1 - الفصل الأول: أكوس

غالباً ما تُزهر أزهار الهشفلور عندما يكون الليل أطول. فالمدينة بأكملها كانت تحتفل في اليوم الذي تتفتح فيه البتلات لتُصبح بلون أحمر قانٍ – لأنّ أزهار الهشفلور كانت إلى حدّ ما شريان حياة أمّتهم، وكما اعتقد أكوس، فهي تحميهم نوعاً ما من الجنون بسبب البرد.

في تلك الأمسية، في يوم طقس التفتّح، تعرّق أكوس تحت معطفه بانتظار جهوزية بقية الأسرة. لذا، خرج إلى فناء المنزل كي يبرّد جسده قليلاً. فمنزل عائلة كيرسيث كان مبنيّاً بشكل دائري حول فرن، وكل الجدران الخارجية والداخلية منحنية؛ ربما لجلب الحظ.

عندما فتح الباب، لسع الهواء شديد البرودة عينيه، فوضع نظارته الواقية، لكنّ حرارة جلده جعلت الضباب يتكثف فوراً على زجاجها. أمسك محراك النار المعدني بيده المكسوّة بقفاز، وأقحمه تحت غطاء الفرن. بدت الأحجار النارية مثل كتل سوداء قبل أن يُضيئها الاحتكاك، ومن ثم لمعت شرارتها بألوان مختلفة، حسب نوع التراب الذي كانت فيه.

لقد احتكّت الأحجار النارية بعضها ببعض، وانبثق منها ضوء أحمر زاهٍ مثل الدم. لم تكن هذه الحجارة هنا لتُدفئ أي شيء، أو لتضيء أي شيء، بل كانت تذكيراً بالتيار. وكأنّ الطنين الموجود في جسد أكوس لم يكن تذكيراً كافياً. فهذا التيار يتدفّق عبر كل شيء حي، وتجلى في السماء بشتى الألوان، وفي الأحجار النارية، وأضواء العوامات التي طارت بسرعة في السماء في طريقها إلى الطقس الديني في المدينة. لقد اعتقد سكان العالم الخارجي أنّ كوكبهم مليء بالثلج، بالرغم من أن أقدامهم لم تطأ سطحه على الإطلاق.

أخرج إيجيه، الأخ الأكبر لأكوس، رأسه وقال: «هل أنت مُتلهّف للتجمّد؟ أسرع، فأمي أوشكت أن تجهز».

دائماً كانت أمهم تستغرق وقتاً في تجهيز نفسها عندما يذهبون إلى المعبد. فهي الكاهنة، وكل الأنظار ستكون موجهة إليها.

ترك أكوس محراك النار ودخل المنزل، فنزع النظارة الواقية عن عينيه، وأنزل واقي وجهه إلى الأسفل نحو رقبته.

كان أبوه وأخته الكبرى سيسي يقفان بجانب الباب الأمامي، مرتديين معطفيهما. لقد كانت كل المعاطف مصنوعة من المادة نفسها؛ فراء كوتيا غير المصبوغ. لذا، كانت كلها بأحد اللونين الأبيض أو الرمادي، ومزودة بقبعة.

كانت أمه تُزرّر معطفها بإحكام عندما سألت: «هل الجميع جاهزون، أكوس؟ هذا جيد». ثم وقع نظرها على حذاء زوجها العالي الساق والقديم فعلّقت قائلة: «في مكان ما في الخارج، يرتجف رماد أبيك كله بسبب شدة قذارة حذائك يا أوسيه».

أجاب الأب وهو يبتسم لزوجته بلطف: «أعلم ذلك. ولهذا أصررت على توسيخه».

قالت وكأنها تغرد في واقع الأمر: «هذا جيد، أنا أحبه هكذا».

«أنت تحبين أشياء لم يكن والدي يُحبّها».

«هذا لأنه لم يكن يحب شيئاً».

عندها، قال إيجيه بما يشبه الأنين: «هلّا ندخل العوّامة طالما أنها لا تزال دافئة. فأوري بانتظارنا بالقرب من النصب التذكاري».

انتهت الأم من تسوية معطفها، وارتدت واقي وجهها. فانزلق الجميع على طول الممشى الأمامي المُدفّأ، بفرائهم ونظاراتهم وقفازاتهم. في النهاية كانت تنتظرهم عوامة تحوم على مستوى الركبة فوق الثلج. ففُتح الباب بلمسة من الأم وركبوا فيها. وكان على سيسي وإيجيه أن يجذبا أكوس إلى الداخل بذراعيهما لأنه كان صغيراً جداً ليستطيع الصعود بنفسه. ولم يلقِ أحداً بالاً لأحزمة الأمان.

صرخ الأب رافعاً قبضته في الهواء: «إلى المعبد!». فهذا ما يقوله دائماً عندما يذهبون إلى المعبد. وكأنه نوع من الهتاف المحمس خلال محاضرة مملة أو خلال الانتظار في طابور طويل في يوم التصويت.

ابتسمت الأم ابتسامة خافتة وقالت: «يا ليتنا نستطيع تعبئة حماستك في زجاجة وبيعها إلى كل شعب ثوفية. فمعظمهم أراهم مرة واحدة في السنة، وذلك فقط لأنّ هناك طعاماً وشراباً ينتظرانهم».

قال إيجيه: «إذاً هذا هو الحل المناسب، إغواؤهم بالطعام طوال المواسم».

فقالت الأم وهي تضغط على زر الانطلاق بإبهامها: «حكمة الأطفال».

ارتفعت العوامة بهم، واندفعت إلى الأمام، فتكوّم الجميع بعضهم فوق بعض. فدفع إيجيه أكوس بعيداً عنه وهو يضحك.

تلألأت أضواء هيسا أمامهم، كان المعبد في الأعلى وجميع الأبنية الأخرى في الوسط. المعبد الذي يقصدونه، عبارة عن بناء حجري كبير مع قبّة – مصنوعة من ألواح زجاجية ملونة – تتوسطه. وعندما تشعّ الشمس عليها، تلتمع قمة هيسا بلون أحمر برتقالي. وهذا يعني أنها تقريباً لا تتوهّج أبداً.

حطّت العوامة على التلة الحجرية فوق هيسا التي عمرها من عمر كوكبهم – ثوفية، كما يُسميه الجميع سوى أعدائهم، وهي كلمة غامضة جداً بالنسبة إلى سكان العالم الخارجي الذين يميلون إلى الاختناق عند لفظها. لقد كانت نصف البيوت الضيقة مدفونة تحت أكوام الثلج. وكان معظمها خالياً. فالجميع قصدوا المعبد الليلة.

سأل الأب زوجته بينما كان يوجّه العوامة بعيداً عن أحد مقاييس الرياح المنتصب عالياً والذي كان يغزل دوائر: «هل رأيتِ شيئاً مثيراً اليوم؟».

لقد عرف أكوس من نبرة صوت أبيه أنه يسأل زوجته إن رأت رؤيا اليوم. فكل كوكب في المجرّة فيه ثلاثة كهنة: أحدهم صاعد، والثاني جالس مثل أمه، وآخر هابط. لم يفهم أكوس تماماً ماذا يعني ذلك، عدا أنّ التيار يهمس بالمستقبل في أذنيّ أمه، ونصف الناس كانوا ينظرون إليها بإجلال.

أجابت الأم زوجها: «لقد رأيت شيئاً يخص أختك، ورغم ذلك أشك أنها تريد أن تعرفه».

«على العكس، فالأمر لا علاقة له برغبتها في معرفته أم لا، بل يتعلق بقناعتها بوجوب التعامل مع المستقبل بالاحترام المناسب لأهميته».

بعدها نظرت الأم نحو أكوس، وإيجيه وسيسي كلّ بدوره.

قبل أن تقول: «أظن أنّ هذا ما جنيته على نفسي عندما أصبحت جزءاً من عائلة عسكرية، فأنتم تريدون كل شيء منظماً، بما في ذلك هبتي التيارية».

فرد عليها زوجها قائلاً: «لاحظي أنني خالفتُ آمال عائلتي، واخترتُ أن أكون مزارعاً، وليس ضابطاً في الجيش، وأختي لا تقصد شيئاً بهذا، فهي تُصبح عصبية، وهذا كل ما في الأمر».

فتمتمت الأم وكأنها تقول إنّ الأمر ليس كذلك على الإطلاق.

بدأت سيسي بدندنة لحن كان أكوس قد سمعه من قبل، لكنه لم يعرف أين. لقد كانت أخته تنظر من النافذة، غير عابئة بالمشاحنات الحاصلة. وبعد لحظات، توقفت مشاحنات الزوجين، ولم يبقَ سوى صوت دندنتها. فـسيسي تعرف كيف تتصرّف معها، كما يحبّ والدها أن يقول؛ براحة بال.

كان المعبد مُضاءً من الداخل والخارج، فقد علقت سلاسل من المصابيح ليست أكبر من قبضة أكوس على المدخل المُقوّس. وانتشرت العوامات الملفوفة بأضواء ملونة على سطوحها الخارجية في كل مكان، وركنت بشكل عنقودي عند سفح التلّة أو حلقت حول السطح المقبب بحثاً عن مكان تهبط فيه. لقد كانت الأم تعرف كل الأماكن السرية حول المعبد، فوجّهت زوجها نحو أحد الأركان المُظلّلة بجانب قاعة الطعام، وقادت عائلتها عدواً نحو باب جانبي دفعته بكلتا يديها ليفتح.

ساروا عبر ممر حجري مظلم فوق بسُطٍ بإمكانك أن ترى من خلالها لشدّة اهترائها، ومروا بالنصب التذكاري المُنخفض والمُضاء بالشموع، لأهل ثوفية الذين ماتوا بسبب غزو الـشوتيت الذي حصل قبل ولادة أكوس.

بينما كان يعبر النصب التذكاري، مشى أكوس ببطء لينظر إلى الشموع الوامضة. فأمسك إيجيه بكتفيه من الخلف، ما جعله يشهق ويتلعثم. احمرّ خجلاً حالما أدرك من كان ذلك، فقرص إيجيه خدّه ضاحكاً وقال له: «أستطيع أن أعرف مدى احمرار خديّك حتى في الظلام».

فردّ عليه أكوس: «أغلق فمك».

فوبخته أمه قائلةً: «إيجيه، لا تزعجه».

لقد كان عليها أن تقول ذلك طوال الوقت. فقد شعر أكوس دائماً أنّ عليه أن يحمرّ خجلاً من شيء ما.

«كانت مجرّد مزحة...».

شقوا طريقهم نحو وسط المعبد، حيث احتشد الناس خارج قاعة النبوءة. وكان الجميع يمشون الهوينا من دون أغطية أحذيتهم الخارجية، وينزعون معاطفهم، وينفشون شعورهم التي سطّحتها أغطية الرأس، وينفثون هواءً دافئاً على أصابعهم المُتجمّدة. جمعت عائلة كيرسيث معاطفها ونظاراتها وقفازاتها وأحذيتها الطويلة وأقنعة الوجه في تجويف مظلم، يقع مباشرةً تحت نافذة بنفسجية ذات خصائص ثوفية. وفي اللحظة التي عادوا فيها نحو قاعة النبوءة، سمع أكوس صوتاً مألوفاً.

«إيج!» كانت أوري ريدنيلز، صديقة إيجيه المفضلة تتقدّم بسرعة في الممر. وهي ذات مظهر أخرق وطويل، وكانت ركبتاها ومرفقاها العظميان ظاهرة وشعرها مبعثر. لم يسبق لأكوس أن رآها بفستان من قبل، لكنها الآن ترتدي واحداً، مصنوعاً من قماش أحمر مائل إلى البنفسجي ومُزرّر حتى الكتفين مثل زي عسكري رسمي.

كانت براجم أصابع أوري حمراء من شدة البرد. فتوقفت أمام إيجيه وقالت: «ها أنت ذا، لقد استمعت وأنا أنتظرك إلى أحاديث صاخبة لاثنتين من عماتي عن المجلس وأنا على وشك الانفجار». لقد سبق لأكوس أن استمع للأحاديث الصاخبة لإحدى عمات أوري عن المجلس – الهيئة الحاكمة للمجرّة – وهي تُقيّم ثوفية فقط بإنتاجها من زهرة الجليد، وتُقلّل من اعتداءات الـشوتيت، داعيةً إياها «خلافات مدنية». كانت أوري محقة، لكن لطالما شعر أكوس بالإحراج من أحاديث الراشدين الصاخبة ولم يكن يعرف ماذا يقول أبداً.

تابعت أوري كلامها فقالت دفعةً واحدة وبالكاد التقطت أنفاسها، «مرحباً، أوسيه، وسيفا، وسيسي، وأكوس. عيد إزهار جميل. هيا، لنذهب يا إيج».

نظر إيجيه إلى أبيه، الذي لوّح بيده ثم قال: «اذهب، الآن. سنراك لاحقاً».

فقالت الأم: «إذا أمسكنا بك والغليون في فمك، كما حصل السنة الماضية، سنجعلك تأكل ما بداخله».

قطّب إيجيه حاجبيه. فلم يكن هناك ما يحرجه، ولم يحمر خداه أبداً بخلاف أكوس. حتى عندما كان يُضايقه الأولاد في المدرسة بسبب صوته – الذي هو أعلى من كل أصوات الصبية – أو لأنه غني، وهذا شيء لا يجعل الشخص محبوباً في هيسا. لم تكن المضايقات تغضبه. فلديه هبة في منع الأشياء وجعلها تعود عندما يريد ذلك.

أمسك بأكوس من مرفقه وسحبه بعد أوري. فبقيت سيسي في الخلف، مع والديها كالعادة. اندفع إيجيه وأكوس للحاق بـأوري عبر الممر المؤدي إلى قاعة النبوءة.

فغرت أوري فاها من شدة ذهولها، وعندما نظر أكوس إلى داخل القاعة، كاد أن يُقلّدها. فشخص ما صفّ مئات المصابيح – وكل منها مرشوش بـزهرة هشفلور لجعلها حمراء اللون – من قمة القبّة إلى أسفل الجدران الخارجية، وفي كل الاتجاهات، بحيث أصبح هناك سماء من الألوان فوقهم. حتى أنّ أسنان إيجيه توهجت باللون الأحمر عندما ابتسم لأكوس. في وسط القاعة التي تكون فارغة عادة، هناك لوح من الجليد عرضه بطول قامة رجل. ومنه نمت عشرات أزهار الهشفلور المتقاربة التي كانت على وشك التفتّح.

أحاط كثير من الحجارة النارية بحجم إبهام أكوس بلوح الجليد حيث كانت أزهار الهشفلور تنتظر التفتّح. وهي تتوهّج باللون الأبيض، ربما لكي يستطيع الجميع رؤية لون أزهار الهشفلور الحقيقي، الذي هو أكثر احمراراً من أي مصباح. وكما يقول بعضهم، إنه قانٍ بلون الدم.

تحرك أناس كثر مرتدين ملابسهم الأنيقة: وهي عباءات فضفاضة تغطي اليدين والرأس، مُثبّتة بأزرار زجاجية دقيقة بألوان متنوعة، وسترات تصل إلى مستوى الركبة مُغطاة بجلد إلت الطري، وأوشحة ملفوفة مرتين. وكلها بألوان زاهية؛ أي لون عدا الرمادي أو الأبيض، بتناقض مع ألوان معاطفهم. كانت سترة أكوس خضراء داكنة، وهي إحدى سترات إيجيه القديمة، وهي لا تزال فضفاضة عليه عند الكتفين، أما سترة إيجيه فكانت بنيّة.

انطلقت أوري مباشرةً نحو الطعام. وكانت عمتها سيئة الطباع هناك، تُقدم الأطباق للمارين لكنها لم تنظر إلى أوري. فشعر أكوس أنّ أوري لم تكن تحب عمتها ولا عمّها، وهذا يُفسّر لماذا كانت تقضي أوقاتاً طويلة في منزل عائلة كيرسيث، إلا أنه لم يعرف ما الذي حصل لأبويها.

وضع إيجيه قرص خبز في فمه، فكاد يختنق بلبّه.

فنبهه أكوس قائلاً: «انتبه، فالموت بسبب الخبز ليس طريقة جيدة».

ردّ إيجيه: «على الأقل سوف أموت وأنا أفعل شيئاً أحبه».

ضحك أكوس.

وضعت أوري مرفقها عند عنق إيجيه، وجذبت رأسه نحوها قائلةً: «لا تنظر الآن، هناك من يحدق إلينا من جهة اليسار».

قال إيجيه ناشراً فُتاة الخبز من فمه: «إذاً؟». لكنّ أكوس شعر مسبقاً بالحرارة تقترب من عُنقه. فقد استرق نظرةً عن يسار إيجيه ورأى مجموعة من الراشدين يقفون هناك، يراقبونهم بصمت.

قال إيجيه له: «يجب أن تعتد على ذلك يا أكوس، ففي النهاية، هذا يحدث طوال الوقت».

أجابه أكوس: «أنت تظن أنهم سوف يعتادون علينا، فنحن عشنا هنا طوال حياتنا، ونملك مصائر كل حياتنا، فماذا هناك ليُحدّقوا إليه؟»

لقد كان لكل واحد مستقبل، لكن ليس لكل واحد مصير. على الأقل، هذا ما كانت أمهم تحب أن تقوله. فأعضاء محددون «مُفضّلون» من العائلات يمتلكون أقداراً فقط، يشهدها كاهن واحد في كل كوكب لحظة ولادتهم. كانت أمهم تقول، إنه عندما تأتي تلك اللحظات، فهي تستطيع إيقاظها من نوم عميق، لأنها قوية للغاية.

لكل من إيجيه وسيسي وأكوس قدر، لكنهم لا يعلمون ما هو، رغم أنّ أمهم كانت واحدة من الناس الذين رأوه. وكانت دائماً تقول إنها ليست بحاجة إلى إخبارهم به، فالحياة ستخبرهم به نيابة عنها.

يُفترض بالأقدار أن تُحدّد حركات الكائنات. وفي حال فكّر أكوس بذلك كثيراً سيصاب بالغثيان.

هزّت أوري كتفيها قائلةً: «تقول عمتي إن المجلس انتقد الكهنة بحسب الأخبار المنشورة مؤخراً، ولذلك ربما يشغل هذا الانتقاد بال الجميع».

سألها أكوس: «انتقدهم؟ لماذا؟».

قام إيجيه بتجاهلهما معاً قائلاً: «هيا بنا، دعونا نجد مكاناً مناسباً».

فابتهجت أوري وقالت: «نعم، دعونا نفعل ذلك. فأنا لا أريد أن أعاني وأنا أحدّق إلى مؤخرات الناس الآخرين مثل السنة الماضية».

علّق إيجيه: «أظن أنك تجاوزت ارتفاع المؤخرة هذه السنة، ربما ستحدقين إلى وسط الظهور».

فحرّكت أوري عينيها إلى الأعلى علامة على الانزعاج وقالت: «هذا جيد، لأني بالتأكيد ارتديتُ فستان عمتي، هذا لكي أستطيع التحديق إلى مجموعة من الظهور».

هذه المرة، اندسّ أكوس بين الحشد في قاعة النبوءة أولاً، مُحاولاً تفادي كؤوس الشراب والإيماءات العدائية إلى أن وصل إلى المقدمة، بجانب لوح الجليد وأزهار الهشفلور التي على وشك التفتّح. كانوا في الوقت المحدد أيضاً. كانت أمهم تقف بجانب لوح الجليد، عارية القدمين، بالرغم من البرد القارس. فقد كانت تقول إنها تُصبح كاهنة بشكل أفضل عندما تكون أقرب إلى الأرض.

كان أكوس يضحك قبل لحظات مع إيجيه، لكن عندما هدأ الحشد، هدأ كل شيء فيه أيضاً.

مال إيجيه نحوه وهمس في أذنه: «هل تشعر بذلك؟ التيار يُدندن بجنون، وكأنّ صدري يهتز».

لم يلحظ أكوس ذلك، لكنّ إيجيه كان محقاً. لقد شعر حقاً بأن صدره يهتز، وكأنّ دمه يُغني. لكن قبل أن يستطيع الإجابة، بدأت أمه بالكلام. ليس بصوت عالٍ، فما من داعٍ لذلك، فالجميع يحفظون الكلمات عن ظهر قلب.

«التيار يتدفّق عبر كل كوكب في المجرة، ويمنحنا ضياءه كتذكير بقوته». وكأنهم في طابور، نظروا جميعاً إلى الأعلى، كان التيار المُتدفّق، وضوؤه ظاهرين في السماء من خلال زجاج القبة الأحمر. ففي هذا الوقت من السنة، تكون السماء دائماً حمراء قانية تقريباً، تماماً مثل أزهار الهشفلور، ومثل الزجاج نفسه. لقد كان الدفق التياري علامة مرئية على التيار الذي كان يتدفّق عبر كل فرد منهم، وعبر كل شيء حي. فهو يدور عبر المجرة، رابطاً كل الكواكب معاً مثل حبات خرز في خيط واحد.

واصلت سيفا كلامها: «يتدفق التيار عبر كل شيء فيه حياة، ويتيح له مجالاً ليزدهر. والتيار يتدفق عبر كل شخص يأخذ نفساً، ويبرز بشكل مختلف عبر كل عقل. إنه يتدفّق عبر كل زهرة تُزهر في الجليد».

تجمعوا بعضهم حول بعض، ليس أكوس وإيجيه وأوري فقط، بل كل من في القاعة. وقفوا والمناكب متراصة، كي يستطيعوا رؤية ما يحدث لأزهار الهشفلور على لوح الجليد.

كرّرت سيفا قولها: «التيار يتدفق عبر كل زهرة تتبرعم في الجليد، ويمنحها القوة لتُزهر في الظلام الدامس. إنّ التيار يمنح الطاقة العظمى لزهرة الهشفلور، العلامة المُميزة لزمننا، وتفتّحنا الذي يمنح الموت والسلام».

عم الصمت لبرهة، ولم يبدُ ذلك غريباً، كما يجب أن يكون. فقد بدا الأمر وكأنهم جميعاً يغنون بطنين ودندنة، شاعرين بالقوة الغريبة التي تُشغّل عالمهم، تماماً مثل الاحتكاك بين الجزيئات الذي يُشغّل الأحجار النارية.

وعندئذٍ كان هناك حركة. تفتحت إحدى البتلات، وأصدرت إحدى السويقات صريراً. وسرت رعشة في مهد أزهار الهشفلور الصغير الذي ينمو. ولم ينبس أحد ببنت شفة.

لمرة واحدة استرق أكوس نظرةً إلى الزجاج الأحمر، والقبة المغطاة بالمصابيح، فلو نظر مرة أخرى كانت لتفوته لحظة تفتح كل الأزهار. تفتحت كل البتلات الحمراء دفعة واحدة، مُظهرةً قلوبها البراقة، وهي تنثني على سيقانها. لقد كان لوح الجليد زاخراً باللون.

شهق الجميع وهتفوا، وصفّق أكوس معهم إلى أن آلمته راحتاه. فصعد والده ليُمسك يد زوجته ويطبع قبلة عليها. فهي بالنسبة إلى الجميع عداه غير قابلة للمس: سيفا كيرسيث، الكاهنة، التي منحتها الهبة التيارية رؤية المستقبل. لكنّ زوجها كان يلمسها دائماً، ويضغط برأس إصبعه على غمازتها عندما تبتسم، ويُرجع خصلات شعرها المنفلتة إلى العقدة التي تربط بها شعرها، تاركاً بصمات من الطحين على كتفيها حين انتهائه من عجن الخبز.

لم يكن باستطاعة زوجها أن يرى المستقبل، لكنه كان يستطيع إصلاح بعض الأشياء بأصابعه، مثل الأطباق المنكسرة أو الشق في الشاشة الجدارية أو ياقة القميص البالية. وهو يجعلك تشعر في بعض الأحيان أنّ باستطاعته إعادة الناس إلى ما كانوا عليه، أيضاً، إذا ما ورطوا أنفسهم في المشاكل. ولذا عندما تقدم نحو أكوس، وضمّه بين ذراعيه، لم يشعر أكوس بالإحراج.

صرخ والده رافعاً إياه فوق كتفه: «إنه ابني الأصغر! أووه، في الواقع ليس صغيراً جداً. فأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك مرة أخرى».

فعلّق أكوس: «هذا ليس لأني كبير، بل لأنك عجوز».

فرد الأب على تعليق ابنه: «يا لهذه الكلمات! التي تصدر من ابني، أتساءل ما هي العقوبة التي يستحقها مثل هذا اللسان اللاذع؟».

«إياك...».

لكن الكلمة جاءت متأخرة، فوالده كان قد رماه إلى الأعلى وتركه يسقط قبل أن يمسك به من كاحليه. معلقاً بالمقلوب، فضغط قميصه وسترته على جسده، لكنه لم يستطع تجنب الضحك. فأنزله أوسيه على الأرض، ولم يتركه حتى تأكد أنه آمن.

خاطبه أبوه وهو يميل نحوه: «ليكن هذا درساً لك كي لا ترد بوقاحة».

أجابه أكوس وهو ينظر خلسةً وببراءة إليه: «هذه الوقاحة تسبّب اندفاع الدم كله نحو رأسك؟».

ابتسم أوسيه قائلاً: «بالضبط، عيد إزهار سعيد».

ردّ أكوس بابتسامة قائلاً: «لك أيضاً».

في تلك الليلة، سهر الجميع حتى وقت متأخر جداً، وغرق إيجيه وأوري في النوم وهما جالسان إلى طاولة المطبخ. فحملت الأم أوري إلى الأريكة في غرفة المعيشة، حيث أمضت أكثر من نصف لياليها في تلك الأيام، بدوره أيقظ الأب إيجيه. بعد ذلك، غادر الجميع بطريقة أو أخرى عدا أكوس وأمه. فقد كانا دائماً آخر من يبقى ساهراً.

شغّلت أمه الشاشة، فبدأت أخبار المجلس تظهر بصوت خافت غير واضح. فقد كان هناك تسع أمم في كواكب مختلفة في ذلك المجلس، كانت تلك الكواكب الأكبر والأكثر أهمية. ومن الناحية التقنية، كان كل بلد كوكبي مستقلاً، لكنّ المجلس نظّم التجارة، والسلاح، والمعاهدات، والسفر، وطبّق القوانين في ذلك الفضاء غير المُنتظم. تناولت الأخبار مشاكل الكواكب واحداً إثر آخر: نقص المياه في كوكب تيبيس، وابتكار طبي جديد في كوكب أوثير، وصعود القراصنة على إحدى السفن في مدار كوكب بيثا.

كانت أمه تفتح عبوات أعشاب جافة. في البداية، اعتقد أكوس أنها تود إعداد تونيك مُهدّئ، ليساعدهما على الاسترخاء، لكنها ذهبت فيما بعد إلى خزانة الصالة لتجلب جرّة أزهار الهشفلور، المخزّنة عند الرّف الأعلى.

قالت سيفا: «اعتقدت أننا سنجعل من درس اليوم، درساً خاصاً». كان يفكر بها بتلك الطريقة – باسمها التي تُدعى به، وليس كـأم – عندما كانت تعلمه بشأن الأزهار الجليدية. اعتادت قبل سنتين أن تسمي جلسات التخمير في آخر الليل دروساً كدعابة، لكنها الآن بدت جادة بالنسبة إلى أكوس. لقد صعب عليه قول ذلك، مع أم مثل أمه.

قالت له وهي تضع زوجاً من القفازات: «أخرج لوحاً خاصاً بالتقطيع واقطع لي بعض جذور الهارفا، فقد استخدمنا أزهار الهشفلور من قبل، أليس كذلك؟».

أجابها أكوس: «في إكسير النوم»، وفعل ما أمرته به، واقفاً إلى يسارها مع لوح التقطيع وسكّين وجذر هارفا وسخ ومُغبر. كان الجذر شديد البياض ومُغطى بطبقة ناعمة من الزغب.

أضافت قائلةً: «أعتقد أني أخبرتك أن هذا سيكون مفيداً في يوم ما. عندما تكون أكبر».

قال أكوس: «نعم لقد أخبرْتني، وأنت قلتِ (عندما تكون أكبر) في ذلك الوقت، أيضاً».

لوت شفتيها. لقد كان هذا أفضل ما يستطيع أكوس الحصول عليه من أمه.

قالت بجدية: «استخدم المكونات السابقة نفسها من أجل التسلية، ولكنك إن ضاعفت كمية الهاشفلور وأضفتها إلى نصف كمية جذور الهارفا ستحصل على سم زعاف هل تفهم؟».

ما إن بدأ أكوس بسؤالها: «لماذا...» حتى غيّرت الموضوع.

سألته وهي تضع بتلة من زهرة الهشفلور على لوح التقطيع الخاص بها. كانت حمراء اللون، وإنما ذابلة، بطول إبهامها تقريباً: «إذاً، ما الذي يشغل ذهنك الليلة؟».

أجابها أكوس: «لا شيء، ربما لأنّ الناس كانوا يحدقون إلينا في عيد الإزهار».

تنهدت وقالت: «إنهم مُهتمون جداً بالمُفضّل قدرياً. وأنا أحبّ أن أقول لك إنهم سيتوقفون عن التحديق يوماً ما، لكني أخشى أنك أنت بالذات... سوف تكون دائماً موضع تحديق».

أراد أن يسألها عن عبارة أنت بالذات التي شددت عليها، لكنه كان دائماً حذراً في التكلم مع أمه أثناء دروسها. فإذا سألها سؤالاً خاطئاً، تُنهي الدرس فجأةً. ولكن إن سألها السؤال الصحيح، فبإمكانه أن يكتشف أشياءً ما كان من المفروض أن يعرفها.

سألها: «وماذا عنك؟ أقصد، ما الذي يُبقي ذهنكِ مشغولاً الليلة؟».

كانت أمه تقطع بلطف والسكين تنقر تك تك على لوح التقطيع. كان يتحسّن، بالرغم من أنه لا يزال يقطع قطعاً كبيرة نسبياً من دون قصد: «آه، لقد ابتُليت اليوم بأفكار حول عائلة نوفاك».

كانت قدماها عاريتين، وأصابع كل قدم متجمعة. لقد كانت قدما كاهنة.

تابعت قائلة: «إنهم العائلة الحاكمة للـشوتيت، أرض الأعداء».

لقد كان الـشوتيت قوماً، وليسوا أمةً في كوكب، وكانوا معروفين بالشراسة والوحشية. وكانوا يشمون خطوطاً على أذرعهم لكل حياة ينتزعونها، حتى أنهم درّبوا أطفالهم على فن الحرب. وعاشوا على ثوفية، الكوكب ذاته، مثل أكوس وعائلته – رغم أنّ الـشوتيت لا يسمون هذا الكوكب «ثوفية»، أو يسمون أنفسهم «ثوفيين» – عبر امتداد كبير من الأعشاب الريشية. وهي نفس الأعشاب الريشية التي تحف بنوافذ منزل عائلة أكوس.

ماتت جدته – أم أبيه – في إحدى غزوات الشوتيت، وكانت مُسلّحة بسكين فقط، أو هذا ما قاله أبوه. ولا تزال مدينة هيسا تحمل ندبات من عنف الشوتيت، فأسماء المفقودين حُفرت على جدران حجرية منخفضة، والنوافذ المُحطمة رُممت ولم تُستبدل، وبذلك لايزال بإمكانك رؤية الشقوق.

أحياناً، في الجانب الآخر من العشب الريشي بالذات، تشعر وكأنهم قريبون بما يكفي للمسهم.

مضت سيفا في كلامها قائلةً: «هل كنت تعلم أنّ عائلة نوفاك مُفضلة قدرياً؟ تماماً مثلك ومثل أشقائك، فالكهنة لا يرون الأقدار دائماً في عائلة أخرى، ولكن هذا حدث معي. وعندما حدث، علمت بمنح عائلة نوفاك نفوذاً على حكومة الشوتيت، ليُمسكوا بالسلطة، التي كانت بين أيديهم منذ ذلك الوقت».

«لم أكن أعلم بإمكانية حدوث ذلك. أقصد أن تحصل عائلة جديدة فجأةً على أقدار».

قالت أمه: «حسناً، الموهوبون منّا، الذين بإمكانهم رؤية المستقبل لا يتحكمون بمن يحصل على القدر، فنحن نرى مئات الاحتمالات لأحداث مستقبلية. لكنّ القدر يحدث لشخص مُحدّد في كل نُسخة مُعينة من المستقبل الذي نراه، وهذا نادر جداً. وتلك الأقدار تُحدّد من هي العائلات المُفضلة قدرياً – وليس العكس».

لم يسبق أن فكر بالأمر بهذه الطريقة. فالناس كانوا يتكلمون عن الكهنة بأنهم يوزعون الأقدار كهدايا لأناس مهمين ومُميزين، لكن ما سمعه من أمه يعكس ذلك؛ فالأقدار هي التي جعلت عائلات مُعينة مُهمّة.

«إذاً أنتِ لم تري أقدارهم. أي أقدار عائلة نوفاك».

أومأت وقالت: «الابن والابنة فقط. رايزك وسايرا. الابن أكبر منك، والابنة بعمرك».

كان قد سمع باسميهما من قبل، إلى جانب بعض الشائعات السخيفة، من قبيل أنهما يخرجان الزبد من فيهما، أو أنهما يحتفظان بمُقل أعدائهم في جرّات، أو بعلامات تدلّ على القتل تمتد من المعصم وحتى الكتف. وربما هذه لا تبدو سخيفة جداً.

قالت الأم بلطف: «من السهل أن ترى في بعض الأحيان لماذا أصبح الناس على ما هم عليه، فرايزك وسايرا هما ابنا أحد الطغاة. أبوهما لازمِت، هو ابن امرأة قتلت إخوتها وأخواتها، فعدوى العنف تنتقل بالعدوى عبر الأجيال». هزت رأسها، وتمايل جسدها معه إلى الأمام والخلف، «وأنا أراه، أراه كله».

اختطف أكوس يدها وأمسك بها.

فقالت: «أنا آسفة يا أكوس». وهو لم يكن واثقاً إذا كانت تقول آسفة لأنها تكلمت كثيراً، أو بسبب شيء آخر، لكنّ ذلك لم يكن ذا أهمية حقاً.

وقفا حيث هما لبعض الوقت، يستمعان إلى تمتمة عناوين الأخبار، وبدا الليل أحلك ظلمة من قبل بطريقة أو بأخرى.

***********************************************

ملحوظة الرواية لديها 40 فصل وكل فصل 3000 كلمة وهي مترجمة سابقاً وليست من ترجمتي

2019/12/20 · 442 مشاهدة · 3595 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024