وقبل أن يُجيبَ أبي على سؤالي، نظرَ إليّ بنظرةٍ غريبةٍ، نظرةٍ تحملُ في طيّاتها الغموضَ وتُخفي في ثناياها الأسرارَ، ثمّ قال بصوتٍ رخيمٍ هادئٍ: "لا أعتقدُ أنكَ مستعدٌّ لسماعِ المزيدِ الآنَ يا بُنيَّ. أنتَ ما زلتَ صغيرًا، وعقلُكَ لا يَستطيعُ استيعابَ هذه الأمور."
فقلتُ باندفاعٍ، وقد غلبَ عليّ الحماسُ: "مهلاً مهلاً يا أبتِ! أنا مستعدٌّ، أنا كبيرٌ بما يكفي لسماعِ الحقيقةِ، فأرجوكَ لا تُخفِ عنّي شيئًا."
فضحك أبي ضحكةً خفيفةً، وكان سيُحدّثني، لولا أن قاطعَ حديثَه صوتُ أمي الرقيقُ وهي تنادي علينا من بعيدٍ حتى نأكلَ.
فوضع أبي يده الكبيرةَ على رأسي الصغيرِ، وقال لي مُطمئنًا: "يومًا ما سأُخبركَ بكلِّ شيءٍ بالتأكيد، أمّا الآنَ، فَلْنذهبْ حتى نأكلَ، فقد أعدّتْ لنا والدتكَ طعامًا شهيًّا."
*********
تحت قبةٍ مُرصّعةٍ بنجومٍ من الذهب الخالص، وداخل قاعةٍ تتلألأ جدرانها بالرخام الأبيض المُعرّق بعروقٍ من الزمرد الأخضر، جلس الملك على عرشه المهيب. كان العرش مصنوعاً من خشب الأبنوس اللامع، ومُرصّعاً بقطعٍ ضخمةٍ من الألماس والياقوت التي تُشعّ بريقاً أخّاذًا مع كل حركةٍ طفيفةٍ للملك.
تتدلى من سقف القاعة ثُرياتٌ كريستاليةٌ مُزخرفةٌ، تُلقي بظلالٍ راقصةٍ على سجادةٍ حريريةٍ ناعمةٍ تُغطّي أرضية القاعة. وعلى جانبي العرش، وقف حارسان بلباسٍ رسميٍّ مُزخرفٍ، يحملان رمحين ذهبيين طويلين.
انفتح الباب الضخم المُصنوع من خشب الأرز المُزخرف، ودخل منه رجلٌ بقامَةٍ مُنحنيةٍ، يرتدي ثوباً أسودَ طويلًا. تقدّم بخطواتٍ حذرةٍ نحو العرش، وانحنى بخشوعٍ أمام الملك، ثمّ رفع رأسه قليلًا ونطق بصوتٍ خافتٍ مُرتعشٍ: "مولاي الملك... لقد وجدنا السيد شمهر."
ارتفع الملك عن عرشه فجأةً، وكأنّ صاعقةً قد أصابته. علت وجهه ابتسامةٌ عريضةٌ كشفت عن أسنانه البيضاء المُرتّبة، ونطق بصوت مُزلزلًا أرجاء القاعة، كهدير رعدٍ في سماءٍ صافيةٍ: "أخيرًا... أخيرًا وجدتموه!"
*********
انتهى أبي من تناول عشائه، دفع كرسيه إلى الخلف ببطء، ونهض متثاقلاً. اتجه نحو المغسلة بخطواتٍ ثقيلة، وغسل يديه بعناية وهو يتمتم بكلماتٍ غير مفهومة. التفت إلينا، وقال بصوتٍ أجشّ: "سأذهب للنوم، أشعر بإرهاقٍ شديد... تصبحون على خير".
رددنا أنا وأمي في انسجامٍ كئيب: "وأنت بخير، نوم هنيء."
توجه أبي إلى غرفته بخطواتٍ متثاقلة. دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه بهدوءٍ غريب. نظرتُ إلى أمي، فوجدتها تحدّق في باب الغرفة بشرود، ثمّ التفتت إليّ قائلةً بنبرةٍ حاولت أن تُخفي قلقها: "يا بني، عندما تنتهي من طعامك، اذهب إلى غرفتك وراجع دروسك".
أومأتُ برأسي موافقاً، و لكنّ ذهني كان مشغولاً بحديث أبي الغامض عن بيت أبا سلطان، ولِمَ لم يُكمل قصته؟ ما سرّ هذا البيت؟ و من هو أبو سلطان؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تدور في رأسي كدوامةٍ لا تهدأ.
بعد أن انتهيتُ من تناول الطعام، نهضتُ من على المائدة، واتجهتُ نحو المغسلة. غسلتُ يديّ، ثمّ عدتُ إلى أمي، وقبلتُ رأسها مودعًا. ذهبتُ إلى غرفتي لمراجعة الدروس التي أعطانا إياها الشيخ، لكنّني لم أستطع التركيز. كانت صورةُ بيت أبا سلطان تُسيطر على ذهني، وتُثير في نفسي الفضولَ والخوفَ في آنٍ واحد.
لم أستطع مقاومة فضولي، فقرّرتُ أن ألقي نظرةً على البيت من نافذة غرفتي المُطلة عليه مباشرةً. كان الليلُ قد أسدل ستاره، والظلامُ يلفّ المكانَ بغموضه. حدّقتُ في البيت، أحاولُ أن أُميّز شيئاً في ظلمته الحالكة، وفجأةً... رأيتُه!
كان ظلاً أسودَ يَتحرّكُ ذهاباً و إياباً خلف إحدى نوافذ البيت، كأنّه شبحٌ يَتجولُ في غرفة المهجورة. حاولتُ أن أُركّز نظري لأتبينَ ملامحه، لكنه اختفى فجأةً كأنّه لم يكن.
انتابني رعبٌ شديد، أحسستُ بقشعريرةٍ تسري في جسدي، وكأنَّ يدًا باردةً تلمسُ ظهري. أغلقتُ النافذةَ بسرعةٍ، وأسرعتُ إلى فراشي، أُغطّي رأسي بالغطاء، أرتجفُ خوفًا كعصفورٍ مُبللٍ في ليلةٍ عاصفة. ظللتُ أُصغي بِرعبٍ لِأصواتِ الليلِ المُخيفة، أتخيّلُ ذلك الظلَّ الأسودَ يَزحفُ نحو غرفتي، وأنفاسُهُ البَاردةُ تَخترقُ جُدرانَ البيت. كلُّ صوتٍ خافتٍ كانَ يُثيرُ رُعبِي، حتّى صوتُ دقاتِ قلبي كانَ يَبدو لي كَقرعِ طبولِ الحرب. تمنّيتُ لو أنَّ الشمسَ تُشرقُ سريعًا، لِتُبدّدَ ظُلماتِ الليلِ وَتُطردَ أشباحَ الخوفِ مِن قلبي.
*********
في أعماق ظلام دامس، حيث لا يجرؤ الضوء على اختراق ستائره الكثيفة، وفي مكان تتراقص فيه ظلال الخوف على أنغام الصمت المطبق، وقف رجلٌ طويل القامة، يكسو وجهه وشاحٌ أسود يخفي ملامحه، عدا عينين تلمعان ببريقٍ مخيف كعيون قطٍ بري.
"همسَ بصوتٍ أجشّ، كفحيح أفعى تزحف في الظلام، "إذاً، لقد بدأوا بالتحرك؟" سأل وهو يحدق من خلال نافذة صغيرة، كوة وحيدة في جدارٍ سميك من الحجر.
ردّ عليه صوتٌ خافت من خلفه، يحمل نبرةً من الخضوع والرهبة، "أجل سيدي، كما توقعت."
انفرجت شفتا الرجل عن ابتسامةٍ غامضة، كشفت عن أسنانٍ بيضاء متراصة كصفوف الجنود المستعدين للهجوم. "منذ ذلك الخسوف المشؤوم،" قال بصوتٍ أجشّ، "تحدد مصير العالم الآخر، والعالم الذي نعرفه الآن على شفا الهاوية."
أدار ظهره للنافذة، وخطا ببطء في الظلام، كوحشٍ مفترس يتحرك في عرينه. "لقد حان الوقت لتنفيذ خطتنا،" تمتم، "وسأكون أنا من يكتب نهاية هذه القصة."
ارتفع ضحكةٌ مكتومة من حنجرته، تردد صداها في أرجاء المكان المظلم، كصرخةِ بومةٍ تنذر بالشؤم.
*********
انسلّت خيوط الفجر الخافتة عبر ستائر غرفة الطفل، ترسم لوحةً باهتةً على جدرانها. كان الصغير غارقاً في نومٍ عميق، تنفسُهُ المنتظمُ يملأ سكون الغرفة. فجأةً، ارتعشَ جسدهُ الصغير، وتسارعت أنفاسه، كأنما يصارع كابوساً مرعباً.
وفي تلك اللحظة، لاحَ ظلٌّ غريبٌ من خلف الستائر، يتراقصُ على الجدار كشبحٍ هلاميّ. اقترب الظلّ من الطفل النائم، وامتدّ منه ذراعٌ طويلةٌ، نحيلةٌ، كأنها مصنوعةٌ من دخانٍ أسود. لامستْ يد الظلّ جبين الطفل، فارتجف الصغيرُ أكثر، وغمغم بكلماتٍ غير مفهومة.
همسَ صوتٌ أجشّ، كأنهُ صدىٰ يأتي من أعماقِ بئرٍ مظلمة: "إذاً أنتَ مَنْ كان ينظر إليّ؟". تراجعت يد الظلّ قليلاً، ثمّ عادت لتُربّتَ على رأس الطفل بحركةٍ غريبة، أشبه بلمسةِ عطفٍ باردة. "لا زلتَ طفلاً صغيراً"، تابع الصوتُ الهامس، "عندما تكبر قليلاً، سنمرح كثيراً أنا وأنتَ يا عزيزي".
وانسحب الظلّ كما لو أنهُ لم يكن، تاركاً وراءهُ سكوناً ثقيلاً، وطفلاً يغطّ في نومٍ مضطرب، وعلى جبينهِ بقايا لمسةٍ باردةٍ كأنها قبلةُ شبح.
----------------------------------------------------------------
ان اعجبك الفصل اترك تعليق صغير تشجيعا لي.