**********

بعد مغادرة آخر الضيوف، انتاب أبا عمر شعورٌ مُلحٌّ بالذهاب إلى أبي سلطان. لم يستطع تجاهل الكلمات الغامضة التي قالها، والقلق الذي زرعه في قلوب الجميع. أخبر زوجته بأنه سيذهب للقاء أبي سلطان، وحاول أن يُطمئنها بأنه سيعود قريبًا.

سار أبو عمر بخطواتٍ مُثقلة نحو منزل أبي سلطان. كان الطريق قصيرًا، لكنه بدا له أطول من أي وقتٍ مضى. وصل إلى المنزل، وطرق الباب بهدوء. فتح له أحدهم، وسمع صوت من خلفه يخبره بأن الشيخ يستقبله.

دخل أبو عمر إلى مجلس أبي سلطان، وجده جالسًا على وسادة، كعادته، ينظر إلى الفراغ بشرود. ألقى أبو عمر السلام، فردّ عليه أبو سلطان بتحيةٍ خافتة دون أن ينظر إليه.

جلس أبو عمر قُبالة أبي سلطان، وبدأ حديثه بصوتٍ مُتردد: "يا شيخ أبو سلطان، جئتك لأستوضح بعض الأمور. كلماتك اليوم... لقد أرعبت الجميع، وأثارت فينا قلقًا كبيرًا. ما الذي قصدته بقولك عن العلامة وعودتها؟ وما الذي سيأتي معها؟"

نظر أبو سلطان أخيرًا إلى أبي عمر، نظرةٌ عميقةٌ وثاقبة، لكنها خالية من أي تعابير واضحة. صمتَ للحظاتٍ طويلة، ثم تحدث بصوتٍ هادئٍ لكنه يحمل نبرةً حاسمة: "عندما يحين الوقت، ستدرك ما أقصده."

حاول أبو عمر أن يستفهم أكثر، وأن يحصل على أي معلومةٍ تُزيل عنه هذا الغموض، فقال: "لكن يا شيخ، هذا الغموض يُثير فينا الخوف. أليس من حقنا أن نعرف ما الذي ينتظرنا؟"

أعاد أبو سلطان نفس الجملة، وكأنه لا يملك غيرها: "عندما يحين الوقت، ستدرك ما أقصده."

ازداد قلق أبو عمر وإحباطه. أدرك أنه لن يحصل على أي جوابٍ من أبي سلطان. حاول مرةً أخيرة، مُستخدمًا نبرةً أكثر توسلًا: "أرجوك يا شيخ، أي تلميح، أي إشارة... أي شيء يُساعدنا على فهم ما يجري."

لكن رد أبي سلطان كان كالسابق، قاطعًا ونهائيًا: "عندما يحين الوقت، ستدرك ما أقصده."

لم يجد أبو عمر بُدًا من الاستسلام. فهم أن أبي سلطان لن يُفصح عن أي شيءٍ آخر. نهض من مكانه، وشعر بثقلٍ كبيرٍ على صدره. ألقى نظرةً أخيرة على أبي سلطان، الذي عاد إلى شروده، ثم غادر المنزل بصمت.

أثناء عودته إلى منزله، كان أبو عمر غارقًا في أفكاره. الكلمات الغامضة لأبي سلطان كانت تُطاردُه، وتُثير فيه أسئلةً لا نهاية لها. "عندما يحين الوقت، ستدرك ما أقصده"... ما هو هذا الوقت؟ وما الذي سيحدث عندما يحين؟ وما علاقة ذلك بعمر وبالعلامة التي اختفت؟

وصل أبو عمر إلى منزله، ودخل وهو يشعر بثقلٍ كبيرٍ لم يشعر به من قبل. نظر إلى زوجته التي كانت تنتظره بقلق، ولم يستطع أن يُخفي عنها خيبة أمله. اكتفى بهز رأسه، ففهمت هي أن لقاءه بأبي سلطان لم يُثمر عن أي شيء. خيّم الصمت على المنزل، صمتٌ مُثقلٌ بالخوف والترقب، في انتظار ذلك "الوقت" الذي تحدث عنه أبو سلطان.

**********

في مكانٍ ما في عالم الجنِّ، تحت سماءٍ حمراءَ قانيةٍ تُشبهُ لونَ الدمِ المُتجمِّد، وفوقَ جبلِ المَلِكِ الشاهقِ الذي تعلوهُ قلعةٌ سوداءُ ضخمةٌ تُثيرُ الرُّعبَ في القلوبِ، ظهرتْ فجأةً بوابةٌ مُظلمةٌ مُشابهةٌ لتلكَ التي عبرتْ منها المرأةُ في عالمِ البشرِ. انبثقتِ البوابةُ من العدمِ، وكأنّها شُقَّتْ في نسيجِ الواقعِ بقوةٍ خفيةٍ. خرجتْ منها المرأةُ بثباتِ ملكةٍ عائدةٍ إلى عرشها، وخلفها مباشرةً ظهرَ الشيطانُ المُجنَّحُ بهيئتهِ المرعبةِ، عيناهُ تُطلقانِ شررًا أحمرَ، ومخالبُهُ الحادةُ تُشبهُ خناجرَ مُسمَّمةً.

قبلَ أن تضعَ المرأةُ قدمَها على أرضِ عالمِ الجنِّ، كانَ في استقبالها حشدٌ من الخدمِ ورئيسُ حرّاسِ القلعةِ. كانوا واقفينَ بانتظامٍ على جانبيّ الطريقِ المُؤدّي إلى بوابةِ القلعةِ، رؤوسُهم مُنحنيةٌ بإجلالٍ، وملابسُهم السوداءُ تُرفرفُ في هواءِ عالمِ الجنِّ المُحمَّلِ برائحةِ الكبريتِ.

كانَ رئيسُ الحرّاسِ يتقدمُ الصفوفَ، وهو فارسٌ ضخمُ البنيةِ يرتدي درعًا أسودَ لامعًا، يحملُ على كتفهِ فأسًا ضخمةً تُثيرُ الرُّعبَ. حينَ رأى المرأةَ، انحنى بجلالٍ عميقٍ، وخاطبها بصوتٍ جهوريٍّ يملأُ المكانَ: "مرحباً بعودتكِ يا سيدتي. لقد طالَ انتظارُنا."

ابتسمتِ المرأةُ ابتسامةً خفيفةً لم تُخفِ بريقًا من القوةِ والتصميمِ في عينيها، ونظرتْ إلى رئيسِ الحرّاسِ نظرةً سريعةً قبلَ أن تُجيبَ بصوتٍ واثقٍ وهادئٍ: : " أيها القائد لقد حانَ الوقتُ."

ثمّ تحرّكتْ بخطواتٍ ثابتةٍ نحو القلعةِ، يتبعُها الشيطانُ المُجنَّحُ ورئيسُ الحرّاسِ والخدمُ في صفوفٍ مُنظمةٍ، وكأنّهم موكبٌ ملكيٌّ مهيبٌ. كانتِ القلعةُ السوداءُ ترتفعُ أمامهم كشبحٍ ضخمٍ، تُهيمنُ على المشهدِ وتُعلنُ عن بدايةِ فصلٍ جديدٍ من الصراعِ في عالمِ الجنِّ. بينما كانت تسير، نظرت إلى السماء الحمراء مرة أخرى وكأنها تتفقد شيئًا ما، ثم أردفت قائلة بصوت منخفض يكاد لا يسمع: "قريبًا يا بني، قريبًا جدًا."

**********

"جيسي،" قلتُ بصوتٍ مُثقلٍ، "ألَنْ تتوقّفَ عندَ هذا الحدّ؟"

لم يُجبْ جيسي فورًا. ظلّتْ عيناهُ مُثبّتتينِ على الظلامِ المُحيطِ، كأنّهُ يبحثُ عن شيءٍ لا يُمكنُني رؤيتهُ. خيّمَ صمتٌ مُطبقٌ على الغرفةِ، لم يكسرْهُ سوى طقطقةِ الخشبِ المُتهالكِ تحتَ وطأةِ الريحِ العاتيةِ التي تعوي في الخارجِ.

وبعدَ لحظاتٍ بدتْ كالأبدِ، التفتَ جيسي نحوي. لم تعدْ ابتسامتهُ الباردةُ موجودةً، بل حلّتْ مكانَها نظرةٌ مُبهمةٌ، كأنّها مزيجٌ من الحزنِ والتصميمِ.

"أتسألُني إنْ كنتُ سأتوقّفُ يا كاتبي؟" قالَ جيسي بصوتٍ هادئٍ، لكنّهُ كانَ مُحمّلاً بمشاعرَ مُتضاربةٍ. "ألا تُدركُ أنَّ ما بدأَ لا يُمكنُ إيقافهُ؟ كُتبتْ روايتي بدماءِ الأبرياءِ، ولنْ تُغلقَ صفحاتُها حتى يُقتصَّ منْ كلِّ ظالمٍ."

ومرّرَ أصابعهُ برفقٍ فوقَ الكلماتِ المُخطوطةِ بريشتهِ. فبدا لي كأنّهُ يلمسُ ذكرياتٍ مؤلمةً، ذكرياتٍ حُفرتْ في روحهِ بنارِ الانتقامِ.

"أنتَ لا تفهمُ يا كاتبي،" تابعَ جيسي حديثهُ، ونبرةُ صوتهِ تُشبهُ همسَ أوراقِ الخريفِ اليابسةِ. "لقدْ سُلبتْ منّي كلُّ بهجةٍ في الحياةِ، دُمّرتْ عائلتي أمامَ عينيّ، ولمْ يَبقَ لي سوى هذا الظلامِ رفيقًا. أنا لا أكتبُ روايةً، بلْ أُسطّرُ ملحمةً، ملحمةَ الألمِ والدمِ."

رفعتُ يدي في الهواءِ، كأنّني أحاولُ إيقافَ سيلِ الكلماتِ المُؤلمةِ. "ولكنْ جيسي،" قلتُ بصوتٍ أجش، "الانتقامُ لنْ يُعيدَ لكَ ما فقدتَهُ. لنْ يُعيدَ لكَ عائلتكَ."

ابتسمَ جيسي ابتسامةً مُرّةً، كأنّها انعكاسٌ للقمرِ في ليلةٍ مُظلمةٍ. "ربّما،" قالَ، "ولكنّهُ سيُسكتُ صراخَ روحي المُعذّبةِ. سيُطفئُ نارَ الغضبِ التي تُحرقُني منْ الداخلِ."

فجأةً، اهتزّتْ الغرفةُ بعنفٍ، وكأنَّ زلزالاً ضربَ المكانَ. تساقطتْ قطعٌ منْ السقفِ المُتهالكِ، وغطّى الغبارُ كلَّ شيءٍ.

"لقدْ حانَ الوقتُ،" قالَ جيسي بصوتٍ عميقٍ، كأنّهُ صادرٌ منْ أعماقِ الأرضِ. "ستُزهرُ شجرةُ اللوزِ قريبًا، وسيتحوّلُ القمرُ إلى دمٍ. عندها، سأُكملُ كتابةَ روايتي، بدمِ أعدائي، وسأجعلُ منْ هذا العالمِ مسرحًا لمأساتي."

وفي تلكَ اللّحظةِ، انفتحَ بابُ الغرفةِ فَجأةً، مُرسلًا موجةً منْ الهواءِ الباردِ جعلتْ شعلةَ الشمعةِ الوحيدةِ على الطاولةِ تتمايلُ يمينًا وشمالًا.

ظهرتْ وعلى عتبةِ البابِ امرأةٌ. كانتْ خيالاً أسودَ في البدءِ، تُحيطُ بها هالةٌ منْ ضبابٍ خفيفٍ. ثمّ تقدّمتْ نحوَ الداخلِ، كاشفةً عن شعرٍ أسودَ كسوادِ ليلٍ، يتدلّى على كتفيها في خُصلٍ مُتموّجةٍ. وعيناها كانتا زرقاوينِ، عميقتينِ كبُحيرةٍ غامضةٍ تُخفي في أعماقِها أسرارَ. كانتْ تُمسكُ بيدها فانوسًا يُشعُّ نورًا أصفرَ خافتًا، يُلقي بظلالٍ غريبةٍ على وجهها، ويُبرزُ ملامحَها الجميلةَ، تلكَ الملامحُ التي تُشبهُ منحوتاتٍ إغريقيةً قديمةً، أو بطلاتِ أساطيرِ الفُرسِ المُنسيّةِ.

نظرتْ إلينا المرأةُ بنظراتٍ حائرةٍ، عيناها الواسعتانِ تجولانِ في أرجاءِ الغرفةِ، كأنّها تبحثُ عن إجابةٍ لِلُغزٍ لا تفهمُهُ. كانَ الصمتُ ثقيلاً، لا يُقطعهُ سوى صوتُ أنفاسِنا المُتلاحقةِ، وصريرُ مِفصّلاتِ البابِ.

**********

بينما كان العلماءُ منهمكينَ في دراساتِهم، عاد الملكُ إلى عرشهِ وجلسَ عليهِ وهو شاردُ الذهنِ بتلك النبوءة. كان يعلمُ أنَّ هذهِ ليستْ مجردَ نبوءةٍ عابرةٍ، بل هي نذيرُ شؤمٍ يُهددُ مملكتهُ. تناهت إلى سمعهِ همساتٌ خافتةٌ من حاشيتهِ، بعضُهم يتناقلُ أخبارًا عن اضطراباتٍ على أطرافِ المملكةِ، وآخرونَ يتحدثونَ عن لعنةٍ قديمةٍ تُصيبُ كلَّ من يتجرأُ على الاقترابِ من شجرةِ اللوزِ. ازدادتْ حيرةُ الملكِ، وشعرَ بثقلِ المسؤوليةِ يقعُ على عاتقهِ. كان عليهِ أن يتصرفَ بحكمةٍ وسرعةٍ لحمايةِ مملكتهِ من الخطرِ القادمِ.

في هذه الأثناء، كانت فرقةُ الفرسانِ تُشقُّ طريقَها بصعوبةٍ عبرَ المنحدراتِ الوعرةِ لجبالِ القمرِ. كلما اقتربوا من القمةِ، شعروا بطاقةٍ غريبةٍ تنبعثُ من هناك، طاقةٌ تُثيرُ في نفوسِهم مزيجًا من الرهبةِ والفضولِ. كانت هذهِ الطاقةُ تُشبهُ همسًا خافتًا في أعماقِ أرواحِهم، همسًا يحملُ في طياتهِ غموضًا وسحرًا لا يُقاومُ.

أسرعَ الفرسانُ الخُطى، تدفعُهم غريزةُ الجنديِّ المُخلصِ، ورغبةٌ جامحةٌ لمعرفةِ مصدرِ هذهِ الطاقةِ الغامضةِ. كانت قلوبُهم تخفقُ بقوةٍ مع كلِّ خطوةٍ تقرّبُهم من قمةِ الجبلِ، وكأنّهم على وشكِ اكتشافِ سرٍّ عظيمٍ طالَ انتظارهُ. كانت الرياحُ تُصفّرُ في أذانِهم، وأصواتُ حوافرِ الخيولِ تمتزجُ مع دقاتِ قلوبِهم المُتسارعةِ، ليُشكّلَ ذلك سيمفونيةً غريبةً تُنذرُ بِما هو آتٍ.

وصلتْ فرقةُ الفرسانِ إلى قمةِ الجبلِ أخيرًا، لتُفاجأَ بِصمتٍ مُطبقٍ يخيمُ على المكانِ. لم يجدوا أيَّ أثرٍ لأيِّ كائنٍ، فقط شجرةُ اللوزِ تقفُ وحيدةً في وسطِ القمةِ، شامخةً كحارسٍ قديمٍ يُراقبُ الأفقَ البعيدَ. بدأَ الفرسانُ بالبحثِ الدقيقِ في محيطِ الشجرةِ، يُفتّشونَ بينَ الصخورِ وتحتَ أغصانِ اللوزِ، باحثينَ عن أيِّ دليلٍ يُشيرُ إلى مصدرِ تلكَ الطاقةِ الغريبةِ التي شعروا بها. كانت نظراتُهم تُحلّقُ في كلِّ اتجاهٍ، تُحاولُ اختراقَ الضبابِ الكثيفِ الذي بدأَ يتشكّلُ حولَ قمةِ الجبلِ، مانعًا إياهم من رؤيةِ ما هو أبعدُ من بضعةِ أمتارٍ.

كانتْ خيبةُ الأملِ واضحةً على وجوهِ الفرسانِ، فكلُّ جهودِهم باءتْ بالفشلِ. لم يجدوا أيَّ أثرٍ لأيِّ شيءٍ غيرِ عاديٍّ، سوى هالةٍ خفيفةٍ من الضوءِ تُحيطُ بشجرةِ اللوزِ، وكأنّها تُشعُّ طاقةً خاصةً بها. تجمّعَ الفرسانُ حولَ قائدهم، ينظرونَ إليهِ بِحيرةٍ وارتباكٍ، ينتظرونَ منهُ تفسيرًا لما حدثَ. لكنّ القائدَ كانَ صامتًا، يُحدّقُ في شجرةِ اللوزِ بِتركيزٍ شديدٍ، وكأنّهُ يُحاولُ قراءةَ أفكارِها.

"لا شيء هنا يا سيدي،" قالَ أحدُ الفرسانِ بِصوتٍ مُحبطٍ. "لقد بحثنا في كلِّ مكانٍ، ولم نجدْ أيَّ أثرٍ لأيِّ كائنٍ."

أومأَ القائدُ برأسهِ دونَ أن يُعلّقَ، ثمّ التفتَ إلى فرسانهِ وقالَ بِصوتٍ حازمٍ: "سنبني حصنًا هنا، حولَ شجرةِ اللوزِ. لا أحدَ يدخلُ أو يخرجُ دونَ إذنٍ منّي. هذهِ الشجرةُ تُخفي سرًا، وسنكشفهُ مهما كلّفَ الأمرُ."

بدأَ الفرسانُ على الفورِ ببناءِ حصنٍ منيعٍ حولَ شجرةِ اللوزِ. كانوا يجمعونَ الصخورَ الضخمةَ من سفوحِ الجبلِ، ويرصّونَها بِإتقانٍ لتشكيلِ جدرانٍ سميكةٍ تُحيطُ بالشجرةِ من كلِّ جانبٍ. كان العملُ شاقًا وطويلاً، لكنّ عزيمةَ الفرسانِ كانتْ أقوى من أيِّ صعوبةٍ. كانوا يُدركونَ أنّ مصيرَ المملكةِ قد يعتمدُ على حراسةِ هذهِ الشجرةِ، وأنّ عليهم أن يكونوا على أهبةِ الاستعدادِ لأيِّ طارئٍ. كانتْ عيونُهم لا تغفلُ عن شجرةِ اللوزِ لحظةً واحدةً، يُراقبونَ كلَّ حركةٍ وكلَّ همسةٍ من الرياحِ تُداعبُ أوراقَها. كانوا يُحاولونَ فكَّ رموزِ تلكَ الطاقةِ الغامضةِ التي تُحيطُ بها، تلكَ الطاقةِ التي تُشبهُ لُغزًا قديمًا ينتظرُ من يحلّهُ.

مع غروبِ الشمسِ، اكتملَ بناءُ الحصنِ، وأصبحتْ شجرةُ اللوزِ مُحاصرةً بالكاملِ. أشعلَ الفرسانُ المشاعلَ، لتُضيءَ جدرانَ الحصنِ وتُلقي بظلالٍ مُخيفةٍ على شجرةِ اللوزِ. كانتْ أجواءُ الغموضِ تُخيّمُ على المكانِ، وكأنّ قصةً جديدةً على وشكِ أن تبدأَ.

**********

فجأةً، قطعتْ ضحكتي الخبيثةُ صمتَ تلكَ اللحظةِ. ضحكةٌ مُجلجلةٌ، غريبةٌ، وكأنّها صادرةٌ منْ كهفٍ مُظلمٍ يسكنُهُ الشرُّ.

وقبلَ أنْ يلتفتَ إليّ جيسي والمرأةُ، رفعتُ يدي مُلوّحًا بها في الهواءِ، فتجمدّ كلُّ شيءٍ في الغرفةِ. توقّف جيسي عنِ الكلامِ، مُتسمّرًا في مكانهِ، وعيناهُ مُتّسعتانِ دهشةً. أمّا المرأةُ، فظلّتْ واقفةً على عتبةِ البابِ، مُتجمّدةً كتمثالٍ منْ شمعٍ. حتى لهبُ الشمعةِ توقّف عنِ الرقصِ، مُتّخذًا شكلاً غريبًا، كأنّهُ لسانٌ منْ نارٍ مُتجمدٍ.

"لقد أتيتِ باكرًا يا عزيزتي،" قلتُ للمرأةِ بصوتٍ هادئٍ، ونظراتي تُخفي مُخطّطًا شرّيرًا. تقدّمتُ نحوها بخطواتٍ واثقةٍ، مُتجاهلاً جيسي المُتجمّدَ. أخرجتُ منْ العدمِ قلمي الأسودَ، قلمًا غريبَ الشكلِ، ذا ريشةٍ حادّةٍ تُشبهُ مِخلبَ نسرٍ. ثمّ بدأتُ أعبثُ بذاكرتها، مُعيدًا ترتيبَ ذكرياتها، مُضيفًا ومُعدّلاً كما تشتهي نفسي المُظلمةُ.

وعندما انتهيتُ منْ تعديلِ ذاكرتها، نقرتُ بإصبعي على جبينِها برفقٍ، فذابتْ في الهواءِ كدُخانٍ أسودَ، تاركةً وراءَها رائحةَ الكبريتِ.

التفتُّ إلى جيسي، وابتسامةٌ خبيثةٌ ترتسمُ على شفتي. "أكملْ ما بدأتَ بهِ يا جيسي،" قلتُ لهُ، ونبرةُ صوتي تُشبهُ فحيحَ الأفعى. "لكَ كاملُ الحريّةِ. دَعْ العالمَ يغرقُ في بحرٍ منْ الدماءِ. دَعْ صرخاتِ الضّحايا تُدوّي في كلِّ مكانٍ. دَعْ روايتكَ تُصبحُ أسطورةً مُرعبةً تُروى للأجيالِ القادمةِ."

غادرتُ الغرفةَ، تاركًا جيسي وحيدًا معَ أفكارهِ المُظلمةِ. ومعَ خروجي، عادَ الزمنُ إلى جريانهِ الطبيعيِّ. عادتْ حركةُ لهبِ الشمعةِ، وعادَ صوتُ الريحِ العاتيةِ التي تعوي في الخارجِ. أمّا جيسي، فظلَّ واقفًا في مكانهِ، مُحدّقًا في الفراغِ، كأنّهُ يُحاولُ استيعابَ ما حدثَ.

ولكنْ، ما لمْ يعلمْهُ جيسي، أنّني لمْ أُغادرْ حقًا. لقدْ تحوّلتُ إلى ظلٍّ، ظلٍّ مُرعبٍ يُراقبُهُ منْ زاويةٍ مُظلمةٍ في الغرفةِ. سأكونُ هُناكَ، في كلِّ خطوةٍ يخطوها، في كلِّ قطرةِ دمٍ يُسيلُها. سأكونُ هُناكَ، لأتأكّدَ منْ أنّ روايتهُ تُكتبُ بِحبرِ الجحيمِ، وأنّ العالمَ كلّهُ سيُصبحُ مسرحًا لمأساتِهِ.

********** "ألا يجدر بك قرع الجرس عند دخولك يا شمهر؟" قال أبو سلطان بصوت عالٍ، يتردد صداه في أرجاء الغرفة الواسعة، بينما كانت عيناه تُطلقان شرارات غضبٍ لم يعهدها شمهر من قبل.

فضحك شمهر، وظهر فجأة من العدم، كما لو كان شبحًا تجسد من ظلال الغرفة. وقف شامخًا، يرتدي عباءة سوداء تُخفي جسده، بينما لمعت عيناه ببريقٍ غامض. "أنت صديقي يا أبا سلطان،" قال بصوتٍ عميقٍ كأنه صدى رعدٍ بعيد، "فما حاجتي للاستئذان؟"

لم ينتظر أبو سلطان ردًا، بل اندفع بجسده الضخم كالثور الهائج نحو شمهر، بينما ابتسامةٌ عريضةٌ ترتسم على وجهه، تُخفي مزيجًا من المودة والغضب. وفجأة، رفع قبضته القوية في الهواء، مُطلقًا صرخةً مدوية، وانهال بها على وجه شمهر بضربةٍ قويةٍ هزت أركان المكان. في نفس اللحظة، قام شمهر بفعلٍ مُشابه، فضرب أبو سلطان في وجهه بضربةٍ مُماثلةٍ مُدوية.

"لم تعد كما كنت يا شمهر!" صاح أبو سلطان بصوتٍ أجش، بينما تدفق الدم من فمه بغزارة، كأنه شلالٌ أحمر. لم يمنعه الألم من توجيه ضربةٍ أخرى إلى معدة شمهر، مُستخدمًا كل ما يملك من قوةٍ جسدية.

ضحك شمهر بصوتٍ عالٍ، مُتجاهلًا الألم الذي يعصف بجسده، بعد أن صدّ ضربة أبو سلطان ببراعةٍ فائقة. "أأنا من ضعف يا أبا سلطان، أم أنت أيها الهرم؟" قال بسخريةٍ واضحة، بينما تدفق الدم من أنفه مُختلطًا بقطرات العرق التي تبلل جبينه.

اندلع قتالٌ ضارٍ بين الصديقين، تبادلا فيه اللكمات والضربات بكل قوةٍ وضراوة. ارتفعت أصوات ارتطام الأجساد، وتكسّر العظام، وتطايرت شظايا الأثاث في كل اتجاه. غطى الغبار والدخان ساحة المعركة، بينما تناثرت قطرات الدم على الجدران، تُشكل لوحةً فوضويةً من العنف والألم.

كان أبو سلطان يُقاتل بكل ما أوتي من قوةٍ جسدية، مُعتمدًا على ضخامة جسده وخبرته في القتال. بينما كان شمهر يُقاتل بذكاءٍ وسرعةٍ فائقة، مُستخدمًا مهاراته في المراوغة وتفادي الضربات. تعالت صيحاتهما وضحكاتهما، ممزوجةً بأصوات الأنين والتأوه، في مشهدٍ مُثيرٍ للحيرة والذهول.

وبعد دقائق طويلة، بدا الإعياء واضحًا على كليهما. تباطأت حركاتهما، وخفّت حدّة اللكمات. توقف القتال فجأة، كما لو أن إشارة غير مرئية صدرت من مكان ما. وقف أبو سلطان وشمهر يلهثان، يحدقان في بعضهما البعض بعيونٍ متعبةٍ ولكن مُصرّة.

"بعد كل هذه السنين..." قال أبو سلطان بصوتٍ مُتقطّع، مُحاولًا التقاط أنفاسه.

"...لم يُحدد من هو الفائز." أكمل شمهر الجملة بصوتٍ مُماثل، بينما انحنى جسده قليلًا، مُستندًا على ركبتيه.

في تلك اللحظة، ظهر من العدم شخصان غامضان، يرتديان ملابس بيضاء ناصعة، تُناقضُ تمامًا مشهد الدماء والدمار المُحيط. تقدّم أحدهما نحو أبي سلطان، بينما اتّجه الآخر نحو شمهر. وبحركاتٍ رشيقةٍ وناعمة، بدأ الشخصان بمسح الدماء عن وجهي الصديقين المُنهكين، مُستخدمين قطعًا من القماش الأبيض الناعم.

في نفس اللحظة، بدأت الغرفة بإعادة ترتيب نفسها بنفسها، في مشهدٍ سرياليٍّ مُذهل. عادت قطع الأثاث المُتكسّرة إلى أماكنها، وتجمّعت الشظايا المُتناثرة لتُشكّل قطعًا كاملةً من جديد. اختفت آثار الغبار والدخان، وعادت الجدران إلى لونها الأصلي، كأن شيئًا لم يكن.

نظر أبو سلطان وشمهر إلى بعضهما البعض بدهشةٍ وذهول. لم يفهم أيٌّ منهما ما يحدث، لكنهما شعرا بوجود قوةٍ خفيةٍ تُسيطر على المكان. اختفت مشاعر الغضب من قلبيهما، وحلّت محلها مشاعر الرهبة والغموض.

"من أنتما؟" سأل أبو سلطان بصوتٍ مُرتعش، مُحاولًا استجماع قوت.

لم يُجب أيٌّ من الشخصين، بل اكتفيا بالنظر إليهما بنظراتٍ عميقةٍ، كأنهما يقرآن أفكارهما. وفجأة، بدأت الغرفة تُصدر أصواتًا غريبة، وكأنها تُردد ترانيم قديمةً بلغةٍ غير مفهومة. اهتزّت جدران الغرفة، وظهرت على سطحها رموزٌ غامضةٌ، لمعت بألوانٍ زاهيةٍ للحظاتٍ قبل أن تختفي.

شعر أبو سلطان وشمهر بدوارٍ خفيف، وكأنهما على وشك فقدان الوعي. حاولا مقاومة الشعور، لكن دون جدوى. وفجأة، سقط كلٌّ منهما على الأرض فاقدًا للوعي، بينما اختفى الشخصان الغامضان في لمح البصر، تاركين وراءهما صمتًا مُطبقًا وغُرفةً عادت كما كانت، هادئةً ومرتبةً، وكأن شيئًا لم يحدث.

فقط بضع قطراتٍ من الدم، لا تزال عالقةً على حافة طاولةٍ خشبيةٍ عتيقة، تُشير إلى أن ما حدث لم يكن مُجرد حلم.

**********

2025/01/17 · 24 مشاهدة · 2438 كلمة
Maher
نادي الروايات - 2025