**********
لم يمض وقت طويل حتى حضر قائد الحرس الملكي، وهو فارسٌ ذو هيبةٍ وقامةٍ شامخة، يرتدي درعًا مصقولًا يعكس ضوء الثريات. انحنى القائدُ أمام الملك في احترامٍ تام، منتظرًا التعليمات.
"يا قائد الحرس،" بدأ الملكُ بنبرةٍ جادة، "أرسلْ على الفور وحدةً من نخبةِ جنودِنا لحراسةِ شجرةِ اللوزِ على جبالِ القمر. ضعْ حراسةً مشددةً حولَ الشجرةِ، ولا تسمحْ لأيِّ كائنٍ بالاقترابِ منها. ليكنْ جنودُكَ على أهبةِ الاستعدادِ لأيِّ طارئ."
أجاب القائدُ بإيجازٍ وحزم: "أمرُكَ مولايَ الملك. سينفذُ الأمرُ على الفور." ثم انحنى مرةً أخرى وغادر القاعةَ بخطواتٍ واثقةٍ لتنفيذِ المهمةِ المُوكلةِ إليه.
في هذه الأثناء، امتثلت مجموعةُ العلماءِ للأمرِ الملكيِّ وتوجهتْ مسرعةً إلى برجِ المراقبةِ الفلكيِّ. كان البرجُ بناءً شاهقًا يعلو القصرَ، مزودًا بأحدثِ الأدواتِ الفلكيةِ. بدء العلماءُ على الفورِ في دراسةِ حركةِ القمرِ بدقةٍ متناهيةٍ، مستخدمين المناظيرَ الفلكيةَ والخرائطَ السماويةَ القديمةَ. كانوا يُسجِّلونَ ملاحظاتِهم بدقةٍ على أوراقِ البرديِّ، مُحاولينَ فهمَ العلاقةِ بينَ حركةِ القمرِ وازدهارِ شجرةِ اللوزِ الأسطوريةِ. كان الجوُّ في البرجِ يسودهُ التوترُ والتركيزُ الشديدُ، حيثُ كانَ الجميعُ يُدركُ أهميةَ هذهِ المهمةِ في تحديدِ مصيرِ المملكةِ.
بينما كان العلماءُ منهمكينَ في دراساتِهم، عاد الملكُ إلى عرشهِ وجلسَ عليهِ وهو شاردُ الذهنِ. كان يُفكرُ في معنى الرسالةِ الغامضةِ، ويُحاولُ فهمَ الرابطِ بينَ شجرةِ اللوزِ والقمرِ الدمويِّ. كان يعلمُ أنَّ هذهِ ليستْ مجردَ نبوءةٍ عابرةٍ، بل هي نذيرُ شؤمٍ يُهددُ مملكتهُ.
**********
من الظلالِ المُحيطةِ بالطاولةِ، بدأَ شكلٌ بشريٌّ بالتبلورِ شيئًا فشيئًا، وكأنهُ يخرجُ من العدم. لم يكنْ واضحَ الملامحِ تمامًا، بل كانَ أشبهَ بطيفٍ يتحرّكُ في الظلام. وأجبتُ بصوتٍ مُنخفضٍ ولكنهُ حازم: "لا، لم يُعجبني. " ثم اضفت قائلا : "أنتَ تعلمُ أنَّ ما تفعلُهُ غيرُ صحيح. أليسَ كذلكَ يا جيسي؟"
ابتسمَ جيسي ابتسامةً باردةً، كشفت عن أسنانٍ حادّةٍ تُشبهُ أنيابَ الذئب. لم يكنْ في ابتسامتهِ أيُّ أثرٍ للودّ أو التعاطف. قالَ بصوتٍ هادئٍ ولكنهُ يحملُ في طيّاتهِ تهديدًا مبطنًا: "بل أنا أقومُ بعملٍ رائعٍ أكثرَ منكَ يا كاتبي. أنتَ تُسطّرُ الكلماتِ على الورق، بينما أنا أُعيدُ كتابةَ التاريخِ بدماءِ أعدائي. فقط شاهدني وأنا أُدمّرُ مَن دمّرَ عائلتي."
ألقى جيسي نظرةً خاطفةً على الكتابةِ على الطاولة، ثمّ أضافَ بنبرةٍ ساخرة: "أنتَ تكتبُ عن الخيال، بينما أنا أعيشُ الحقيقةَ المُرة. أيُّنا إذًا الكاتبُ الحقيقي؟" ثمّ التفتَ إلى النافذةِ الصغيرةِ المُطلّةِ على الظلامِ الدامس، وكأنهُ يبحثُ عن شيءٍ بعيد. "قريبًا، ستُزهرُ شجرةُ اللوزِ، وسيتحوّلُ القمرُ إلى اللّونِ الدّمويّ. عندها، ستبدأُ فصولُ روايتي الحقيقية."
سادَ صمتٌ مُطبقٌ بينَ الرجلينِ، لا يقطعهُ سوى صوتُ الريحِ التي تعوي خارجَ النافذة، وكأنها تُنذرُ بقدومِ عاصفةٍ وشيكة. كانَ الجوُّ مُعبّأً بتوترٍ خفيّ، وكأنَّ شرارةً واحدةً قادرةٌ على إشعالِ نارٍ لا تُخمَد.
**********
في صباح اليوم التالي، قرر الأب أن يُظهر فرحته بعودة ابنه بطريقة مميزة. فاجأ زوجته باقتراح دعوة جميع أهالي القرية على وليمة غداء احتفالاً بشفاء عمر. ابتهجت الأم بالفكرة، وانطلقا معاً لتحضير كل ما يلزم لهذه المناسبة السعيدة. انتشر الخبر في القرية كالنار في الهشيم.
في يوم الغداء، ازدحمت ساحة منزل الأب بالضيوف. علت أصوات الضحكات والتهاني، وامتلأ المكان برائحة الطعام الشهي. كان عمر يلعب بين الأطفال، وقد عادت إليه حيويته ونشاطه المعهودين. نظر الأب إليه، وشعر بفرحة غامرة تغمر قلبه، لكنّ ذلك الشعور لم يمحُ تماماً ذلك القلق الخفي الذي لازمه.
وبينما كان الجميع منشغلين بالاحتفال، حدث ما لم يكن في الحسبان. فُتح باب ساحة المنزل، ودخل رجلٌ وقورٌ ذو هيئة مهيبة، يرتدي عباءة سوداء طويلة. كان الصمت قد خيّم فجأة على المكان، فقد عرف الجميع من هذا القادم. كان أبو سلطان.
تقدّم أبو سلطان بخطوات ثابتة وواثقة، ونظراته الثاقبة تتنقل بين الحاضرين وتُشعر الجميع بالتوتر. لم يُلقِ التحية على أحد، بل نظر مباشرةً إلى عمر، الذي كان ينظر إليه بعينين واسعتين مليئتين بالخوف.
"لقد عاد،" قال أبو سلطان بصوتٍ عميقٍ جهوري، وكأنه يُخاطب نفسه، "لقد عاد ليُكمل ما بدأه."
ارتجف قلب أبو عمر عند سماع هذه الكلمات. شعر بقشعريرة تسري في جسده، وعاد إليه شعور القلق الذي كان يحاول جاهداً إخفاءه. نظر إلى زوجته، فرأى الخوف نفسه في عينيها.
حاول أبو عمر أن يُخفي ارتباكه، وتحدث بصوتٍ مهذب: "مرحباً بك يا شيخ أبو سلطان، تفضل بالجلوس معنا."
لم يُجب أبو سلطان، بل استمر في النظر إلى عمر، ثم أشار بيده إلى العلامة التي كانت على صدره، والتي اختفت فجأة.
"العلامة،" قال بصوتٍ هامس، "لقد اختفت مؤقتًا، لكنها ستعود. وعندما تعود، سيأتي معه…"
لم يُكمل أبو سلطان جملته، بل التفت وغادر المنزل بنفس الطريقة المفاجئة التي ظهر بها.
خيم صمتٌ ثقيلٌ على المكان بعد رحيله. توقفت الوليمة، وتحولت الأجواء الاحتفالية إلى جوٍّ من الخوف والترقب. نظر أبو عمر إلى ابنه، ورأى في عينيه نظرةً لم يرها من قبل، نظرةً تحمل مزيجاً من البراءة والخوف، وكأنه رأى شبحاً.
**********
على قمّة جبال القمر الشاهقة، وتحت شجرة لوزٍ ، جلستِ امرأةٌ تلفّها هالةٌ من الحزن والغموض. كانت تحدّق في الأفق البعيد، وعيناها تغوصان في بحر الذكريات، تستعيدُ صورًا من ماضيها مع حبيبٍ غابَ عنها، فكانت ترددُ بصوتٍ خافتٍ يقطعهُ تنهداتٌ عميقة:
"أَأُنادي صدىً في رُبى النسيانِ؟
وقد ضَلَّ في دروبِهِ قَلبي الحيرانِ
أَمن خيطِ وَهمٍ يَنسُجُ لِي لُقيا؟
أم يَترُكُني في تِيهي سَكرانِ؟"
كانت الريحُ تعبثُ بخصلاتِ شعرها الفاحم، وتُراقصُ أطرافَ ردائها الأسود الذي يلتفُّ حول جسدها النحيل كظلٍّ مُرعب. فجأةً، حطَّ غرابٌ أسودُ ضخمٌ على غصنٍ من أغصان شجرة اللوز، وكأنّهُ ينتظرُ إشارةً ما. رفعتِ المرأةُ رأسها نحوهُ، ونظرةٌ ثاقبةٌ تخترقُ سوادَ عينيهِ، سألتهُ بنبرةٍ آمرةٍ: "أأنهيتَ مُهمَّتك؟"
أجابَ الغرابُ بصوتٍ أجشٍّ عميقٍ، وكأنّهُ صادرٌ من أعماقِ بئرٍ مُهجورة: "نعم يا سيدتي."
تنهّدت المرأةُ بقوةٍ، وكأنّها تُطلقُ معها عبءًا ثقيلاً، ثمّ وضعت يدَها على جذعِ شجرةِ اللوزِ، وهمست بوعدٍ غامض: "عزيزي، ابنُك سينتقمُ لك... فقط راقب."
بعد أن أنهت كلماتها، التفتت إلى الغراب وقالت بنبرةٍ خفيضةٍ تحملُ سرًا دفينًا: "لنعدْ إلى عالمِ الجن. علينا أن نستعدَّ لذلك اليوم."
في لحظةٍ مُرعبةٍ، بدأ الغرابُ يتحوّلُ شيئًا فشيئًا. لم يعدْ طائرًا أسودَ، بل تحوّلَ إلى شيطانٍ مُجنَّحٍ ذي مخالبَ حادةٍ وعيونٍ حمراءَ مُشتعلةٍ تُنذرُ بالشرِّ. فتحَ الشيطانُ بوابةً مُظلمةً تفوحُ منها رائحةُ الكبريتِ والنار، بوابةً تُفضي إلى عالمِ الجنِّ الخفي.
مشتِ المرأةُ بثباتٍ نحو البوابة، وكأنّها تعودُ إلى موطنها الأصلي. عند حافةِ البوابة، توقفتْ لحظةً والتفتتْ إلى شجرة اللوز مرةً أخرى، نظرةٌ أخيرةٌ تحملُ وعدًا غامضًا: "سأعودُ عندما تُزهِرين..."
ثمّ عبرتِ البوابةَ المُظلمةَ، ولحقها الشيطانُ المُتحوّلُ، ليختفيا معًا في عالمِ الجنِّ، تاركينَ وراءهما شجرةَ اللوزِ صامتةً تشهدُ على سرٍّ عظيمٍ ووعدٍ مُرعب.
************
لا تلهكم الروايات عن اداء الصلاة المكتوبة...