سكونٌ ثقيل خيّم على الغرفة بعد مغادرة الرجلين ذوي الثياب البيضاء، كأن الزمن نفسه توقف عن المسير. وفجأة، كما لو أن جدارًا خفيًا قد انهار، اخترق الصمت صوتٌ حاد، عميق، يتردد صداه بين الجدران كهمسٍ من عالمٍ آخر. خرج الصوت من العدم، من مركز الغرفة حيث وقف أبو سلطان وشمهر قبل أن يفقدا وعيهما تماما.
"أن متما الآن، فمن سيقوم بإكمال روايتي؟"
هكذا نطق الصوت، مُحملًا بمزيجٍ من السخرية والاستهزاء. ارتجف جسدا الرجلين المُلقيين على الأرض، كما لو أن الصوت قد هزّهما هزًا عنيفًا. ظهرت أنا، الكاتب، من وسط الغرفة. و كانت عيناي تُطلقان شرارات غضبٍ ممزوجٍ بالازدراء، بينما أنظر إلى جسديهما المنهكين.
"يا لكما من أحمقين!" تمتمتُ بمرارة، وتقدمتُ نحوهما بخطواتٍ ثابتة. وقفتُ فوقهما، أنظر إليهما بازدراءٍ أكبر، كأنني أنظر إلى حشرتين تافهتين.
"بعد كل هذه السنين، تُقرران أن تُقاتلا بعضكما البعض؟" تابعتُ كلامي بصوتٍ يقطرُ سخرية، "ألم تعلما أن مصيركما مُرتبطٌ بكلماتي؟ أن وجودكما مُقيّدٌ بِحُبكةِ روايتي؟"
تنهدتُ بعمق، مُحاولًا كبح جماح غضبي. "لقد أعطيتُكما كل شيء،" تابعتُ بصوتٍ أكثر هدوءًا، "منحتُكما القوة و الحكمة... وفوق كل ذلك، منحتُكما صداقةً أسطوريةً قاومتْ اختبار الزمن. ولكن ماذا فعلتما؟ تقاتلتما كالأطفال، كالمجانين، مُخاطرين بكل شيءٍ من أجل ماذا؟ من أجل نزوةٍ عابرة، من أجل خلافٍ تافه!"
انحنيتُ قليلًا، مُقتربًا من وجهيهما الشاحبين. "لقد خيبتما ظنّي،" قلتُ بصوتٍ هامسٍ، "لقد كسرتما قلبي."
أخرجتُ من طيّات عباءتي شيئًا غامضًا، مُغلّفًا بظلامٍ دامس. كان شكله غير مُحدد، كأنه قطعةٌ من العدم نفسه. لمعتْ عيناي ببريقٍ غامضٍ وأنا أُلقي هذا الشيء على جسديهما. انتشر الظلام حولهما، كأنه سائلٌ كثيفٌ يلتهم كل ما يُلامسه.
"سأمنحُكما فرصةً أخيرة،" قلتُ بصوتٍ حازم، بينما كنتُ أُغادر الغرفة بخطواتٍ بطيئة، "عليكما أن تتحسنا، أن تُصلحا ما أفسدتماه. عليكما أن تُثبتا لي أنكما تستحقان أن تكونا شخصيتيْن في روايتي."
توقفتُ عند عتبة الباب، ونظرتُ إليهما نظرةً أخيرة، مُحمّلةً بالتهديد. "وإلا،" تابعتُ بصوتٍ مُنخفضٍ مُرعب، "قتلتُكما. قتلتُكما بيدَيّ هاتين، ومحوتُكما من الوجود. فلتُدركا أن مصيركما مُرتبطٌ بقلمي، وأن نهايتكما قد تُكتبُ في أيّ لحظة."
استدرتُ، وخرجتُ من الغرفة، تاركًا وراءي صمتًا مُطبقًا، وظلامًا يلتفُّ حول جسدَيْ أبي سلطان وشمهر، كأنه كفنٌ يُحيكُ خيوطه من المجهول. وفقط بضع قطراتٍ من الدم، لا تزال عالقةً على حافة الطاولة الخشبية العتيقة، تُشير إلى أن ما حدث لم يكن مُجرد حلم، وأن مصير الصديقين أصبح مُعلقًا بخيطٍ رفيع، خيطٍ رفيعٍ اسمه... رحمة الكاتب.
*********
في تلك الليلة، غطّت القرية بطانيةٌ من الصمتِ الثقيل، لم يكسرها سوى حفيفُ أوراقِ الشجرِ المتراقصةِ على أنغامِ رياحٍ خفيفةٍ، وعواءُ ذئبٍ وحيدٍ يترددُ صداه بين جبالِ الأفقِ البعيد. نامت العيونُ مُتعبةً من هولِ ما شهدتهُ في النهار، لكنّ عينيّ أبو عمر ظلّتا مفتوحتينِ، تحدّقانِ في سقفِ الغرفةِ المُظلم، وعقلهُ مُنشغلٌ بسيلٍ من الأفكارِ والتساؤلاتِ التي لا تهدأ.
كانت كلماتُ أبو سلطان الغامضةِ تُردّدُ في أذنيهِ كأنّها لحنٌ مُزعجٌ لا يُمكنُ إيقافهُ. "لقد عاد... العلامة... عندما يحينُ الوقت..." ما كلُّ هذا؟ ولماذا ابنهُ عمر بالذات؟ ما هو السرُّ الذي يخفيهِ هذا العجوزُ الحكيم؟ ولماذا يرفضُ أن يُفصحَ عن أيِّ شيءٍ يُريحُ قلبهُ المُتعب؟
نهضَ أبو عمر من فراشهِ بِحذرٍ، حتى لا يُوقظَ زوجتهُ النائمةَ بجوارهِ. ارتدى عباءتهُ على عجلٍ، وخرجَ من الغرفةِ مُتسللاً كظلٍّ شاردٍ في عتمةِ الليل. كان بحاجةٍ إلى الهواءِ النقيّ، علّهُ يُساعدهُ على ترتيبِ أفكارهِ المُبعثرة.
سارَ بخطواتٍ مُترددةٍ في أزقةِ القريةِ الضيقةِ، مُتجهًا نحو أطرافِها، حيثُ بساتينُ النخيلِ تُعانقُ سكونَ الليلِ بِهمسِ أوراقِها. كان القمرُ مُكتملًا في تلك الليلةِ، يُضيءُ دروبَ القريةِ بِنورٍ فضيٍّ حالمٍ، لكنّهُ لم يستطع أن يُبدّدَ الظلامَ الذي يُخيّمُ على قلبِ أبو عمر.
وبينما كان يمشي شاردًا، لاحظَ وجودَ حركةٍ غريبةٍ في إحدى البساتينِ المُجاورةِ. اقتربَ بحذرٍ، فوجدَ بابَ البستانِ مفتوحًا على غيرِ العادة. تسللَ إلى الداخلِ، وقلبهُ يخفقُ بِقوةٍ. كان البستانُ مُظلمًا، لا يُضيءُهُ سوى ضوءُ القمرِ المُنعكسُ على أوراقِ الشجرِ.
وفي وسطِ البستانِ، رأى أبا عمر مشهدًا غريبًا لم يستطع تفسيرهُ. كان أبو سلطان واقفًا أمامَ شجرةِ نخيلٍ قديمةٍ، يتلو بعضَ الكلماتِ غيرِ المفهومةِ بِصوتٍ خافتٍ. كانت عيناهُ مُغلقتينِ، ووجههُ مُتجهًا نحو السماءِ، كأنّهُ يُناجي شيئًا لا يراهُ غيرهُ.
اقتربَ أبو عمر من أبي سلطان بِحذرٍ، وسألهُ بِصوتٍ مُرتجفٍ: "ماذا تفعلُ هنا يا شيخ؟"
فتحَ أبو سلطان عينيهِ ببطءٍ، ونظرَ إلى أبي عمر نظرةً غامضةً، ثمّ قالَ بِصوتٍ هادئٍ: "أُحاولُ أنْ أُؤخّرَ ما لا يُمكنُ تأخيرهُ... أُحاولُ أنْ أَمنعَ ما هوَ محتومٌ..."
"وما هوَ هذا الشيءُ الذي تُحاولُ تأخيرهُ؟" سألَ أبو عمر بِقلقٍ، "وما علاقةُ عمر بِكلِّ هذا؟"
تنهّدَ أبو سلطان تنهيدةً عميقةً، ثمّ قالَ: "سأكشفُ لكَ سرًا يا أبا عمر، لكنْ عليكَ أنْ تَعِدَني بأنّكَ لن تُخبرَ أحدًا بِما سأقولهُ لكَ."
"أعدُكَ يا شيخ،" قالَ أبو عمر بِلهفةٍ، "أعدُكَ أنّ سرّكَ سيكونُ في بئرٍ عميقةٍ."
اقتربَ أبو سلطان من أبي عمر وهمسَ في أذنهِ بِصوتٍ خافتٍ: "منذُ زمنٍ بعيدٍ، وُجدَ في قريتِنا رجلٌ شريرٌ يُدعى جاسر. كان جاسر ساحرًا قويًا، يمتلكُ قوىً خارقةً للطبيعة. استغلّ جاسر قوّتهُ في نشرِ الشرِّ والفسادِ في العالم، حتى ضاقَ الناسُ ذرعًا بِظلمهِ وطغيانهِ."
"وفي يومٍ من الأيامِ،" تابعَ أبو سلطان حديثهُ، "اجتمعَ حكماءُ العالم وقرّروا وضعَ حدٍّ لِجاسر". حاربوه بِكلِّ ما أُوتوا من قوةٍ، وتمكّنوا أخيرًا من هزيمتهِ. لكنّ جاسر لم يَمُتْ، بل تمّ سجنهُ في بُعدٍ آخر، وختمَ مدخلهُ بِختمٍ سحريٍّ قويٍّ."
"وما علاقةُ هذا بِعمر؟" سألَ أبو عمر بِعدمِ فهمٍ.
"العلامةُ التي ظهرت على عمر، أجابَ أبو سلطان، "هيَ نذيرُ شؤمٍ. إنّها تعني أنّ الختمَ الذي يَمنعُ جاسر من العودةِ بدأ يضعفُ. وعمر هوَ المختار."
"المختار؟" كرر أبو عمر بِذهولٍ، "ماذا تقصدُ بِالمختارِ؟"
"هو الوحيدُ القادرُ على إعادةِ الختمِ إلى قوّتهِ،" قالَ أبو سلطان بِحزنٍ، "أو... أنْ يُصبحَ هوَ نفسه جاسر الجديد."
صُعقَ أبو عمر مِمّا سمعهُ. لم يستطع أنْ يُصدّقَ أنّ ابنهُ الصغيرَ مُرتبطٌ بِقصةٍ كهذهِ. "ولكنْ كيفَ؟" سألَ بِصوتٍ مُرتجفٍ، "كيفَ يُمكنُ لِعمرَ أنْ يُعيدَ الختمَ إلى قوّتهِ؟"
"لا أعلمُ،" أجابَ أبو سلطان بِصوتٍ مُتعبٍ، "لكنْ علينا أنْ نجدَ طريقةً لِمساعدتهِ. وإلاّ فإنّ مصيرَنا جميعًا سيكونُ الهلاك."
نظر أبو عمر إلى أبي سلطان بِعيونٍ مليئةٍ بِالخوفِ والقلقِ. "ماذا سنفعلُ يا شيخ؟" سألَ بِصوتٍ يائسٍ.
"علينا أنْ نُحضّرَ عمر لِمُواجهةِ مصيرهِ،" أجابَ أبو سلطان بِحزمٍ، "علينا أنْ نُعلّمهُ كيفَ يُسيطرُ على قوّتهِ، وكيفَ يُقاومُ إغراءَ الشرِّ."
"ولكنْ كيفَ سنفعلُ ذلكَ؟" سألَ أبو عمر بِحيرةٍ، عمر لا يزالُ طفلًا صغيرًا."
"سنبدأُ بِتعليمهِ أُسسَ الخيرِ والشرِّ،" قالَ أبو سلطان، "سنُعلّمهُ كيفَ يُحبُّ الخيرَ ويَنصرُ الحقَّ. سنُعلّمهُ كيفَ يكونُ قويًا وشُجاعًا. وعندما يَكبرُ، سنُطلعهُ على حقيقةِ أمره، وعلى المهمّةِ المُلقاةِ على عاتقهِ."
"وماذا لو فشلَ عمر؟" سألَ أبو عمر بِخوفٍ شديدٍ، "ماذا لو لم يستطع مُقاومةَ إغراءِ الشرِّ؟"
نظرَ "أبو سلطان" إلى السماءِ بِحزنٍ، ثمّ قالَ: "إذا فشلَ عمر، فإنّ جاسر سيعودُ، وسيعُمُّ الظلامُ قريتَنا، وربّما العالمَ بأسرهِ."
عاد الصمت ليُخيّم على المكان. لم ينطق أيّ منهما بِكلمةٍ واحدةٍ، فكلّ ما يُمكنُ قوله قد قيل. كان مصيرُ عمر، ومصيرُ القريةِ بأكملها، مُعلّقًا بِخيطٍ رفيعٍ من الأمل.
وبعد صمتٍ طويلٍ، قال أبو سلطان: "عليك العودة إلى منزلك الآن يا أبا عمر. ولا تنسى ما اتفقنا عليه. هذا السرّ يجب أن يبقى بيننا."
"لن أنسى يا شيخ،" أجاب أبو عمر بِصوتٍ مُتعبٍ، "سأفعلُ كلَّ ما بِوسعي لِمُساعدةِ عمر."
ودّع أبو عمر أبا سلطان وعاد إلى منزله بِخطواتٍ مُثقلةٍ. كان قلبه ينبضُ بِقوةٍ في صدره، وعقله مُشتّتٌ بين آلافِ الأفكارِ والمخاوفِ. كيفَ سيُخبرُ زوجتهُ بِكلِّ هذا؟ وكيفَ سيُساعدُ ابنهُ على مُواجهةِ مصيرهِ المُظلمِ؟
دخل أبو عمر غرفته بِهدوءٍ، ووجد زوجته لا تزال نائمة. تمدد بجانبها على الفراش، وحاول أن يُغمض عينيه، لكنّ النوم أبى أن يزوره. ظلّت صورة عمر البريئة محفورة في ذهنه، ممزوجة بِصور جاسر الشرير، وكلمات أبي سلطان التي تُطارده كالأشباح.
كانت ليلة طويلة و مُرهقة، ولم يُشرق الصباح إلاّ بعد معاناةٍ طويلة. ومع أول خيوط الفجر، شعر أبو عمر بِثقلِ المسؤوليةِ التي أُلقيت على عاتقه. كان عليهِ أن يكون قويًا، من أجل عمر، ومن أجلِ قريته.
لكن كيف سيبدأ؟ ومن أين؟ كانت هذه الأسئلة تُدوّي في رأسه بِلا إجابة، تاركةً إياه غارقًا في بحرٍ من الحيرةِ والقلقِ، لا يدري إلى أيّ شاطئ ستقوده أمواجه.