**********

تحت سماءٍ ضاربةٍ إلى السواد، حيث تتراقص ظلال الأشجار كأشباحٍ هائمة، وقف رجلٌ أمام بوابةٍ عتيقةٍ ضخمة، أخشابها منحنيةٌ بتقادم السنين، ونقوشها الغريبة تروي حكاياتٍ منسية. رفع الرجل يده المرتجفة، ودقّ على الباب دقاتٍ خفيفة مترددة.

لكن ما حدث بعد ذلك فاق كل تصور!

انطلقت من البوابة موجةٌ عنيفة من الطاقة، كأنها يدٌ خفيةٌ عملاقة، ألقت بالرجل المسكين بعيداً، وألجمت لسانه دهشةً ورعباً. ثم دوى صوتٌ غليظٌ مهيب من خلف الباب، صوتٌ باردٌ كأنه آتٍ من أعماق الأرض: " غادر!"

تجمعت شجاعة الرجل المذعور، فصرخ بصوتٍ مرتعش: "مهلاً أيها السيد شمهر! أحمل رسالةً من جلالة الملك!"

لكن رده لم يكن سوى موجة طاقةٍ أشد عنفاً من الأولى، أطاحت به أرضاً، وتلاها ذلك الصوت المرعب يزيد في غضبه وقوته: " غادر! وأخبر ملكك إن أرسل إليّ أحداً غيرك... قتلته!"

تجمد الدم في عروق الرجل، وتصبب عرقاً بارداً، بينما ارتسمت على وجهه علامات الرعب كلوحةٍ فنيةٍ قاتمة. أراد أن يتكلم، أن يبرر، أن يستعطف، لكنه خشي أن يزيد غضب شمهر فيلقى حتفه في الحال.

**********

انطلقت من حنجرته صرخة مدوية، صرخة مشوبة بهلعٍ لم يألفه والداه من قبل. هبّا مذعورين نحو مصدر الصوت، الأب يصرخ "ولدي! ماذا بك؟" والأم تصرخ باسمه بلهفة، ليجدا فلذة كبدهما يتلوى ألمًا، عيناه جاحظتان، أنفاسه تتلاحق كصهيل حصان جامح، ووجهه الصغير محتقنًا بالدموع. أمسك الأب بيد ولده المرتجفة، وبينما كان يقلبها بين كفيه، لمح علامة غريبة، حمراء اللون، كأنها لدغة حشرة ضخمة، علامةٌ لم يرها من قبل قط!.

"ما هذا يا بني؟ ماذا حدث ليدك؟" سأل الأب بصوتٍ مُرتعشٍ. لكن الطفل، وبين شهقاته المتقطعة، لم يُجب، بل ازدادت صرخاته حدةً، وكأنّما ألمٌ لا يُطاق يعتصر قلبه الصغير. لم يقوَ الأبوان على رؤية طفلهما في هذه الحالة، فحمله الأب بين ذراعيه، وخرج مسرعاً إلى مستوصف القرية، والأم تجري خلفه، قلبها يعتصره القلق.

وصل الأب إلى المستوصف، واندفع إلى الداخل، والطفل ما زال يصرخ بين يديه. استوقفه أحد الأطباء، وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والقلق، وسأله: "ما بال الصغير؟".

فأشارت الأم بيد مرتعشة إلى يد ولدها، التي بدت منتفخة و محمرة، وكأنّ حريقًا قد شبّ فيها. نظر الطبيب إلى اليد الصغيرة، فإذا بها تحمل علامةً غريبةً حمراء اللون، كأنها حرقٌ غائرٌ أو لدغةٌ من حشرةٍ سامةٍ. عندها، ارتسمت على وجه الطبيب ملامح القلق الشديد، وقال بصوتٍ أجش: "هيا بنا إلى غرفة الكشف".

انفتح الباب ببطء، ليكشف عن غرفةٍ بيضاءَ ناصعةِ البياض، باردةٍ كالصقيع. دلف الأب بخطىً ثقيلة، حاملاً بين ذراعيه طفله الصغير الذي يتلوّى بين يديه من شدة الألم. وكانت تتبعه الأم، وقد شحب لون وجهها، وعيناها غارقتان في بحرٍ من الدموع، قلبها يعتصره الخوف على فلذة كبدها. أغلقت الممرضة الباب بهدوء خلفهم، كأنما تُسدل الستار على مسرحيةٍ مجهولة المصير.

أشار الطبيبُ إلى سريرِ الكشفِ المعدنيِّ البارد، قائلاً: "ضعوه هنا، وأخبراني بما جرى."

وضع الأبُ الطفلَ الصغيرَ على السريرِ، وبدأ يُقلِّبُ كفَّيهِ يمينًا ويسارًا وهو يقول بصوتٍ متهدِّجٍ يكادُ ينقطعُ من شدةِ الخوفِ: "لا نعلمُ يا دكتور! استيقظنا هذا الصباحِ على صراخهِ، وعندما دخلنا غرفتَهُ وجدناهُ على هذه الحال! لم نلحظْ أيَّ شيءٍ غريبٍ البارحةَ، لقد كان يلعبُ ويضحكُ كعادتِهِ."

التفتَ الطبيبُ إلى الأمِّ، وسألها بنبرةٍ هادئةٍ: "هل لاحظتِ أيَّ تغيُّرٍ في سلوكِهِ مؤخرًا؟ هل اشتكى من أيِّ ألمٍ أو حكةٍ؟ هل لمسَ شيئًا غيرَ مألوفٍ؟"

هزَّت الأمُّ رأسَها نفيًا، وقالت بصوتٍ مُختنقٍ بالعبراتِ: "لا يا دكتور، لم ألحظْ شيئًا على الإطلاق. لقد كانَ طبيعيًّا تمامًا."

أخذ الطبيبُ يُفحصُ يدَ الطفلِ الصغيرةَ بدقةٍ متناهيةٍ، يقلبُها بين يديهِ، يتحسسُها برفقٍ، يُدققُ النظرَ في كلِّ شبرٍ منها، وكأنهُ يُريدُ فكَّ طلاسمِ لغزٍ مُعقدٍ. ولكن ما إنْ وضعَ أصابعَهُ على مكانِ الإصابةِ، حتى ساد صمتٌ مُطبقٌ الغرفةَ، وتجمد الجميع في أماكنهم، الأبُ والأمُّ والطبيبُ، وكأنّ الزمن قد توقفَ فجأةً!.

**********

لكن فجأة...

كما لو أنَّ خيطًا خفيًا قد قُطع، اختفى ذلك الضغطُ الهائلُ، ومعهُ اختفى إحساسُ الرجلِ بوجودِ شمهر. تعجب الرجلُ وصرخ بصوتٍ عالٍ يخالطهُ خوفٌ من الموتِ ومن الصمتِ الذي يليه: "سيد شمهر..."

لكن لم يجبهُ أحد.

"مهلاً، هل غادر؟" تساءل في نفسه، وقد بدأ الشكُّ يتسللُ إلى قلبهِ كأفعىً سامة. هل كان كلُّ ما حدثَ مجردَ وهمٍ؟ أم أنَّ شمهرَ يختبرُهُ بطريقةٍ ما؟

ظلَّ الرجلُ واقفًا أمام البوابةِ، يترقبُ أيَّ حركةٍ أو صوت، لكنَّ الصمتَ كانَ سيدَ الموقف. الصمتُ، والظلالُ الراقصةُ، ونقوشُ البوابةِ التي تبدو كأنها تراقبُهُ بعيونٍ خفية.

2024/11/29 · 7 مشاهدة · 671 كلمة
Maher
نادي الروايات - 2025