**********

في أعماق ذلك المستوصف القديم، حيثُ تَعبقُ رائحةُ الأدوية القديمة والمطهرات اللاذعة، وتَمتزجُ أنينُ المرضى بصرخاتِ الألم المُفزعة، دخل رجلٌ عجوزٌ بهيبةٍ تُثيرُ الرهبةَ في النفوس. بيدهِ اليُمنى، كان يُمسكُ عصا خشبيةً منحوتةً بزخارفَ غريبةٍ تُشبهُ رموزًا سحريةً قديمة، بينما تُسرحُ أصابعُ يدهِ اليُسرى لحيةً بيضاءَ كثيفةً، كأنها سحبٌ من الثلجِ النقيّ هبطت من السماء. خطا الرجلُ بخطواتٍ بطيئةٍ وثابتةٍ، مُتجهًا نحو غرفةٍ ينبعثُ منها ضجيجٌ مُقلقٌ يُنذرُ بشيءٍ غيرِ طبيعيّ.

كان بابُ الغرفةِ مُغلقًا بإحكام، لكنَّ حواسَّ العجوزِ المُرهفةَ استطاعت سماعَ صرخاتِ طفلٍ مُتألمٍ تُمزقُ نياطَ القلوب، وهمسَ طبيبٍ مُرتبكٍ تُخالطهُ نبرةُ العجز، وجلبةَ أبوينِ مُذعورينِ تائهينِ في بحرِ الخوفِ والقلق. توقفَ العجوزُ أمام الباب، و همسَ بصوتٍ خافتٍ كحفيفِ الأوراقِ في مهبِّ الريح: "إذاً، فقد كانت تلك الطاقةُ المشؤومةُ تنبعثُ من هنا!، يا له من تهوّرٍ لا يُغتفر!".

بيدهِ العظميةِ المُجعّدةِ التي شهدتْ على مرورِ الزمنِ وتقلباتهِ، أمسكَ بمقبضِ البابِ الباردِ. في تلك اللحظةِ الحاسمةِ، تجمدَ كلُّ شيءٍ كأنما أُصيبَ بسحرٍ غريب. توقفت عقاربُ الساعةِ عند تلك الثانيةِ المشؤومةِ، وتصلّبت ملامحُ الوجوهِ على تعابيرِ الرعبِ والذهول، وعلقَ صوتُ الصرخاتِ في الهواءِ كأنما حُبسَ في قفصٍ زجاجيّ. حتى غبارُ الغرفةِ الذي كان يرقصُ في أشعةِ الشمسِ الخافتةِ توقفَ عن الحركةِ، مُضيفًا إلى المشهدِ سكونًا غريبًا مُرعبًا.

ارتسمت على شفتي الشيخ ابتسامةٌ خفيّةٌ تُوحي بمعرفةٍ عميقةٍ بأمورٍ خفيّةٍ عن الأنظار، وقال بصوتٍ هامسٍ يحمل نبرةً من السخريةِ المُرّةِ: "لم أكن أعتقد أنهم سيُقدمون على خطوةٍ كهذه... أن يُعطوكَ هذا الشيء الخطير أيها النسل المباشر! يالهم من حمقى!".

فتحَ البابَ ببطءٍ مُتعمدٍ، كأنما يُريدُ أنْ يُطيلَ لحظةَ الترقبِ والتوتر، ودخلَ الغرفةَ متجاهلاً أولئك الذين حُبسوا في لحظةٍ زمنيةٍ مُعلّقةٍ بين الماضي والحاضر. ومشى مُباشرةً نحو الطفلِ المُعلقِ في صرختهِ الأبديةِ، ذلك الصغيرُ البريءُ الذي وقعَ ضحيةً لأطماعِ الكبارِ وجهلهم. نظرَ إليهِ نظرةً عميقةً ثاقبةً كأنها تخترقُ روحَهُ الصغيرةَ وتُقرأُ أسرارها، ثم قال بصوتٍ هادئٍ لكنه يحملُ في طياتهِ قوةً غامضةً: "كما هو مُتوقع، لم تؤثر قوتي على النسلِ المباشر!."

التفتَ العجوزُ نحو الوالدينِ المُجمدينِ، وقال بصوتٍ حادٍّ كحدِّ السيفِ: "أعلمُ أنَّ أحدكما يسمعني، لا أعلمُ من، لكن عندما يحينُ الوقتُ، سأعرفُ من هو! سأعرفُ مَنْ خانَ العهدَ، ومَنْ فتحَ البابَ أمامَ قوى الظلام!".

عاد بنظرهِ الثاقبِ إلى الطفلِ المُلقى على السرير، كزهرةٍ ذابلةٍ سقطت من غصنها، واقتربَ منه بخطواتٍ حذرةٍ كقطٍ يتسللُ في الظلامِ مُتربصًا بفريستهِ. كان الطفلُ يصرخُ بصوتٍ مُمزقٍ للقلبِ، كأنَّهُ يُعاني من عذابٍ لا يُطاق، عذابٌ لا يستطيعُ أحدٌ فهمهُ أو تخيلهُ. وضعَ العجوزُ يدهُ المُجعّدةَ، التي بدا عليها وطأةُ السنينِ وعبءُ الحكمةِ القديمةِ، على رأسِ الطفلِ الصغير، وبدأ يتمتمُ بكلماتٍ غريبةٍ غير مفهومةٍ، كأنها تعويذةٌ سحريةٌ مُقتبسةٌ من عالمٍ آخر، عالمٍ يسكنهُ السحرُ والغموض. ثمَّ مسحَ على وجهِ الطفلِ بيدهِ الأخرى، فهدأت صرخاتُهُ المُريعةُ شيئًا فشيًا، وسكنت جوارحهُ المُضطربةُ وغطَّ في نومٍ عميقٍ.

أمسك بيد الطفل الصغيرة، تلك اليد التي بدت كزهرةٍ ذابلةٍ في مهبِّ ريحٍ عاتيةٍ، بنعومةٍ غريبةٍ لا تتناسب مع ملامحه القاسيةِ وصوتهِ الحادّ.

"لا أفهم ..." همس بصوتٍ أجشَّ، كأنه صدىٰ يتردد في كهفٍ موحشٍ، "لِمَ سمحتمَا له أن يُدنِّس براءةَ هذا الصغير بهذا الشيء الملعون؟ كيف استطاع قلباكما أنْ يرضى بهذا؟" توقف برهةً، وعيناه تتأرجحان بين الوالدين المتجمدين، كأنهما تمثالان نحتا من صقيع الزمن، ثمَّ تابع بصوتٍ مُحمَّلٍ بالعتاب والحسرة: "ولِمَ لم تُحاولا ختمَه قبل فوات الأوان؟ هل نسيتمَا عهدَ أجدادنا القدماء؟".

ساد الصمتُ الغرفةَ من جديد، صمتٌ مُطبقٌ لا يُقطعه شيءٌ سوى أنفاسِ الطفلِ الهادئةِ وهو نائمٌ في أحضانِ العجوزِ الغامض. وفي حركةٍ مفاجئةٍ كأنها ومضة برقٍ في ليلٍ حالكٍ، أشعل العجوزُ أصبعه بلهيبٍ أزرقَ غريبٍ، لهيبٍ كأنه نُزع من قلب نجمٍ ساقطٍ من السماء. وبدأ يخطُّ بحركةٍ سريعةٍ ودقيقةٍ كلمة "ختم" على تلك العلامة الغامضةِ.

وما إن انتهى من ختمهِ، حتى التفت إلى الوالدين، ونظراته الثاقبة تخترق جمودهم كأنها سهامٌ من نار، و صوته يجلجل في أرجاء الغرفة كصوت الرعدِ في ليلةٍ عاصفةٍ: "بهذا الختم، قد أوقفتُ شرّ هذه اللعنة مؤقتًا، ومنعتها من التهام روحه الطاهرة. لكن عليكما أن تتحركا، فلا ختم يدوم إلى الأبد! مصيرُ ابنكما بين أيديكما، فإن لم تُسارعا لإنقاذهُ، وتبحثا عن طريقةٍ لكسرِ هذه اللعنةِ، فسيهلك لا محالة!".

ترك العجوزُ يدَ الطفلِ بعدَ أنْ أنهى حديثَهُ المُزلزلَ، واستدارَ ببطءٍ مهيبٍ كأنهُ ملكٌ يُغادرُ مملكتهِ. سارَ نحوَ بابِ الغرفةِ ليُغادرَ، وقبلَ أنْ يفتحَهُ التفتَ مرةً أخرى إلى الطفلِ قائلاً بنبرةٍ مشحونةٍ بالغموضِ والوعيدِ: "سنلتقي مَرةً أخرى يا عُمر...".

فتحَ البابَ وغادرَ الغرفةَ. وما إنْ أُغلقَ البابُ خلفَهُ حتى عادَ كلُّ شيءٍ إلى ما كانَ عليه، وكأنَّ الزمنَ قد استأنفَ جريانهُ بعدَ توقفٍ طويلٍ. فُكَّ قيد الجميع، وعادت الحياةُ إلى الغرفةِ من جديدٍ.

**********

تحتَ ظلالِ شجرةٍ عتيقة، باسقةٍ تُلامسُ قمتُها عنانَ السماء، جلس رسولُ الملكِ في ترقّبٍ مهيب، ينتظرُ بفارغِ الصبر عودةَ "شمهر". كانت أوراقُ الشجرةِ تتراقصُ مع نسماتِ الهواءِ العليلة، تُصدرُ حفيفًا خافتًا كأنّها تهمسُ بأسرارٍ غامضةٍ لا تُدركُها إلا آذانُ الجنِّ، أو تُناغي أرواحَ الغابةِ الساكنةَ في أغصانِها المُعَمَّرة.

و فجأةً، شقّ سكونُ المكان بصوتٍ أجشّ، كفحيحِ أفعىً تَسْعى في جُحرِها المظلم، ينبعثُ من خلفِ جذعِ الشجرةِ الضخم، جذعٍ تَحْفُرُ الزّمنُ عليه خطوطَ تاريخٍ مجهول. تَردّدَ الصّوتُ في الأجواءِ كأنّه صدىً يَتَرَدّدُ في وادٍ سحيق: "أنتَ أيّها الرّسول!".

تجمّدَ الدمُ في عروقِ الرجلِ، وتسارعت دقاتُ قلبِه كطبولِ الحربِ تُنذرُ بمعركةٍ وشيكة، فأجابَ بصوتٍ مرتجفٍ يكادُ يُسمعُ وسطَ صمتِ الغابةِ الخانقِ: "نعم... نعم سيّدي."

تقدّمَ الصّوتُ من خلفِ الشجرةِ، كأنّه شبحٌ يتجسّدُ في الظلامِ، أو كيانٌ سحريٌّ يَخْرُجُ من عُتمةِ العدم، وقالَ بنبرةٍ آمرةٍ تحملُ في طيّاتِها تهديدًا مُبطّنًا يَقْطَعُ أنفاسَ الرّسولِ: "إذهبْ إلى ملكِك، وأبلغْهُ رسالتي هذه: عندما تُزهرُ شجرةُ اللّوزِ التي فوقَ جبالِ القمرِ، ويتحوّلُ القمرُ إلى اللّونِ الدّمويّ، سآتي...".

تَعلّقَ الرّسولُ بهذه الكلماتِ كغريقٍ يتعلّقُ بقشّة، يحاولُ أنْ يَسْتَشفَّ منها معنىً أو تلميحًا لِمَا يَخفيهِ هذا الكائنُ الغامض. لكنّ الصّمتَ عادَ يَلُفُّ المكانَ من جديد، صمتٌ مخيفٌ يزيدُ من غموضِ الموقفِ ويُثيرُ الرّعبَ في قلبِ الرّسول. ثمّ عادَ الصّوتُ ليقولَ بحِدّةٍ تُشبهُ طعناتِ الخناجرِ: "غادرْ الآن!".

لم يَكُنْ من الرّسولِ إلا أنْ ردّ بخضوعٍ تامّ: "حاضر!". فقد أدركَ في قرارةِ نفسِهِ أنّه إنْ خالفَ أمرَ هذا الكائنِ الغامض، فإنّ مصيرَهُ سيكونُ الهلاكَ المحتوم. فقد شعرَ بقوّةٍ خفيّةٍ تُحيطُ بهِ، كأنّها براثنُ شبحٍ جبّارٍ تُهدّدهُ بالفناء.

غادرَ الرّسولُ المكانَ مُسرعًا، تُطاردهُ كلماتُ ذلك الصّوتِ المُرعبِ، وتُخيّمُ على قلبِهِ ظلالٌ من الخوفِ والرّيبةِ. ظلّ يُلقي بِنَظَراتٍ خائفةٍ خلفَهُ، يتوقّعُ أنْ يَرى ذلك الكائنَ الغامضَ يَظْهَرُ لهُ من بينِ الأشجارِ، أو أنْ تَخْطَفَهُ أيديٌ خفيّةٌ إلى عالمِ الظّلامِ.

**********

2024/12/03 · 27 مشاهدة · 1003 كلمة
Maher
نادي الروايات - 2025