**********
فُكّ قيد الزمن أخيرًا، وعادت الحياة إلى الغرفة من جديد. شهقت الأمّ بصوتٍ مكتوم، كأنّما استيقظت من كابوسٍ مُرعب، وارتجفت يداها كعصفورٍ مذعور. نظرت إلى طفلها الهادئ، المُستلقي على سرير الكشف المعدنيّ البارد، ثمّ إلى زوجها الواقف إلى جوارها، وعيناها مليئتان بالرعب والذهول. "ماذا... ماذا حدث؟" همست بصوتٍ مرتجفٍ، كأنّما تخشى أن يُكسِرَ صوتُها سحرَ تلك اللحظةِ الغريبة.
التفت الأب نحوها، وقد ارتسمت على وجهه ملامحُ الحيرةِ والقلق. كانت ذاكرته مشوّشة، كأنّما سُحِبَت منه لحظاتٌ ثمينةٌ من حياته. "لا أعلم..." أجاب بصوتٍ خافتٍ، "أشعر كأنّني كنتُ غائبًا عن الوعي للحظةٍ... للحظةٍ طويلةٍ."
أخذ يُقلّبُ ناظريه في الغرفة، مُحاولاً استعادةَ خيوطِ ذاكرتهِ المُتقطّعة. كانت الغرفةُ بيضاءَ ناصعةً، باردةً كالصقيع، تفوحُ منها رائحةُ المُطهّراتِ القويةِ، وتُضفي عليها حالةً من الكآبة. لاحظَ وجودَ الطبيبِ، الذي كان يقفُ إلى جانبِ السريرِ، يُراقبُ "عمر" بنظراتٍ مُتحيرة. كان الطفلُ هادئًا، نائمًا كالملاك، وقد اختفت علاماتُ الألمِ عن وجههِ الصغير.
تقدم الطبيب ببطءٍ نحو الزوجين، وعلى وجهه ابتسامةٌ خفيفةٌ "لا داعي للقلق،" قال بصوتٍ هادئٍ مطمئن، "هو الآن بخير."
ساد الصمت الغرفة لبرهة، ثمّ تابع الطبيب حديثه، "لكنّ هناك أمرًا غريبًا... " توقف قليلاً، وكأنه يُرتب كلماته، "لقد اختفت العلامة الحمراء من على ذراعه."
تبادل الزوجان نظراتٍ مليئةً بالدهشةِ والريبة. "العلامة الحمراء؟" كررت الأمّ بصوتٍ مُرتعش، "هل تقصد تلك العلامة الغريبة التي..."
قاطعها الطبيب، "أجل، أعرف ما تقصدين. لقد فحصتُها بنفسي قبل قليل، وكانت تبدو كأنها نوعٌ من الحروق. لكنها الآن... لقد اختفت تمامًا، وكأنها لم تكن موجودةً أصلًا."
لكنّ الأب لم يقتنع، فقد بدا عليه القلقُ وعدم التصديق، "لكن... تلك العلامةُ!" صاح مشيراً إلى يدِ عمرَ الصغيرةِ، "لقد كانت هنا! أراها الآن في ذهني! وكيف... كيف عاد إلى وعيهِ هكذا فجأةً بعد أن كاد يلفظُ أنفاسهُ الأخيرة؟"
هزّ الطبيب رأسه، وقال بصوتٍ هادئٍ "لا أملكُ تفسيرًا لذلك. كلُ ما أعرفهُ هو أنَّ عمرَ بخيرٌ الآن، وأنَّ العلامةَ قد اختفت. ربما كان الأمرُ كلهُ مجردَ خطأٍ في التشخيص، أو... أو ربما هناكَ تفسيرٌ آخر لا نعرفهُ بعد."
لم يقتنع الأبوان بكلام الطبيب، لكنهما شعرا ببعض الراحة لرؤية عمر هادئاً. حملت الأم طفلها بين ذراعيها، وضمّته إلى صدرها بحنان، كأنّما تخشى أن يختفي من بين يديها.
اقتربت الأم من طفلها، ومسّت جبينه بحنان. كان وجههُ هادئًا، وكأنهُ لم يُعاني من أيّ ألم. "عمر..." همست باسمهِ، "حبيبي، هل أنت بخير؟"
فتح عمر عينيه ببطء، ونظر إلى والديه بنظراتٍ بريئة. "أنا بخير يا أمي،" قال بصوتٍ طفوليٍّ ناعم، "لقد رأيتُ حلمًا جميلاً."
ابتسمت الأمّ واحتضنت طفلها بقوة. "الحمد لله،" قالت بصوتٍ مُختنقٍ بالدموع، "لقد كدتُ أفقدك."
نظر الأب إلى الطبيب، وسأله بصوتٍ جادّ، "هل أنت متأكد من أنه بخير؟ هل هناك أيّ شيءٍ يجب أن نفعله؟"
أجاب الطبيب بابتسامةٍ مطمئنة، "لا أعتقد ذلك. يبدو أنّ عمر قد تعافى تمامًا. سأُجري عليه بعض الفحوصات للتأكد، ولكن لا داعي للقلق."
بعد انتهاءِ الطبيبِ من فحصهِ الكاملِ، قال: "بناءً على نتيجةِ الفحصِ، فهو بخيرٌ الآن، وليس هناك حاجةٌ لبقائكم هنا. يمكنكم المغادرة."
أكد الأبُ على الطبيبِ سؤالهُ، لكنّ الطبيبَ أكّد لهُ أنّ عمرَ بخيرٌ الآن، وهو بصحةٍ جيدةٍ.
تنفّس الأب الصعداء، وشعر بثقلٍ ينزاح عن صدره. لقد عاد ابنهُ إليه، وكان هذا هي أهمّ شيءٍ في الدنيا بالنسبة إليه.
وفيما كانوا يغادرون المستوصفَ، لاحظ الأبُ وجودَ غرابٍ أسودَ كبيرٍ يقفُ على شجرةٍ قبالةَ البابِ. حدّق الغرابُ فيه بعينين لامعتين ثاقبتين، كأنّهُ يُرسلُ رسالةً غامضةً. ثمّ طار مُحلّقًا في السماءِ مُطلقًا صوتًا غريبًا مُخيفًا. شعر الأبُ بقشعريرةٍ تسري في جسدهِ، وعادت إليه ذكرياتٌ مُرعبةٌ مُفككةٌ، كأنّها شظايا حلمٍ قديم. تذكر العجوزَ الغامضَ ذو الرداءِ الأسودِ، والختمَ الناريَّ الذي رآهُ في رؤياهُ، والأصواتِ التي همست باسمهِ في الظلامِ.
**********
تحت سماءٍ حالكة، وعلى قمة جبلٍ شامخٍ، حيثُ الرياحُ تعوي كذئابٍ جائعة، وقف رجلٌ غامضُ الهيئة. تُخفي عباءتهُ المُتهرئة ملامحَهُ، فلا يُرى منه سوى عينينِ تلمعانِ كجمرتين في ليلةٍ قارسة. أمامَهُ، وعلى حافةِ الهاوية، تَشرئبُ شجرةُ لوزٍ معمرةٌ نحو السماء، أغصانُها العاريةُ تَتراقصُ في مهبِّ الريح كأذرعِ مُتوسِّلة. رفع الرجلُ يدهُ المُجعدةَ نحو الشجرةِ، وكأنما يُباركُها، وهمس بصوتٍ أجشَّ يحملُ في طياتهِ صدى آلاف السنين: "آنَ أوانُ الإثمارِ يا شجرةَ الأسرار". بدت كلماتُهُ تترددُ في الأجواءِ كأنها تعويذةٌ سحريةٌ، وتَسللَت إلى قلبِ الشجرةِ لتُوقظَ فيها قوةً خفيةً.
**********
غادروا المستوصف مسرعين، وكأنهم يهربون من مكانٍ يحمل ذكريات مؤلمة. خرجوا إلى الشارع، حيث كانت الشمس قد بدأت تغيب، وتلون السماء بألوان الشفق الدافئة. كانت الأم تحتضن عمر بقوة، تُقبّله بين الحين والآخر، وكأنها تتأكد من أنه حقيقة وليس حلماً. أما الأب فكان يمشي بجوارهما، وعيناه تحملان نظرة تساؤل عميق، وقلبه يخفق بقوة.
كان الطريق إلى المنزل قصيراً، لكنه بدا طويلاً ومليئاً بالصمت. كان كلٌّ غارقاً في أفكاره. الأم تفكر في عودة ابنها المعجزة، والأب يحاول فهم ما حدث، بينما عمر كان ينظر حوله بعينين بريئتين، وكأنه لم يدرك حجم ما مر به.
عندما وصلوا إلى المنزل، كان الظلام قد بدأ يخيم على المدينة. كانت الأجواء تبدو هادئة، لكنّ الأب لم يستطع التخلص من شعورٍ غريبٍ بالانزعاج. دخلوا المنزل بحذر، وكأنهم يتوقعون شيئاً ما. حملت الأم عمر إلى سريره في غرفته، وضعته بلطف وغطته جيداً. قبلته على جبينه وهمست له بكلماتٍ مطمئنة، ثم خرجت بهدوء لتلحق بزوجها في غرفة المعيشة.
كان الأب واقفاً بجوار النافذة، ينظر إلى الخارج بشرود. كانت ملامحه قلقة، وعيناه تحملان نظرة تساؤل عميق.
"ماذا حدث يا حبيبي؟" سألته الأم بصوتٍ هادئ وهي تقترب منه.
التفت إليها الأب، ونظر إليها بعينين تحملان مزيجاً من الحيرة والخوف. "لا أعرف يا عزيزتي،" أجاب بصوتٍ خافت، "لكنني أشعر أن ما حدث لعمر ليس طبيعياً. تلك العلامة، واختفائها المفاجئ، وشفاؤه... كل شيء يبدو غريباً."
جلست الأم بجواره على الأريكة، وأمسكت بيده تربت عليها بحنان. "أهم شيء أنه بخير الآن يا زوجي."
حاول الأب أن يبتسم لطمأنة زوجته، لكنّ القلق كان ما زال يسيطر عليه. لم يستطع أن ينسى تلك العلامة الحمراء، ولا السرعة التي اختفت بها. كان يشعر أن هناك شيئاً ما لم يُكشف بعد، وأن ما حدث لابنه ما هو إلا بداية لأمرٍ ما.
**********
عاد الرسول إلى القصر بخطواتٍ مُثقلة بالخوف، ترسم على وجهه آثار الرعب الذي عاشه. دخل القاعة الكبرى حيث ينتظر الملك، فوجدها كما تركها، العرش شامخًا، الثريات متلألئة، والحرس واقفين كالتماثيل. توجّه إلى الملك وانحنى أمامه باحترامٍ مصحوب برعشةٍ خفيفة، ثم بدأ يسرد ما حدث بصوتٍ متقطعٍ يكادُ لا يُسمع في بعض الأحيان:
"مولاي الملك... لقد وجدته... كنت جالس تحت شجرةٍ عتيقةٍ في أعماق الغابة. فجأة ظهر صوتٌ... صوتٌ أجشٌّ مُرعب... لم أرَ صاحبه، لكن كلماته... كلماته كانت واضحةً كوقع الصاعقة."
توقف الرسول ليلتقط أنفاسه، وعيناه تتّسعان برعبٍ يتجدد مع كل تذكّر للموقف. نظر إليه الملكُ بتركيزٍ شديدٍ، وعلاماتُ الجديةِ والقلقِ بدأت تظهر على وجهه.
"تكلم! ماذا قال؟" سأل الملكُ بنبرةٍ آمرةٍ.
استجمع الرسولُ شجاعتهُ المتبقية ونطق بالرسالة كما سمعها: "قال... عندما تُزهرُ شجرةُ اللّوزِ التي فوقَ جبالِ القمرِ، ويتحوّلُ القمرُ إلى اللّونِ الدّمويّ، سأتي..."
ساد صمتٌ رهيبٌ القاعةَ بعد انتهاء الرسول من كلامه. نظر الملكُ إلى الأعلى، وكأنه يتفحّص نجوم السقف بحثًا عن إجابة. ثمّ نزل ببصره إلى الرسول وقال بصوتٍ هادئٍ ولكنه حازم:
"شجرةُ اللوزِ فوقَ جبالِ القمرِ... والقمرُ الدّمويّ... فهمتُ الرسالة."
تغيّرَتْ ملامحُ الملكِ فجأةً، وتحوّلت الابتسامةُ التي كانت على وجهه إلى نظرةٍ جادةٍ مليئةٍ بالعزم. نهض من عرشه وأصدر أوامره:
"استدعوا قائدَ الحرسِ الملكيِّ فورًا! وأخبروا المنجمينَ بالتوجّهِ إلى برجِ المراقبةِ لدراسةِ حركةِ القمرِ. أريدُ تقريرًا مُفصّلاً عن تاريخِ ازدهارِ شجرةِ اللوزِ على جبالِ القمرِ، ومتى يُتوقّعُ أن يتحوّل القمرُ إلى اللّونِ الدّمويّ."
**********
في غياهب ظلامٍ حالك، حيثُ لا يجرؤ الضوء على اختراق ستائره الكثيفة، وفي رُكنٍ قصيٍّ تتراقص فيه ظلالُ الخوف على إيقاعِ صمتٍ مطبق، جلس رجلٌ على كرسيّ مُتهالك، أمسك بيدهِ ريشةً منقوشةً بزخارفَ غريبة، وبدأ يخطُّ على طاولةٍ عتيقةٍ كلماتٍ تتراقصُ كأنها شُرَرٌ تندلعُ من نارٍ خفيّة. كان يبدو أنه يُؤلِّفُ روايةً جديدة، روايةً تُشبهُ ذلك الظلام الذي يُحيطُ به.
همسَ بصوتٍ أجش، كفحيحِ أفعىً تزحفُ في جُحرٍ مظلم: "ماذا؟ ألم يُعجبكَ ذلك؟" سألَ وهو لا يزالُ يُخطُّ تلكَ الكلماتِ الغامضة.
سادَ صمتٌ ثقيلٌ بعدَ سؤالهِ المُبهم، فمَن عساهُ يكونُ مُخاطَبُهُ في هذا المَكانِ المُوحش؟ وفجأةً، كأنما استُدعيَ من عالمٍ آخر، نطقَ الرجلُ قائلاً: "ألم يُعجبكَ ما أقومُ بإعادةِ صياغتهِ أيُّها الكاتب؟" تردّدَ صدى كلماتهِ في أرجاءِ الغرفةِ المُظلمة،
**********
-------------------------
قيم الفصل من 10