**********
في وادٍ سحيق، حيثُ تتراقص ظلالُ الأشجارِ كأرواحٍ مُتعذبة، وتحت سماءٍ مُلبدةٍ بغيومٍ قاتمة، انبثقَ قمرٌ دمويٌّ يلقي بضوئهِ الشاحبِ على مشهدٍ مُرعب. في قلبِ تلكَ العتمة، وقفت امرأةٌ ذاتُ جمالٍ آسر، وشعرٍ أسودَ كَليلِ الظلام، وثوبٍ أبيضَ طالَهُ الدّماء. كانت تقفُ أمامَ جثةٍ هامدة، مُغطاةٍ بِكفنٍ مُمزّق، وكأنّ وحشًا كاسرًا انقضَّ عليها.
بيدٍ ترتجفُ ، أمسكت المرأةُ سيفًا فضيًا مُلطخًا بالدماء، وكانَ مَغروزًا في صدرِ الجثة.
بدأت تسحبُهُ ببطء، وكلُّ حركةٍ تُصدرُ صوتًا مُخيفًا يَمزقُ سكونَ الليل. ومعَ خروجِ السيفِ من الجسدِ تدفّقَ نهرٌ من الدماءِ القانية، وصبغَ الأرضَ بلونِ الموت.
رفعت المرأةُ وجهها نحو القمرِ الدموي، وعيناها تَغرقان في بحرٍ من الدموع. قالت بصوتٍ مخنوقٍ يَقطُرُ حزنًا وغضبًا: "في ذلكَ الوقت، عندما أخبرني أبي أنّكَ مُت، لم أُصدّقه. كذّبتُهُ، وتمسّكتُ بأملِ عودتك. لكن الآن، عندَ رؤيتي لِجثّتكَ..." لم تستطع المرأةُ إكمالَ كلامها.
وانهارت المرأةُ على رُكبتيها، وانفجرت في بكاءٍ مرير، دموعُها تَمتزجُ بِالدماءِ. كانت تُمسّدُ وجهَ الجثةِ بِحنان، وتُردّدُ كلماتٍ غيرَ مفهومة، كأنّها تُحاولُ إيقاظَهُ من سباتِ الموت. لكنّ الجثةَ كانت باردةً صامتة، لا تُجيبُ سوى بِصمتٍ مُرعب.
**********
في ليلة ظلماء، غطى فيها القمر غلالة من الغيوم الكثيفة، أرسل الملك رسولًا إلى قصر رئيس الوزراء. طرق الرسول الباب طرقات خفيفة لكنها تحمل في طياتها إيقاعًا غامضًا. فتح رئيس الوزراء الباب، فوجد نفسه أمام رجلٍ يرتدي عباءة سوداء تخفي ملامحه، لا يظهر منه سوى عينين تلمعان في الظلام.
مدّ الرسول يدًا هزيلة، كأنها خرجت لتوها من قبرٍ قديم، وسلم رئيس الوزراء رسالة ملفوفة بقطعة حريرٍ أسود.
أحسّ رئيس الوزراء بقشعريرة تسري في جسده وهو يقرأ الكلمات المكتوبة بمدادٍ أحمر قاني:
"شمهر... يجب أن تحضره إلى هنا... مملكته تنتظر عودته... مصيرنا مرتبطٌ به."
لم تكن تلك مجرد كلمات، بل كانت تحمل نبرة أمرٍ ملكي لا يقبل الرفض. شعر رئيس الوزراء بثقل المسؤولية على كاهله، فشمهر ليس مجرد شخص عادي، بل هو حكيمٌ أسطوري، يُقال إنه يمتلك قدرات خارقة، اختفى في ظروفٍ غامضة قبل سنوات طويلة.
**********
ظلّت المرأةُ تبكي حتى فجرِ اليومِ التالي، حينَ أشرقت الشمسُ و بدّدت ظُلماتِ الليل. عندها فقط، نهضت و غادرت الوادي، تاركةً خلفها جثةَ حبيبها و سيفًا مُلطخًا بِدماءِ قصةِ حُبٍّ مأساوية. لكنّ ذِكرى تلكَ الليلةِ القرمزيةِ ستظلُّ تُطاردُها إلى الأبد، كَظلٍّ أسودَ لا يَفنى.
**********
استيقظ الطفل فزعاً، قلبه يدقّ بعنف، وعلى جبينهِ قطرات عرقٍ باردة. تطلّع حوله بعينين مُتّسعتين، يحاول استيعاب ما حدث. كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلل من خلال النافذة، تُبدّد ظلمة الليل، وتُلقي بضوءٍ مُطمئنٍ على الغرفة.
تنفّس الصغيرُ الصعداء، مُدركاً أن ما رآهُ الليلة الماضية لم يكن سوى كابوسٍ مزعج. لكنهُ لم يستطعْ أن يُنكرَ الشعورَ الغريبَ الذي ما زال يَعتَصِرُ قلبهُ، كأنّ شيئًا ما قد تغيّرَ فيهِ وفي عالمهِ الصغير.
نهضَ من فراشهِ، واتّجهَ نحو النافذةِ، يُريدُ أنْ يُطمئِنَ نفسهُ بأنّ كلّ شيءٍ على ما يُرام. نظر إلى بيت أبا سلطان، فوجدهُ هادئًا، لا شيءَ يُثيرُ الريبةَ أو الخوف. "ربما كانَ كلّ شيءٍ مجرّدَ خيال" همسَ لنفسهِ مُحاولاً طردَ المخاوفِ التي تُسيطرُ عليه.
لكنهُ لم يَكُنْ يَعلمُ أنّ تلكَ الليلةَ كانتْ بدايةً لسلسلةٍ من الأحداثِ الغريبةِ التي ستُغيّرُ حياتهُ إلى الأبد، وأنّ ذلكَ الظلّ الغامضَ الذي زارهُ في منامهِ، كانَ يُراقبهُ عن كثبٍ، يَنتظرُ اللحظةَ المُناسبةَ لِيَكشفَ لهُ عن أسرارٍ تُهدّدُ مُستقبلَ عالمهِ الصغير.
**********
تسللت خيوط الفجر الخافتة عبر ستائر الغرفة الكثيفة، لتُلقي بظلالها الشاحبة على وجه الرجل الجالس في الظلام. كانت عيناه تلمعان ببريقٍ غريب، كأنهما تعكسان ضوءًا خفيًا لا تدركه حواس البشر. جلسةُ جسده الجامدة، ويداه المتشابكتان بإحكام فوق طاولة خشبية عتيقة، كلها أوحت بهالةٍ من الغموض تلفّ المكان.
ساد الصمتُ الغرفة لبرهةٍ طويلة، لا يُقطعه سوى دقات الساعة المُعلقة على الحائط، والتي بدت كأنها تُعلن مرورَ دقائق ثقيلة، كلٌّ منها يحمل في طياته سرًا جديدًا. فجأةً، ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ باردة، كأنها انعكاسٌ لظلامٍ دامس يسكن روحه. همس بصوتٍ أجشّ، كأنه صدىٰ قادمٌ من عالمٍ آخر: " لقد بدأت اللعبة ".
ترددت كلماته في أرجاء الغرفة الخالية، وتلاشت في ظلالها كأنها شبحٌ عابر. لكنّ وقعها كان ثقيلاً على النفس، كأنها تُنبئ ببدايةِ أحداثٍ غامضة، لا يُمكن التنبؤ بمسارها أو نهايتها.
**********
مرت الأيام والأسابيع، وحاول الطفل نسيان الكابوس المرعب، لكنه لم يستطع التخلص من الشعور بأن هناك عيونًا تراقبه، وأن خطواته تُتبع في كل مكان. بدأ يلاحظ أشياءً غريبة تحدث من حوله؛ ظلالٌ تتحرك في زوايا غرفته ليلاً، همسٌ خافتٌ يسمعه أحيانًا في أذنيه كأنه يناديه باسمه، وألعابٌ تتحرك من مكانها دون سبب واضح.
وفي إحدى الليالي، استيقظ الطفل على صوت طرقٍ خفيفٍ على نافذته. اقترب منها بخطواتٍ مترددة، ورفع الستارة ببطء. رأى على حافة النافذة غرابًا أسودَ كبيرًا، عيناه حمراوان تلمعان في الظلام كجمرتين مشتعلتين. حدّق الغراب فيه بنظرةٍ ثاقبةٍ، ثمّ فتح منقارهُ وأنطق بصوتٍ أجشّ: "لقد حان الوقت".
ارتجف الطفل خوفًا، وتراجع للخلف وهو يصرخ. طار الغرابُ بعيدًا في الظلام، لكنّ صوتهُ بقي يتردد في أذنيه كصدىٰ شؤم. شعر الطفلُ بأنّ شيئًا فظيعًا على وشك الحدوث، وأنّ الكابوس الذي رآهُ سابقًا لم يكن سوى بدايةً لقصةٍ مرعبةٍ ستُلاحقهُ طوال حياته.
في اليوم التالي، قرر الطفلُ أن يخبر والديه بما يحدث معه، لكنّه تردد خوفًا من أن يعتبراهُ مجنونًا أو أن يسخروا منه. وبينما هو يفكر في الأمر، لاحظ وجودَ علامةٍ غريبةٍ على ذراعه، لم تكن موجودةً من قبل. كانت علامةً سوداءَ صغيرةً، تشبه بصمةَ يدٍ بشريةٍ، لكنّها أصغر حجمًا وأكثر برودةً. لمسها الطفلُ بإصبعهِ، فانتابتهُ قشعريرةٌ سرت في جسدهِ كله، وشعرَ بأنّ العلامةَ تُحرِقُ جلدهُ ببرودتها.