كأنها سهام تخترق صدري.
شعور الخوف بدأ يتسرب إلى داخلي مثل ماء بارد يجري في عروقي. يداي كانتا تتعرقان، وقلبي يخبط بقوة حتى شعرت أنه قد يسمع نبضه. رقبتي مشدودة، وكتفي ثقيلان، وكأن الهواء في الغرفة أصبح أثقل فجأة. لكن رغم ذلك، لم أسمح لرجلي بالارتجاف. يجب أن أصمد... لأجل البقية، لأجل نيمو، لأجل ميساكي.
قلت بصوت حاولت أن أجعله هادئًا:
"اسمعني... ما رأيك أن نحب الأمر بجدية؟"
حاولت أن أضفي على الكلمة بعض اللطف، لكن ما إن التقت عيناي بعينيه حتى شعرت وكأنني سكبت الزيت على النار.
غضبه ازداد بشكل ملحوظ — عيناه اتسعتا قليلًا، حاجباه انخفضا وكأنهما سكينان على وجهه، وفكه كان مشدودًا بشدة حتى كدت أسمع صوت أسنانه تطحن بعضها. تنفسه أصبح أعمق، لكن ليس لتهدئة نفسه، بل كأنه يملأ صدره بغضب أكبر استعدادًا للانفجار.
عندها، فهمت الحقيقة القاسية: لا مفر من القتال.
ثبتُّ قدميّ على الأرض، لكن قلبي كان يصرخ في داخلي: أنت لا تملك فرصة أمامه، فكر في طريقة للهرب.
هاروكا لم ينتظر لحظة، اندفع نحوي بسرعة مذهلة، لا صوت سوى خطواته وهي تصطدم بأرضية الفصل. رفعت يديّ في محاولة بائسة لصد الهجوم، لكنه كان أسرع. قبضته اصطدمت بكتفي بقوة جعلتني أترنح للخلف وكأن جسدي فقد توازنه بالكامل. شعرت بتيار حارق يسري من كتفي حتى أصابعي.
لم يمنحني فرصة للتنفس، أتبَع الضربة بركلة منخفضة نحو ساقي اليمنى. لم تكن مجرد ركلة، بل كانت ضربة مدروسة لتفقدني القدرة على الحركة. ركبتي انثنت رغمًا عني، وكدت أسقط أرضًا، لكنني تشبثت بحافة الطاولة بجانبي.
القوة… هذه ليست قوة شخص عادي. كان يهاجمني بدقة، وكأنه يعرف كل نقطة ضعف في جسدي. أنا لست ضعيفًا في التفكير، لكن جسدي… لم يكن أبدًا معدًا لتحمل هذا.
تراجعت خطوة، ثم أخرى، بينما يديه تتأرجحان كالمطارق. صدّيت ضربة بساعدي، لكن الألم اخترق عظامي حتى شعرت وكأنها ستتكسر.
بدأت أحسب المسافات… النافذة خلفي على بُعد ثلاثة أمتار، الباب على اليمين لكن قريب منه جدًا… لا فائدة. إن أردت النجاة، عليّ أن أستعمله ضده.
عندما اندفع مرة أخرى، تظاهرت أنني أرفع يدي لصد الضربة، لكنني فجأة انحنيت بالكامل وتدحرجت على الأرض بين قدميه، متجهًا نحو الخلف. سمعت خطواته تدور فورًا للحاق بي، لكنني كنت قد أمسكت بكرسي وألقيته باتجاهه، ليس لأذيته بل لإبطائه ثانية أو اثنتين.
في تلك اللحظة، انطلقت نحو الباب بأقصى ما أملك من سرعة، ساقي تؤلمني من الركلة، أنفاسي متقطعة، لكن أي شيء أفضل من البقاء داخل ذلك الفصل مع وحش مثل هاروكا.
كنت أعلم… هذه ليست معركة للفوز، بل للهروب.
اندفع هاروكا نحوي مثل قطار بلا فرامل، خطواته ثقيلة وسريعة في نفس الوقت، كل حركة منه تشي بقدرة جسدية هائلة.
أنا؟ مجرد شخص يعرف كيف يفكر… لكن الجسد؟ ضعيف، بطيء، غير معتاد على الألم.
حسناً بليك، لا تحاول مجاراته… فقط اجعله يضرب الهواء.
لكمة منه مرت بجانب وجهي بمسافة سنتيمترات، شعرت بالهواء يصفع خدي. لو أصابت، لكانت كسرت أنفي وربما أكثر. انحنيت للخلف، ظهري يحتك بطاولة الفصل، ثم انزلقت على الأرض لتفادي الركلة التالية التي مرت فوق كتفي.
هاروكا كان يهاجم بثبات، لا اندفاع أعمى… كل ضربة محسوبة لتقييد حركتي. ضرباته نحو الجذع والركبتين كانت لإبطائي، بينما اللقمات نحو الرأس لإنهاء الأمر سريعًا.
إنه يقرأ حركاتي… إذا استمريت أتراجع فقط، سينهي الأمر خلال ثوان.
عندما هجم مجددًا، تحركت جانبيًا بحيث يصطدم قبضته بلوح الحائط، وفعلاً، صوته ارتطم بالخشب بقوة، لكن يده بالكاد تأثرت، بينما أنا كسبت ثانية واحدة فقط.
حاولت رمي كرسي بيننا، ليس لإصابته، بل ليجبره على القفز أو المراوغة، مما يمنحني مساحة للحركة. قفز فوقه بسهولة، يديه مستعدة لضربة أخرى.
سريع… سريع جدًا. لا يوجد مجال للتفكير الطويل، يجب أن أستعمل كل سنتيمتر من المساحة لصالحك.
بدأت أتحرك بشكل دائري حوله، أضع الطاولات بيني وبينه، أجبره على تغيير اتجاهه باستمرار، مما يبطئ اندفاعه قليلًا. لكن حتى وأنا أراوغ، شعرت بكتفي يختل توازنه بعد ضربة جانبية لم أتمكن من صدها بالكامل، الألم انتشر كالتيار الكهربائي.
الألم يزداد… لكن البقاء واقفًا أهم من القتال.
في اللحظة التي فتح فيها هاروكا مسارًا مباشرًا نحوي، تظاهرت أنني سأتراجع، ثم انزلقت للأسفل بين قدميه، واندفعت نحو الباب. لم أحاول النظر للخلف، كنت أعلم أنه سيلحق بي فورًا، لكن كل ثانية أبتعد فيها عن مسافة لكماته كانت مكسبًا.
أنا لا أقاتل للفوز… أنا أقاتل لأبقى حيًا.
اندفعت في الممر بأقصى ما أملك من سرعة، لكن خطوات هاروكا كانت تقترب… ليست مثل خطوات شخص يركض، بل كصدى ثقيل يعلن أن النهاية قادمة.
التفت يسارًا فجأة، محاولًا استغلال زاوية الممر لتضييق مجاله البصري، لكن قبل أن أتمكن من أخذ نفس، يده القوية أمسكت بياقة قميصي، جذبتني للخلف كما لو كنت طفلًا صغيرًا، واصطدم ظهري بالجدار.
تبا… لا فائدة من الهروب… إنه أسرع وأقوى…
وجه لكمة مباشرة نحو وجهي، لكنني أملت رأسي جانبًا في اللحظة الأخيرة، شعرت بقبضته ترتطم بالجدار خلفي، الجدار اهتز… وأنا اهتز معه. حاولت الرد بدفعة بقدمي على ساقه، لكن قدمي ارتدت عنه وكأنها ضربت عمودًا فولاذيًا.
ابتسم ببرود، أو ربما كان ذلك انعكاسًا لعينين لا ترحمان، ثم أمسك بذراعي والتف بي ورماني نحو الأرض. ارتطامي بها أفقدني بعض الهواء من رئتي.
ألم… تنفس… ركز يا بليك، لا يمكنك أن تبقى مستلقيًا…
تدحرجت بسرعة للخلف قبل أن يسحقني بكعبه، لكن حتى وأنا أبتعد، كان يقترب وكأنه يسير على خط مرسوم بدقة. لم يكن يندفع عبثًا، كان يعرف أنني سأرهق وأخطئ.
بدأت أشعر بثقل جسدي، عضلات ساقي تحترق من المراوغة المستمرة. كل مرة أتفادى، أشعر أن المسافة بيننا تصغر. هو يتحكم بالسرعة، يتحكم بالاتجاه… بل يتحكم بي أنا.
إنه يطوقني… يجرّني حيث يريد… لو لم أجد فجوة الآن، سأكون منتهيًا.
لكن الفجوات لم تكن موجودة… فقط جدار، طاولة مقلوبة، وخصم يزداد سيطرته على المعركة مع كل ثانية تمر.
تراجعت خطوة للخلف، صدري يعلو ويهبط بسرعة، بينما هاروكا يقترب بخطوات ثابتة.
لم يكن يندفع بتهور مثل بعض المقاتلين، بل يغيّر أسلوبه بسلاسة مربكة.
مرة يهاجمني بلكمات سريعة ودقيقة، تذكرني بملاكم محترف، يوجهها لمواضع محددة: الضلوع، الفك، الكتف. ومرة أخرى يغيّر وقفته لينخفض فجأة ويحاول خطفي بركلة منخفضة تشبه ركلات فنون الكاراتيه.
حاولت أن أصد لكمة، لكن سرعته فاقت توقعي. قبضته اخترقت دفاعي، اصطدمت بضلوعي اليمنى بقوة جعلت الألم ينتشر في صدري كشرارة كهربائية. وقبل أن ألتقط أنفاسي، اندفع للأمام بركبة قوية نحو معدتي، الهواء خرج من فمي دفعة واحدة.
تبا… إنه لا يترك أي مساحة للتفكير…
لم أجد وقتًا لأعيد توازني، إذ لحق الركبة بصفعة مفتوحة على جانب وجهي، لكنها لم تكن لإسقاطي، بل لتشتيت تركيزي، تلتها لكمة يسارية قوية أصابت فكي مباشرة، رأيت الأرض والهواء يدوران أمام عيني.
سقطت على ركبتي، يدي تحاول أن تمسكا بأي شيء يعيد لي توازني، لكن ظل هاروكا غطى رؤيتي قبل أن يوجه ركلة جانبية إلى كتفي أسقطتني تمامًا على الأرض.
هذا… سيء… جسدي كله يصرخ…
كان الألم يزداد مع كل حركة، ورؤيتي أصبحت غير واضحة. كل ضربة منه كانت محسوبة، كأنها بُنيت على دراسة دقيقة لتحطيم دفاعي تدريجيًا، حتى لم يتبقَ مني سوى جسد يتلقى الضرب.
رفع هاروكا قبضته من جديد، وكنت أعلم… إن لم يتوقف الآن، فلن أستطيع النهوض هذه المرة.
قبضته ارتطمت بوجهي بقوة جعلت الدم يتطاير من فمي، لكن ما إن انتهى من اللكمة حتى أتبعها بركلة مباشرة إلى ضلوعي، شعرت وكأنها كسرت شيئًا في داخلي.
كل ضربة منه كانت أثقل وأسرع من السابقة، وكأن كلامي عن أخته أطلق في داخله طاقة غاضبة لا تنتهي.
سحبني من ياقة قميصي بيد واحدة، رفعني قليلًا عن الأرض ثم وجه لكمة هائلة إلى معدتي، فالتوى جسدي للأمام وأنا أكاد أتقيأ من شدة الألم. لكن حتى وأنا أتألم، نظرت إليه بابتسامة نصف ساخرة، فقط لأغضبه أكثر.
تبا… كل ضربة تشبه مطرقة… لكن… لن أسقط… ليس الآن.
استمر في الضرب، لكمة تلو الأخرى، ركلات جانبية، ضربات كوع، حتى كدت لا أفرق بين الألم والمكان الذي أصابني.
ومع ذلك، كنت أقاوم السقوط النهائي. أقدامي تتمايل، جسدي يتأرجح، لكنني أبقى واقفًا، أتلقى الضربات وكأن عنادي وحده هو ما يبقيني.
توقف لحظة، يلهث قليلًا، نظراته تحمل شيئًا من الدهشة.
"…كيف ما زلت واقف؟" قالها وهو يحدق في وجهي المدمى.
أجبته وأنا أتنفس بصعوبة:
"لأنني… أريدك أن تتعب… قبل أن تنهي الأمر."
كان واضحًا أن كبرياءه شعر بالتهديد من مجرد قدرتي على البقاء، فشد قبضتيه من جديد، مستعدًا لجولة أعنف.
هاروكا اندفع نحوي مجددًا، يده اليمنى مرفوعة للكمة قاضية، لكن هذه المرة لم أكتفِ بالتلقي.
انخفضت فجأة أسفل ضربته، شعرت بالهواء الحاد يمر فوق رأسي، ثم تحركت للخلف خطوتين، ألهث لكن عيني تراقبه بحذر.
هو أسرع، أقوى، وأقدر مني على القتال… لكن القوة وحدها لا تكسب المعركة. عليّ أن أستعمل غضبه ضده.
بدأت أترنح عمدًا، أظهر كأنني على وشك السقوط، أتركه يظن أنني فقدت التركيز. عيناه ضاقتا، ابتسم بخبث، ثم اندفع بكل ثقله نحو وجهي.
في اللحظة الأخيرة، تراجعت نصف خطوة، رفعت يدي لأمسك بمعصمه، وأستعمل زخمه لدفعه للأمام بقوة، فجعلته يرتطم بالسبورة بقوة حتى تكسرت أطرافها.
نجحت… لكنه لن يسقط من ضربة واحدة.
استدار هاروكا فورًا، الغضب يشتعل في عينيه، لكنني لاحظت أنه يتنفس بسرعة أكبر الآن، ضرباته السابقة أرهقته قليلًا.
قررت اللعب على هذا الوتر، فأخذت أتحرك في شكل دائري حوله، أستفزه بكلمات متقطعة:
"أسرع… أيها الأخ الحنون… لا تخيب ظني."
اندفع مرة أخرى، لكنني كنت أنتظر الهجوم، تفاديت الركلة وأمسكت ساقه لحظة، ثم دفعتها للأعلى لتفقده التوازن، فأوقعته على ركبته.
استغليت الفرصة، وجهت لكمة خاطفة إلى أنفه، ليس بقوة كبيرة، لكن تكفي ليتراجع خطوة للخلف.
خطة الاستنزاف تعمل… إذا واصلت تفادي الضربات مع ضربات صغيرة سريعة، يمكنني قلب الموازين.
لكن في داخلي كنت أعرف أن أي خطأ واحد… قد ينهي كل شيء في لحظة.
حاولت أن أواصل الضغط، أتنقل بسرعة وأطلق ضربات متتالية، لكن التعب بدأ يزداد في كل عضلة من جسدي.
هاروكا لم يكن مجرد غاضب، بل أصبح أكثر حذرًا وذكاءً. بدأ يقرأ تحركاتي، وكأنني أصبحت مكشوفًا أمامه.
فجأة، وفي لحظة لم أنتبه لها جيدًا، استغل هاروكا فراغًا في دفاعي، وانقض بضربة قوية على كتفي، ضربتها كانت كالصاعقة، أشعر بأنني فقدت توازني للحظة.
ثم تبعها بسلسلة من اللكمات والركلات المركزة، لم يكن يعطي فرصة للتنفس أو الهروب. كل ضربة كانت تزيد من وطأة الألم في جسدي، وبدأت أشعر بثقل الإعياء يغمرني.
حاولت المقاومة، لكن ظهرت الضعف في ردود أفعالي، فتصاعدت قوة هاروكا، وضغطه لم يرحم.
كانت نظراته قاسية، يملؤها الثقة والهيمنة، بينما كنت أتراجع ببطء تحت وطأة الضربات.
في لحظة، وجه لي ضربة مبرحة على فكي، جعلتني أسقط على الأرض متألمًا، والدوار يغمرني.
كنت أعلم أن خطتي فشلت، وأنني الآن في موقف أكثر خطورة، وربما الهزيمة تقترب أكثر من أي وقت مضى.
كنت مدركًا تمامًا أن كل لحظة تأخير قد تكلفني حياتي. هاروكا كان يضغط بلا هوادة، ضرباته كالصواعق لا ترحم. جسدي كان ينزف من ضربات متتالية، ووجهي متورم وملطخ بالدماء، لكن روحي لم تستسلم بعد.
رأيت كرسيًا مقلوبًا بالقرب من الباب، فبلمحة خاطفة اقتنصته بيدي، وبدون تردد ضربت به هاروكا على رأسه. ارتد قليلاً، لكن لم يتوقف، غضبه كان لا يوصف.
تقدمت نحوه وأمسكت بطاولة خشبية ثقيلة، حملتها بكل قوتي ورميتها نحوه. انحنى بسرعة ليتفادى الطاولة، لكنها أصابت الحائط، وأحدثت صوت تحطم مدوٍ في الفصل.
تنهدت للحظة وجمعت قواي، وأثناء اقترابه مني، نفذت حركة خاطفة مبتعدًا عن هجومه، التقطت الكرسي مجددًا، وهذه المرة رميت به على ساقه، مما جعله يفقد توازنه للحظة.
لم أتركه يستعيد نفسه، ركضت نحوه وبدأت في قتال يدوي مرير. كانت لكماته تحطم عضلاتي، لكني بدوري استخدمت كل ما تعلمته من تقنيات، مصيبًا وجهه بقبضة يدي المفتوحة، جعلته يتراجع.
لكن هاروكا لم يستسلم، ووجه لي ضربة قوية على بطني، أردت أن أتنفس لكن الألم كان مخنقًا. انحنيت قليلاً، استغلها ووجه لي ركلة مزدوجة على رأسي، كدت أفقد الوعي.
سقطت على الأرض، وأحسست بالدم ينزف من جبهتي، لكن لم يكن هذا الوقت للانهزام. باستخدام كل ما تبقى من قوتي، أمسكت بطاولة مكسورة ورميتها بقوة على وجهه، وسمعت صوت طقطقة عظام.
هاروكا سقط على الأرض، ينزف من فمه وأنفه، لكنه حاول النهوض.
وقف، والدماء تغطي وجهه، لكن في عينيه كان هناك شيء مختلف: احترام، خوف، وربما قبول الهزيمة.
وقفت متعبًا، وقلت بصوت متقطع: "لم أكن قويًا... لكن لن أسمح لأحد أن يهين عائلتي..."
في تلك اللحظة، وقع هاروكا على ركبتيه، محطّمًا.
كانت المعركة قد انتهت، ولكن ثمن النصر كان باهظًا — جروح دامية، ألم لا ينسى، وروح لا تقهر.
جلستُ على الأرض، جسدي يئن من الألم، أنفاسي متقطعة، لكن أمامي كان هاروكا ممددًا على الأرض، غارقًا في دمائه، كأنه فاقد الوعي تمامًا. قلبُي كان ينبض بسرعة، وكانت مشاعر الانتظار تفتح بواباتها داخلي لأول مرة. بعد كل هذا الألم، بعد كل المعاناة، شعرت بنبضة أمل تتسلل إليّ.
رفعت رأسي وصرخت بأعلى صوتي، بصوت يخرج من أعماق روحي:
"لقد... انتصرت!!!"
على الرغم من التعب الذي كان يثقل جسدي، وعلى الرغم من الألم الذي كان ينخرني، إلا أن الفرح غمرني بشكل لا يوصف. كانت تلك اللحظة مختلفة، شعرت بأنني استطعت أن أحقق شيئًا لم أكن أتخيله. كان قلبي يتراقص بين الفرح والارتياح، وابتسامة لم تفارق شفتي حتى في وسط الألم.
لكن فرحتي لم تدم طويلاً.
ببطء شديد، بدأ هاروكا يتحرك، يرفع رأسه ببطء، والدماء تلطخ وجهه المشوه من الضربات، عيونه المفتوحة تنظر إلي بنظرة مرعبة وقاتلة، وكأن شيطانًا استيقظ من سباته.
كان جسده متعبًا وممزقًا، الملابس الممزقة تلتصق بجسده، ودماؤه تنزف بلا توقف، لكن في تلك النظرة كان هناك شيء لا يُقهر، غضب متأجج لا ينطفئ، وحشية تعيد صياغة معناه.
وقف ببطء، كل حركة منه تنطق بالألم، لكنه لم يخفت. نظر إليّ وكأنني عدو لم يُقتل بعد.
كانت هذه اللحظة التي علمت فيها أن المعركة الحقيقية لم تنتهِ بعد...
وقفتُ بصعوبة، كل عضلة في جسدي تصرخ من الألم، لكن خوفي لم يمنعني من مواجهة هاروكا الذي نهض ببطء، وجهه ملطخ بالدماء والعرق، عيناه تشعان بغضب لا يُقهر.
نظر إليّ بحدة وقال بصوت غليظ مملوء بالتهديد: "سوف أقتلك يا بليك، إما الآن أو لاحقًا."
ابتسمت ابتسامة متعبة، لكني رددت بثبات رغم كل التعب: "حاول إن استطعت يا هاروكا."
كنا على وشك أن نبدأ الجولة الثانية من هذه المعركة المريرة، كلانا يعلم أن ما سيأتي لن يكون سهلاً، لكن فجأة، وبدون أي إنذار، فتح باب الفصل بعنف.
دخلت توراكو، ملامحها متعبة ومثقلة بالدماء والخدوش، شعرت أنها مرت بمعركة لا تقل شراسة عما حدث هنا. ملابسها ممزقة، شعرها يتدلّى بشكل غير مرتب، وعيونها تحكي قصة ألم وعزيمة لا تلين.
وقفت بثبات في وسط الباب، نظرت إلينا بنظرة حادة، كأنها تقول: "لم تنتهِ المعركة بعد."
نظر هاروكا إلى توراكو بعيون مليئة بالدهشة، وقال بصوت متردد: "أختي توراكو، ما الذي تفعلينه هنا؟"
لكن كانت توراكو مختلفة تمامًا؛ الغضب يملأ وجهها، ولأول مرة رأيت علامات الخوف تتسلل إلى ملامح هاروكا، بدا وكأنه يخشى أخته الصغيرة.
ردت توراكو بنبرة مرعبة وقاطعة: "أخي، ألم أخبرك ألا تحدث أي مشاكل؟ لكنك في النهاية سببت كل المشاكل بنفسك."
توقف هاروكا للحظة، ثم قال بنبرة محتدمة: "ماذا تعنين بهذا، توراكو؟"
قالت وهي تحدّق فيه بقسوة: "الصواب هو موت تلك الملعونة."
تجمد هاروكا للحظة من كلماتها، ثم رد بغضب مصحوب بعناد: "حسنًا، أنا لا أهتم برأيك، هذا اللعين هو سبب موت أختنا، لذا يجب أن يموت أيضًا."
بدأ يقترب منها بخطوات مهددة، رفع يده للتحضير لضربة، وكانت توراكو تصرخ مطالبة إياه بالتوقف.
كنت واقفًا بينهما، مشدودًا من شدة الموقف، مستعدًا لأي طارئ يمكن أن يحدث.
فجأة، وعلى غير توقع، سُمعت أصوات تحطم زجاج، وفتح باب الفصل بشكل مفاجئ، ليندفع من خلاله بابادوك، دخوله جاء كصاعقة وسط التوتر المتصاعد، عاقدًا حاجبيه بنظرة حادة، مستعدًا للتدخل في اللحظة الحرجة.
وقفتُ مذهولًا وأنا أراقب المشهد يتطور أمام عينيّ، وسمعت بابادوك يقول بصوت هادئ لكنه حازم:
"دووك، في الوقت المناسب تمامًا، توقف هذا اللعين ذو الشعر الغريب."
رددتُ وأنا أراقب نظرات الاستغراب التي ارتسمت على وجهي توراكو وهاروكا:
"ماذا تقول يا بليك؟ أنا هنا لشيء أفضل."
ابتسم بابادوك ابتسامة غامضة، ثم أخرج من جيبه كاميرا قديمة نوعًا ما، ورماها أمام هاروكا قائلاً بحزم:
"شاهد هذا الفيديو، وسوف تفهم كل شيء."
تجاهل هاروكا الفيديو بغضب واندفع هجومًا نحو دووك، لكن دووك لم يتحرك كثيرًا؛ استقبل الضربة بهدوء، فتلقاها على الأرض بطريقة تجعل السقوط يبدو كأنها حركة مدروسة، حيث انحنى بجسده ودار قليلًا مع السقوط، مقللاً من أثر الضربة، ليسقط بثقلٍ لكنه متحكم به على الأرض.
وقف دووك بسرعة وكأنه لم يتأثر، ونظر إلى هاروكا بنظرة أكثر جدية وقال بنبرة أقوى:
"شاهد."
رفع هاروكا الكاميرا بيدين مرتجفتين، وبدأ يشاهد الفيديو الذي بدأ يتكشف فيه شيء لم يكن يتوقعه...
كان الفيديو يبدأ بلقطات مظلمة قليلاً، مصورة بهاتف قديم يعكس اهتزاز الكاميرا من توتر واضح. تظهر فتاة شابة، عيناها ممتلئتان بالخوف والدموع تنساب على خديها، وهي تحاول الدفاع عن نفسها بأذرعها المرتعشة، بينما صوت صراخها المكتوم يتردد في الخلفية.
كانت توراكو غير حاضرة في اللقطة، لكن صوتها يبدو بعيدًا كأنه يصدح في أذن الفتاة، تحثها على الخضوع. الفتاة تحاول الهروب لكن شخصًا يمسك بها من الخلف بإحكام، وكأنها محاصرة.
ثم تظهر كوغامي، بملامح وجهها القاسية والساخرة، ترتدي زيها المدرسي المعتاد، وهي تضحك ببرود بينما ترفع قدمها وتضغط بقوة على رأس الفتاة المسكينة، التي تصدر صرخة مؤلمة وتنهار تحت الضغط.
روكو تظهر في الخلفية، وجهها بلا تعبير، تراقب المشهد بصمت، وكأنها شريكة في الجريمة، لا تظهر فيها أي مشاعر سوى برودة الثلج.
تتخلل الفيديو أصوات استهزاء كوغامي وتعليقاتها الجارحة، مثل "هكذا يكون الثمن لمن يعاندوننا" و"لن تتعلمي أبدًا، أليس كذلك؟".
الأجواء في الفيديو مظلمة ومخيفة، تعكس واقعًا وحشيًا لا يرحم، وتبدو الفتاة كأنها محطمة جسديًا ونفسيًا، بينما كوغامي وروكو تتصرفان بلا رحمة، وكأنهما المتحكمتان في كل شيء.
مشاهد الفيديو تُظهر مدى القسوة التي مارستها توراكو وأصدقاؤها، وتترك هاروكا في حالة من الصدمة والغضب المختلط بالخوف، حيث يبدأ وجهه يغيّر تعابيره تدريجياً من الغضب إلى الارتباك، وكأن شيئًا ما ينكسر داخله.
وقفت أمام الشاشة، أراقب هدوء المشهد المرعب، لكن عيني لم تفارق وجه هاروكا. كان يبدو كأنه في صراع داخلي عنيف، وجهه المتجهم بدأ يتحول تدريجياً إلى مزيج من الصدمة والندم العميق.
تجمد لوهلة، عيناه توسعتا وكأنهما ترى الحقيقة لأول مرة بوضوح مرعب، شفتيه ترتجفان قليلاً، وكأن الكلمات التي كان يرددها قد تلاشت فجأة في فراغ لا مخرج منه.
ثم سقطت كلماته ثقيلة كالصاعقة في الهواء:
"بليك... أنا آسف... لم أكن أعلم... لم أكن أريد أن... أن أؤذي أحداً."
نظراته توقفت على توراكو، التي كانت تراقبه بصمت، وبلطف لم يكن متوقعًا، قال:
"توراكو... أنا آسف لك أيضاً... لم أكن أرى الحقيقة، لم أكن أعي مدى الألم الذي سببته."
أخذ نفسًا عميقًا، وظهر في عينيه وميض من الندم الحقيقي، وكأنه يطلب المغفرة بصمت.
كانت تلك اللحظة، حيث انكسر جدار الغضب والعناد، وبدأ شيء جديد — بداية لفهم، وربما بداية للشفاء.
قال هاروكا، رأسه مائل نحو الأرض، أنفه لا يزال ينزف، وصوته مكسورًا: "لم أكن أعلم أن كوغامي بهذه الوحشية... حتى أقوى العصابات لن تفعل مثل هذه الأشياء الشنيعة."
كان حزنه واضحًا، وندمه يغمره كظلام ثقيل، بدا كأنه يحمل ثقلًا داخليًا لا يحتمل.
أما توراكو، فمسكت بكتفه برقة، عينان تلمعان بالدموع، وقالت بنبرة هادئة لكنها متأثرة: "أخي... أنا آسفة لأنني لم أخبرك بذلك من قبل... لم أرد أن أفسد علاقتك بها... أنا آسفة."
وبدأت دموعها تنساب ببطء على وجنتيها.
نظر إليها هاروكا ببطء، عيونه تمتلئ بالحيرة والوجع، وقال محاولًا أن يهدئها: "لا تبكي، توراكو... لماذا تبكين؟"
لكن سرعان ما اجتاحته موجة من المشاعر، وانفجر بالبكاء هو الآخر، وصوت بكائه يحمل مزيجًا من الألم والندم والفراغ العميق.
كنت أراقبهم، وكنت أشعر بقلبي الذي كان محمومًا بالخوف والضغط، يبدأ بالهدوء والاختفاء تدريجيًا، كما لو أن شيئًا من الظلام قد أُزيل.
بعد فترة، وقفت توراكو، مسحت دموعها ونظرت إليّ بعزم صارم، وقالت: "دووك، اجمع عصابة أونيزوكا. عاروكا، اجمع عصابتك. سنلتقي جميعًا على سطح المدرسة قبل غروب الشمس."
كانت كلماتها حازمة، واضحة، وكأنها تُعلن بداية مرحلة جديدة.