كان الصباح قد بدأ للتو في قرية حافة الرماد، تلك القرية الصغيرة المنسية على أطراف مملكة تيراكرون. كانت الشمس الذهبية قد عادت إلى مكانها المعتاد في السماء، وكأن ظاهرة الشمسين السوداوين لم تكن سوى كابوس مزعج انقضى مع الليل. لكن سكان القرية كانوا لا يزالون متوترين، يتهامسون فيما بينهم عن النذير المشؤوم الذي شاهدوه بالأمس، ويتساءلون عما قد يجلبه من مصائب.كان جوران، صياد القرية الشاب، قد خرج باكرًا كعادته إلى سهول الرماد القريبة بحثًا عن الطرائد النادرة التي تجرؤ على عبور تلك الأراضي القاحلة. كان يعلم أن الصيد سيكون صعبًا اليوم، فالحيوانات تكون أكثر حذرًا وتوجسًا بعد الظواهر الفلكية الغريبة. لكنه لم يكن يتوقع أبدًا ما سيجده هناك.على بعد ميل واحد من أطراف القرية، في منخفض صغير بين كثبان الرماد، رأى جوران شيئًا غريبًا. في البداية، ظن أنه جثة أحد المسافرين الذين ضلوا طريقهم في السهول القاحلة. لكن مع اقترابه، أدرك أن ما يراه هو شخص حي، شاب عارٍ يجلس القرفصاء، يحدق في الأفق بعينين فارغتين."هل أنت بخير؟" سأل جوران بحذر، ممسكًا بقوسه بإحكام، مستعدًا لأي خطر محتمل.لم يرد الشاب الغريب في البداية. بدا وكأنه لم يسمع السؤال، أو ربما لم يفهمه. ثم، ببطء، أدار رأسه نحو جوران. كانت عيناه السوداوان الفارغتان تبعثان على القلق، وبشرته الرمادية الشاحبة تبدو غير طبيعية. لكن ملامحه كانت هادئة، خالية من أي تعبير."أنا... لا أعرف." جاء صوته غريبًا، كأنه يتعلم الكلام للمرة الأولى. "أين أنا؟"شعر جوران بالارتياح الحذر. كان الغريب يبدو مرتبكًا ومشوشًا، لكنه لم يبدُ عدوانيًا. ربما كان مجرد مسافر تعرض لحادث أو هجوم، وفقد ذاكرته نتيجة لذلك."أنت في سهول الرماد، بالقرب من قرية حافة الرماد، على حدود مملكة تيراكرون." أجاب جوران، مخففًا من قبضته على قوسه. "هل تتذكر اسمك؟ أو كيف وصلت إلى هنا؟"نظر الشاب الغريب إلى يديه الرماديتين، وبدا كأنه يفكر بعمق. ثم هز رأسه ببطء."لا أتذكر شيئًا. لا اسم، لا ماضٍ. فقط... استيقظت هنا."كان جوران يعلم أن ترك هذا الغريب وحيدًا في سهول الرماد سيكون بمثابة حكم بالإعدام. فالليالي هنا باردة قاسية، والوحوش الرمادية تخرج للصيد مع حلول الظلام. وبغض النظر عن غرابة مظهر هذا الشخص، كان من واجب جوران كصياد وكإنسان أن يقدم المساعدة."حسنًا، لا يمكنني تركك هنا. سأصطحبك إلى القرية. ربما تستطيع الشفاءة إيلينا مساعدتك في استعادة ذاكرتك." قال جوران، وهو يخلع عباءته الصوفية ويقدمها للغريب. "خذ هذه، لا يمكنك العودة معي عاريًا."للحظة، بدا وكأن الغريب لا يفهم مفهوم الملابس. نظر إلى العباءة بفضول، ثم أخذها ببطء وارتداها بحركات متيبسة، كطفل يتعلم ارتداء ملابسه للمرة الأولى."شكرًا لك." قال الغريب، وللحظة، اعتقد جوران أنه رأى ابتسامة خفيفة على شفتيه الرمادية. لكنها كانت ابتسامة غريبة، كأنها محاكاة لشيء رآه الغريب ولم يفهمه تمامًا."هل تستطيع المشي؟" سأل جوران.نهض الغريب بحركة سلسة مفاجئة، كأنه لم يكن جالسًا للتو في وضع القرفصاء لساعات. كانت حركته أكثر رشاقة مما توقع جوران، وكان طوله أطول مما بدا عليه وهو جالس."نعم، أستطيع المشي." أجاب الغريب، وبدأ بالفعل بالتحرك باتجاه القرية، كما لو أنه يعرف الطريق بالفعل."انتظر!" صاح جوران، مسرعًا للحاق به. "أنت لا تعرف الطريق. اتبعني."توقف الغريب، ونظر إلى جوران بتلك العيون السوداء الفارغة. "بالطبع، أنت محق. أنا لا أعرف الطريق."بدأ الاثنان رحلتهما نحو القرية، جوران يقود الطريق، والغريب يتبعه بخطوات ثابتة ومتزنة. كان جوران يلقي نظرات خاطفة بين الحين والآخر على رفيقه الغامض، محاولًا فهم ما حدث له. لاحظ أن الغريب كان يراقب كل شيء بانتباه شديد: الأرض تحت قدميه، السماء فوقه، النباتات الشائكة النادرة التي تنمو في السهول، وحتى جوران نفسه. كان يراقب كما لو أنه يحاول استيعاب كل تفصيل، تخزينه في ذاكرته."يجب أن نعطيك اسمًا، على الأقل حتى تستعيد ذاكرتك." قال جوران، محاولًا كسر الصمت المربك. "هل هناك أي اسم يبدو مألوفًا لك؟"فكر الغريب للحظة، ثم قال: "ماحي.""ماحي؟" كرر جوران. "هل تتذكر أن هذا هو اسمك؟""لا." أجاب الغريب ببساطة. "لكنه يبدو... مناسبًا.""حسنًا، ماحي إذن." وافق جوران، غير مدرك أن هذا الاسم سيصبح يومًا ما مرادفًا للرعب والظلام في كل أنحاء أرتيريا.مع اقترابهما من القرية، بدأت تظهر علامات الحياة: حقول صغيرة من الحبوب المقاومة للجفاف، أكواخ حجرية متواضعة، دخان يتصاعد من المداخن. كان سكان القرية قد بدأوا يومهم المعتاد، يحاولون تجاهل القلق الذي خلفته ظاهرة الشمسين السوداوين.عندما رأى الأطفال الذين كانوا يلعبون على أطراف القرية جوران قادمًا مع شخص غريب، هرعوا نحو البيوت، ينادون بصوت عالٍ: "جوران عاد! وقد أحضر معه غريبًا!"سرعان ما تجمع عدد من القرويين، ينظرون بفضول وحذر إلى الضيف الغريب. كانت بشرته الرمادية وعيناه السوداء الفارغتان تثير القلق والخوف، خاصة بعد الظاهرة المشؤومة بالأمس."من هذا يا جوران؟" سأل كبير القرية، رجل عجوز ذو لحية بيضاء طويلة وعينين حكيمتين متعبتين."اسمه ماحي، وجدته في سهول الرماد. يبدو أنه فقد ذاكرته." أجاب جوران. "لا يتذكر من هو أو كيف وصل إلى هناك.""في سهول الرماد؟ بعد ظاهرة الشمسين السوداوين؟" همس أحد القرويين بخوف. "هذا نذير شؤم!""هراء!" قاطعه جوران بحدة. "إنه مجرد مسافر مسكين تعرض لحادث ما. يحتاج إلى مساعدتنا، لا إلى خرافاتكم."نظر كبير القرية بتمعن إلى ماحي، الذي كان يقف بهدوء، يراقب التفاعل بين القرويين بعينيه السوداوين الفارغتين. كان هناك شيء في تلك العيون، شيء عميق وقديم وخطير، جعل الرجل العجوز يشعر بالقلق. لكنه كان أيضًا رجلًا عادلًا، لا يحكم على الآخرين بناءً على مظهرهم أو الظروف التي وجدوا فيها."حسنًا." قال كبير القرية أخيرًا. "سنقدم له المساعدة. الشفاءة إيلينا ستفحصه، وسنوفر له مكانًا للإقامة حتى يستعيد ذاكرته أو يقرر المغادرة."كان ماحي يراقب كل هذا بهدوء، وجهه خالٍ من أي تعبير. لكن في داخله، كانت الأفكار تتدفق بسرعة. كان يدرس كل وجه، كل تعبير، كل نبرة صوت. كان يتعلم كيف يتفاعل البشر، كيف يظهرون مشاعرهم، كيف يخفونها. كان يتعلم كيف يبدو الخوف، كيف يبدو الشك، كيف تبدو الرحمة. وكان يتعلم كيف يستغل كل ذلك."شكرًا لكم." قال ماحي، محاولًا تقليد نبرة الامتنان التي سمعها من قبل. "أنا ممتن لكرمكم."لم يكن أحد من القرويين يعلم أن هذا الغريب الذي استقبلوه للتو في قريتهم سيكون يومًا ما سبب دمارهم. لم يكن أحد يعلم أن تلك العيون السوداء الفارغة كانت تراقبهم ليس بارتباك أو امتنان، بل بحساب بارد لكيفية استغلالهم. لم يكن أحد يعلم أن ماحي لم يكن ضحية فقدان الذاكرة، بل كان مخلوقًا ولد بالأمس فقط، مخلوقًا يتعلم بسرعة مذهلة كيف يتظاهر بأنه إنسان، بينما يخطط لشيء أكبر بكثير.وهكذا، دخل ماحي إلى قرية حافة الرماد، وبدأت رحلته نحو الكمال الذي يسعى إليه، رحلة ستترك خلفها أثرًا من الدماء والدمار والظلام.

2025/04/29 · 41 مشاهدة · 981 كلمة
Abdelmalik
نادي الروايات - 2025