2 - الفصل الثاني: أكوس

قال أوسنو وهو ينفخ صدره: «حدث في منتصف الليل، كان لديّ خدش في ركبتي، وبدأ يحرقني. وفي الوقت الذي رفعت فيه البطانيات، كان الخدش قد شفي».

كان لقاعة الصف الدراسي جدار منحنٍ وجداران مستقيمان. وهناك فرن ضخم مُدعّم بحجارة نارية في المركز، وكانت المعلمة تدور دائماً حوله وهي تشرح الدروس وحذاؤها طويل الساق يحزّ على الأرض. وفي بعض الأحيان، كان أكوس يحصي عدد الدورات التي أنجزتها خلال حصة واحدة، ولم يكن العدد قليلاً.

وضعت الكراسي حول الفرن، وثبتت أمامها شاشات منحنية بدت كسطح طاولة، وكانت الدروس تظهر عليها، وحتى ذلك الحين لم تكن المعلمة قد حضرت اليوم.

قالت زميلة أخرى واسمها ريها: «أرنا إذاً». وكانت ريها تضع دائماً أوشحة عليها خرائط كوكب ثوفية، لقد كانت فتاة وطنية، ولم تكن تثق بأحد في عالمهم، وعندما كان أي منهم يدّعي شيئاً، كانت تغضّن أنفها المنمش إلى أن يثبت المدعي صحة ما ادعى.

غرس أوسنو سكين جيب صغيرة بإبهامه. فاندفع الدم من الجرح، فاستطاع الجميع بمن فيهم أكوس الجالس في الجهة الأخرى من الغرفة رؤية الجلد يلتحم مجدداً كما لو أنه سحاب بنطال يُغلق.

يحصل الجميع على هبة تيارية عندما يُصبحون أكبر عمراً، بعد تغيّر أجسادهم – وبما أن أكوس كان في الموسم الرابع عشر من عمره – وهذا يعني أنه لا يزال صغيراً– فلن يحصل على هذه الهبة قبل وقت طويل. وكانت هذه الهبة في بعض الأحيان تنتشر إلى سائر أفراد العائلة وتكون مفيدة بينما لا تكون كذلك في أحيان أخرى؛ لكن هبة أوسنو كانت مفيدة.

علّقت ريها قائلة: «هذا مذهل، لا أستطيع أن أصبر حتى تأتي هبتي. هل لديك فكرة ماذا ستكون؟».

كان أوسنو الفتى الأطول في الصف، وكان يقف إلى جانب من يتكلم معه وهكذا يمكن معرفة مع من يتكلم، وآخر مرة تكلم فيها مع أكوس كانت في الموسم الماضي. وقتها قالت أم أوسنو وهي تُغادر متحدثة عن أكوس: «بالنسبة إلى ابن مفضّل قدرياً، لا يبدو بهذه الأهمية، أليس كذلك؟».

قال أوسنو: «أكوس لطيف بما يكفي».

لكنّ أكوس لم يكن لطيفاً، وهذا بالضبط ما كان الناس يقولونه عن الأشخاص الهادئين.

وضع أوسنو يده فوق مسند كرسيه، وأبعد شعره الداكن عن عينيه قائلاً: «يقول أبي كلما عرفت نفسك بشكل أفضل، ستكون أقل اندهاشاً بهبتك».

هزّت ريها رأسها موافقةً، فتحركت ضفيرتها جيئةً وذهاباً خلف ظهرها. لقد راهن أكوس أنّ ريها وأوسنو سوف يتواعدان بحلول نهاية الموسم.

عندئذٍ أومضت الشاشة المُثبّتة بجانب الباب وانطفأت. كما باقي الأضواء في الصف، وتلك التي كانت متوهجة تحت الباب، وفي الممر أيضاً. تجمّد كل ما كانت ريها على وشك قوله على شفتيها. سمع أكوس صوتاً عالياً قادماً من القاعة والصرير الذي صدر من كرسيه عندما حركها بسرعة للخلف.

همس أوسنو مُحذّراً: «كيرسيث...!». لكنّ أكوس لم يكن واثقاً ما المخيف الذي رآه أوسنو عندما استرق النظر إلى الممر.

فتح الباب بما يكفي للسماح لجسده بالمرور، ومال نحو الممر الضيّق في الخارج. كان المبنى دائرياً، شأنه شأن معظم مباني هيسا، وكانت مكاتب المعلمين في المركز، والصفوف في المحيط، وهناك ممر يفصل بين الاثنين. عندما أُطفئت الأضواء، أصبح الظلام دامساً في الصف، وكان باستطاعته أن يرى فقط من خلال أضواء الطوارئ التي تتوهّج باللون البرتقالي أعلى كل مدخل درج.

«ما الذي يحدث؟». لقد ميّز الصوت؛ إنه صوت أوري. فقد انتقلت إلى داخل مسبح الأضواء البرتقالية بجانب بيت الدرج الشرقي. وبجانبها تقف عمتها بِدها، التي بدت شعثاء الشعر كما لم يرها من قبل، وأجزاء من شعرها تتدلى على وجهها هاربةً من ربطة شعرها، كما أنّ أزرار سترتها كانت مُزرّرة بشكل خاطئ.

قالت بدها: «أنتِ في خطر، لقد آن الوقت كي نفعل ما تدربّنا عليه».

احتجت أوري، «لماذا؟ تأتين وتخرجيني من الصف، أنت تريدينني أن أترك كل شيء، وكل الناس...».

«جميع المفضلين قدرياً، في خطر، هل تفهمين ذلك؟ وأنت مكشوفة. ويجب عليك الذهاب».

«وماذا بشأن آل كيرسيث؟ أليسوا في خطر أيضاً؟»

أمسكت بِدها بمرفق أوري وقادتها نحو بيت الدرج الشرقي قائلةً: «ليسوا في خطر مثلك». كان وجه أوري مُظلّلاً فلم يستطع أكوس رؤية تعابير وجهها. لكن قبل أن تختفي خلف الزاوية، التفتت وشعرها مُنسدل على وجهها وسترتها مُتدليّة فوق كتفها فاستطاع أن يرى ترقوتها.

كان واثقاً تماماً من أنّ عينيها لاقتا عينيه حينها، جاحظتين ومخيفتين. لكن كان من الصعب الكلام. وعندها صاح أحدهم باسم أكوس.

كانت سيسي تُسرع خارجةً من أحد مكاتب المركز. وهي ترتدي فستانها الرمادي السميك وتنتعل حذاءها الأسود طويل الساق وفمها مشدود.

قالت: «تعال، لقد تم استدعاؤنا إلى مكتب المدير. وأبي قادم الآن، باستطاعتنا انتظاره هناك».

«ماذا...» ابتدأ أكوس بالكلام، لكن كالعادة، كان يتكلم بنعومة ليستطيع معظم الناس الانتباه.

«تعالَ»، اندفعت سيسي عبر الباب الذي أغلقته لتوها. كان أكوس يفكر بشيء آخر. فـأوري مُفضّلة قدرياً. وكل الأضواء مُطفأة. ووالده قادم ليأخذهم. إذاً أوري في خطر وهو كذلك.

مشت سيسي في الممر نحو المدخل المظلم ثم، كان هناك باب مفتوح، ومصباح مضاء، فالتفت إيجيه نحوهما.

جلس المدير قبالته. ولم يكن أكوس يعرف اسمه، فهم يسمونه المدير، ولم يسبق له مقابلته إلا عندما يعلن عن شيء ما أو يصادفه في طريقه بينما يتوجه من مكان إلى آخر. ولم يكن أكوس يعيره أي اهتمام.

سأل أكوس: «ما الذي يحدث؟».

أجابه إيجيه وعيناه تنظران إلى المدير: «ما من أحد يعرف كما يبدو».

قال المدير: «سياسة هذه المدرسة ترك هذا النوع من الحالات لتقدير الأهالي». لقد كان الأولاد في بعض الأحيان يمزحون بأنّ للمدير أجزاء آلية بدلاً من اللحم، وأنك إذا جرحته فستندفع أسلاكه إلى الخارج. وأياً يكن الأمر، كان يتكلّم مثل رجل آلي.

قال له إيجيه بطريقة أمه: «وأنت لا تستطيع أن تقول ما هو نوع هذه الحالة؟». فتساءل أكوس في قرارة نفسه، أيا يكن الأمر أين أمي؟ كان والدهم قادماً من أجلهم، لكنّ أحداً لم يذكر أي شيء عن أمهم.

نادت سيسي: «إيجيه»، فنبّه صوتها الهامس أكوس أيضاً. وكأنها همست بطنين التيار في داخله، مُحرّكةً إياه بما يكفي. استمرّت التعويذة لفترة من الزمن، كان المدير وإيجيه وسيسي وأكوس هادئين وهم في حالة انتظار.

أخيراً قال إيجيه: «بدأ الجو يبرد»، وكان هناك تيار هوائي يمر من تحت الباب، وهذا ما أدى لتجمد كاحلي أكوس.

قال المدير: «أعلم ذلك، فقد توجّب عليّ أن أقطع الطاقة، وستبقى مقطوعة إلى أن تغادروا آمنين في طريقكم عندها سأُعيد تشغيلها».

سألت سيسي بلطف: «لقد قطعت الطاقة من أجلنا؟ لماذا؟» وبالطريقة المتملقة عينها التي تستخدمها عندما تريد أن تبقى ساهرة إلى وقت مُتأخر أو تأخذ قطعة حلوى إضافية بعد الطعام. ذلك لم يكن يؤتي أُكُله مع والديها، لكنّ المدير ذاب مثل الشمعة. توقع أكوس بشكل جزئي، وجود بركة من الشمع مُنتشرة تحت مكتبه.

أجابها المدير بلطف: «الطريقة الوحيدة لإطفاء الشاشات أثناء الإنذارات الطارئة من المجلس، هي بقطع الطاقة».

فقالت سيسي وهي لا تزال تتملّق: «إذاً كان هناك إنذار طارئ».

«نعم، أطلقه زعيم المجلس هذا الصباح».

تبادل إيجيه وأكوس النظرات. بينما ابتسمت سيسي بهدوء ويداها مرتاحتان على ركبتيها. في هذا الضوء، وبشعرها المُجعّد المُتناسق مع وجهها، كانت ابنة أوسيه، لا أكثر ولا أقل. فوالدهم يستطيع الحصول على ما يريد أيضاً، فبالابتسامات والضحكات، تُهدئ الناس، والقلوب والأوضاع دائماً.

كان هناك قبضة ثقيلة تطرق على باب المدير، مانعةً رجل الشمع من الذوبان أكثر. فعرف أكوس أنه والده لأنّ مطرقة الباب سقطت عند الضربة الأخيرة، وتشقّقت الصفيحة المعدنية التي تثبّتها في الباب من منتصفها. لم يكن بوسعه السيطرة على أعصابه، كما أنّ هبة التيار الخاصة به جعلت ذلك واضحاً تماماً. فلطالما كان والدهم يصلح الأشياء، لكن نصف ما أصلحه كان هو من كسره.

قال بغموض وهو يدخل الغرفة: «آسف». أعاد مطرقة الباب إلى مكانها وتتبّع أثر الشق بطرف إصبعه. فالتحمت الصفيحة وإن لم تعد ملساء كسابق عهدها إلا أنها أصبحت وكأنها جديدة. لطالما أكدت أمهم أنه لم يكن دائماً يُصلح الأشياء بشكل جيد، وخير دليل على قولها أطباق العشاء غير المتساوية ومقابض الكؤوس الخشنة.

ابتدأ المدير قائلاً: «سيد كيرسيث».

فرد والدهم من دون أن تفتر ابتسامة على شفتيه، «شكراً أيها المدير، لتفاعلك السريع». كانت سمات الجدّية على وجهه هي ما أخافت أكوس أكثر من الممرات المظلمة أو عمة أوري التي تصرخ أو فم سيسي المزموم. فوالدهم كان دائم الابتسام، حتى عندما لا يكون الظرف مؤاتياً. وهذا ما كانت تسميه أمهم بأفضل دروعه. قال أوسيه بفتور: «دعونا نعد إلى المنزل يا صغاري».

وقفوا وساروا باتجاه مدخل المدرسة حالما ذكر المنزل. وذهبوا مباشرةً نحو خزائن المعاطف ليبحثوا عن كرات الفرو التي أسماؤهم مخاطة على ياقاتها: كيرسيث، كيرسيث، كيرسيث. لقد احتار أكوس وسيسي بمعطفيهما قليلاً وتوجّب عليهما التبادل، فذراعا أكوس أقصر بعض الشيء من ذراعيها.

كانت العوامة في الخارج، والباب مفتوحاً على مصراعيه. وهي أكبر بقليل من معظم العوامات، وكانت بقع الأوساخ تغطي أجزاءها المعدنية الخارجية. لم تكن نشرة الأخبار التي تُعرض في العادة على شكل سلسلة من الكلمات داخل العوامة بوضعية التشغيل. وكذلك الأمر بالنسبة إلى شاشة الملاحة فهي مغلقة. وكان أوسيه يضغط على الأزرار ويحرك الروافع ويلمس أجهزة التحكم، ولم يكونوا على بينة بما يقوم به لأن الشاشات كانت مغلقة. لم يضعوا أحزمة الأمان، فقد شعر أكوس أنه من الغباء إضاعة الوقت.

بدأ إيجيه بالكلام: «أبي».

عندها قال أوسيه: «لقد تعهّد المجلس بإعلان أقدار السلالات المُفضّلة هذا الصباح، فالكهنة تشاركوا الأقدار بشكل سري مع المجلس منذ سنة، كعلامة على الثقة. في العادة لا يُعلن قدر الناس إلا بعد موتهم، الذي لا يعلم به وهم أحياء إلا هم وعائلاتهم فقط، لكن الآن...» كانت عيناه تلتقيان نظرة خاطفة على كل واحد منهم بدوره، «سيعلم الجميع أقداركم».

سأل أكوس بهمس: «ما هي أقدارنا؟». في الوقت الذي سألته فيه سيسي: «لماذا هذا خطير؟».

أجابها أبوها قائلاً: «ليس الأمر خطيراً بالنسبة إلى كل من لديه قدر، لكنه خطير بالنسبة إلى البعض».

كان أكوس يُفكّر بعمة أوري التي تسحبها من مرفقها نحو بيت الدرج وهي تقول: أنت مكشوفة. يجب أن تذهبي.

لدى أوري قدر خطير. لكن بحسب ما يتذكر أكوس، ليس هناك ذكر لعائلة «ريدنيلز» في قائمة سلالات المُفضّلين. لابدّ وأنه ليس اسمها الحقيقي.

سأله إيجيه: «ما هي أقدارنا؟». حسده أكوس على صوته المرتفع الواضح. في بعض الأحيان عندما كانا يسهران أكثر من الوقت المُفترض، يحاول إيجيه الهمس، لكن ينتهي الأمر دائماً بوجود أحد والديهما على باب غرفتهما ليطلب منهما السكوت سريعاً. وبالتالي لم يكن يستطيع الاحتفاظ بالأسرار بخلاف أكوس، ولهذا لم يُخبر أكوس الآخرين عن أوري بعد.

طارت العوامة بسرعة فوق حقول الأزهار الجليدية التي كان الأب يُديرها. فهي تمتد لأميال في كل الاتجاهات، مُقسّمة بأسيجة من الأسلاك المُنخفضة: أزهار الغيرة الصفراء، وأزهار الطهارة البيضاء، ودوالي الهارفا، وأوراق سندس البنية، وأزهار الهشفلور المحمية بقفص من الأسلاك مع تيار يمرّ عبرها. فقبل أن يضعوا القفص السلكي، اعتاد الناس أن يُنهوا حياتهم بالركض مباشرةً نحو حقول أزهار الهشفلور والموت هناك بين البتلات المُتوهجّة، فالسم المنبعث منها يجعلهم يموتون بعد أن يستنشقوا عدة أنفاس. لم يبدُ الموت بهذه الطريقة سيئاً لأكوس. فهي انتقال من حالة اليقظة إلى النوم والأزهار تحيط بك والسماء البيضاء من فوقك.

قال الأب وهو يحاول أن يبدو مبتهجاً: «سأخبرك عندما نصبح سالمين ومُعافين».

سأل أكوس: «أين أمي؟» وهذه المرة سمعه أوسيه.

«إنها...» ضغط أوسيه على أسنانه، وفُتح شق ضخم في المقعد من تحته، مثل سطح رغيف الخبز الذي يتفسخ في الفرن. فأطلق شتيمة، ومرّر يده فوقه ليُصلحه. نظر أكوس إليه وهو خائف، متسائلاً عن سبب غضبه.

«لا أدري أين هي، أنا واثق أنها بخير».

قال أكوس: «ألم تنبّهك إلى الأمر؟».

همست سيسي: «ربما لم تكن تعلم».

لكنهم جميعاً يعلمون كم كان جوابها خاطئاً. فـسيفا دائماً تعلم، دائماً.

قال أوسيه وهو أهدأ قليلاً: «كل ما تقدم عليه أمك له سبب، ونحن لا نستطيع معرفته في بعض الأحيان، ولكن يجب علينا الوثوق بها حتى عندما يكون ذلك صعباً».

لم يكن أكوس واثقاً من أنّ أباه يعتقد بذلك. وكأنه يقول ذلك ليُذكّر نفسه فقط.

هبط أوسيه بالعوامة فوق المرج الأخضر الأمامي، ساحقاً سنابل وسويقات العشب الريشي. لقد امتدّ العشب الريشي خلف منزلهم بقدر ما أتاحت عينا أكوس الرؤية. هناك أشياء غريبة تحصل للناس أحياناً بين الأعشاب. فهم يسمعون همسات، أو يرون أشكالاً قاتمة بين السويقات، وهم يتقدمون بصعوبة خلال الثلج، بعيداً عن الطريق، فتبتلعهم الأرض. وبين الحين والآخر كانوا يسمعون قصصاً حول ذلك، أو يكتشف أحدهم هيكلاً عظمياً كاملاً. إنّ العيش بشكل قريب من العشب الطويل كما عاش أكوس، جعله يعتاد على تجاهل الوجوه التي تندفع نحوه بقوة من كل الاتجاهات، وهي تهمس باسمه. وفي بعض الأحيان كانت واضحة بما يكفي ليتم تحديدها: أجداد موتى، أمه أو أبوه ولكنهما يبدوان جثتين، وأولاد كانوا سيئين معه في المدرسة يراهم يجلدون بالسياط.

لكن عندما خرج أكوس من العوامة، ومدّ يده ليلمس السنابل التي فوقه، أدرك على الفور أنه لم يكن يرى أو يسمع أي شيء. بعد ذلك. توقف وأخذ يفتش بين الأعشاب عن علامة للهلوسة في أي مكان. لكن لم يكن هناك أي منها.

همس إيجيه: «أكوس!»

غريب.

لحق بـإيجيه إلى الباب الأمامي، ففتحه أوسيه، وتكوّموا جميعاً في الردهة ليخلعوا معاطفهم. وما إنّ تنفّس الهواء الداخلي، حتى أدرك أنّ هناك شيئاً ما غريباً. فمن المعتاد أن تعبق في منزلهم رائحة التوابل الحارة، مثل رائحة خبز الفطور الذي يحب والدهم إعداده في الشهور الأكثر برودة، لكنّ الرائحة الآن تبدو مثل زيوت الآلات والعرق. شعر أكوس بشيء بداخله يعتصره.

قال: «أبي»، عندما كان أوسيه يلمس أحد أزرار الإضاءة.

صرخ إيجيه، واختنقت سيسي، ووقف أكوس بلا حراك.

كان هناك ثلاثة رجال يقفون في غرفة معيشتهم. أحدهم طويل ونحيل، وآخر أكثر طولاً وعريضاً، والثالث، قصير وسمين. وثلاثتهم يرتدون دروعاً تلمع في ضوء الأحجار النارية الصفراء بشكل داكن إلى درجة بدا لونها أسود، إلا أنها كانت في الحقيقة قاتمة، زرقاء قاتمة. كانوا يحملون سكاكين تياريّة، والمعدن مشبوك في قبضاتهم وحلقات التيار الحلزونية السوداء ملفوفة حول أيديهم، تشدّ الأسلحة إليها. لقد رأى أكوس سكاكين مثلها من قبل، لكن فقط في أيدي الجنود الذي يجرون دوريات في هيسا. فهم لم يكونوا بحاجة إلى سكاكين تيارية في منزل كمنزلهم يسكنه مزارع وكاهنة.

لقد أدرك أكوس ماهية الوضع دون أن يعرفه بشكل حقيقي: إنهم رجال من الشوتيت. أعداء ثوفية، أعداؤهم. وأمثالهم كانوا مسؤولين عن كل شمعة أُضيئت عند النُصب التذكاري لغزو الشوتيت، فقد أحدثوا شقوقاً في أبنية هيسا وحطّموا زجاجها بحيث أصبحت تُري خيالات ممزقة، كما قتلوا الأشجع والأقوى والأشرس، وتركوا عائلاتهم يبكونهم. وكانت جدة أكوس إحدى ضحاياهم، على حد زعم والدهم.

سألهم أوسيه بتوتر: «ما الذي تفعلونه هنا؟» بدت غرفة المعيشة وكأنها لم تُلمس، فالوسائد لاتزال مرتبة حول الطاولة، وبطانية الفراء مجعدة حيث تركتها سيسي عندما كانت تقرأ بجانب النار التي كانت جذوتها لاتزال متوهجة، وكان الهواء بارداً. وقف والدهم أمامهم وحجبهم بجسده.

سأل أحد الرجال الآخرين: «ما من امرأة بينهم، أتساءل أين هي؟».

فأجاب أحد الآخرين: «ليس من السهل الإمساك بكاهنة».

خاطبهم أوسيه بصرامة أكثر هذه المرة: «أعرف أنكم تتكلمون لغتنا، فتوقفوا عن البربرة وكأنكم لا تفهمون ما أقول».

قطّب أكوس حاجبيه، ألم يسمعهم والدهم وهم يتحدثون عن زوجته؟

قال أطولهم: «تبدو لهجة هذا الشخص آمرة حقاً». ولاحظ أكوس أنّ عينيه ذهبيتان، مثل المعدن المصهور.

«ما اسمه؟».

أجابه أقصرهم: «أوسيه». وكانت الندبات وآثار الجروح الغائرة الصغيرة تغطي معظم وجهه. لاحظ أكوس أن الجلد حول عيني أطولهم كان متغضناً، وعندما تلفظ باسم والدهم لم يلفظه بطريقة سليمة.

قال الرجل ذو العينين الذهبيتين: «أوسيه كيرسيث»، وهذه المرة بدا... مختلفاً. وكأنه فجأةً يتكلم بلكنة ثقيلة. لكنه لم يكن يملكها من قبل، فكيف يمكن لهذا أن يحدث؟ «أنا فاس كوزار».

أجابه أوسيه: «أعلم من تكون، فأنا لست نعامة أعيش ورأسي مدفون في التراب».

خاطب فاس الرجل الأقصر قائلاً: «اقبض عليه». فاندفع نحو أوسيه. تراجع سيسي وأكوس عندما بدأ أوسيه التعارك مع جندي الشوتيت، وتشابكت أيديهما. صرّ أوسيه على أسنانه فتكسّرت المرآة في غرفة المعيشة، وتطايرت أجزاؤها في كل مكان، وانشقّ إطار الصورة الموضوعة على رف الموقدة إلى نصفين، تلك الصورة التي تعود ليوم زفافه. لكن لايزال جندي الشوتيت يُمسك بـأوسيه ويصارعه في غرفة المعيشة تاركاً ثلاثتهم، إيجيه وسيسي وأكوس مكشوفين.

لقد أجبر الجندي الأقصر والدهم على الركوع، ووضع سكيناً تيارياً على حنجرته.

قال فاس للجندي النحيل: «تأكد من عدم مغادرة الأولاد». عندئذٍ فقط تذكّر أكوس الباب الذي خلفه. فأمسك قبضة الباب وحرّكها. وفي الوقت الذي سحب الباب فيه، أمسكت يد قاسية بكتفه، ورفعه الشوتيت عالياً بيد واحدة، فآلمته كتفه وركل الرجل على ساقه بقوة. فضحك الشوتيت.

بصق الجندي وقال: «أيها الفتى النحيل الصغير، من الأفضل لك ولأخويك المثيرين للشفقة، أن تستسلموا الآن».

قال أكوس: «نحن لسنا مثيرين للشفقة!». لقد كان شيئاً غبياً ليُقال، شيئاً ما قاله ولد صغير لا يعرف كيفية الفوز بنزال. لكن لسبب ما، أوقفَ الجميع في أماكنهم. ليس الرجل الذي يُمسك بذراع أكوس فقط، بل سيسي وإيجيه وأوسيه أيضاً. وحدّق الجميع إلى أكوس و – اللعنة على الجميع – كانت الحرارة تندفع إلى وجهه، وكان احمرار الوجه الأسوأ توقيتاً الذي شعر به في حياته على الإطلاق، والذي كان يقول شيئاً ما.

عندئذٍ ضحك فاس كوزار.

قال فاس لأوسيه، «أفترض أنه ابنك الأصغر، هل تعلم أنه يتكلم لغة الشوتيت؟».

فقال أكوس بوهن: «لا أتكلم لغة الشوتيت».

قال فاس: «لقد تكلّمت للتو، أتساءل كيف ترى عائلة كيرسيث نفسها مع ابن تجري دماء الشوتيت في عروقه؟»

همس إيجيه بتعجّب: «أكوس». وكأنه يسأل أكوس سؤالاً.

فانتفض أكوس قائلاً: «لا يجري دم الشوتيت في عروقي». ضحك جنود الشوتيت الثلاثة معاً. عندها فقط سمع أكوس؛ سمع الكلمات التي تخرج من فمه، بمعانيها الأكيدة، وسمع مقاطعها اللفظية أيضاً، بتوقفاتها المفاجئة وحروفها المتحركة. لقد سمع لغة الشوتيت، اللغة التي لم يتعلمها. بخلاف اللغة الثوفية اللطيفة تماماً، التي كانت مثل ندف الثلج التي تحملها الرياح في تيارها الصاعد.

كان يتكلم لغة الشوتيت، فقد بدا مثل الجنود تماماً. لكن كيف؟ كيف أمكنه تكلّم لغة لم يتعلمها؟

سأل فاس مُحوّلاً انتباهه مرةً أخرى إلى أوسيه: «أين زوجتك يا أوسيه؟». وأرجع السكين التيارية إلى قبضته، هكذا تحرّكت الحلزونات السوداء فوق جلده. «بإمكاننا أن نسألها إن داعبت أحد رجال الشوتيت، أو أنها تُشارك أسلافنا الرائعين ولم ترَ أنه من المناسب إخبارك عن ذلك. ومن المؤكد أنّ الكاهنة تعرف كيف حدث أنّ ابنها الصغير طليق باللغة الإيحائية».

أجابه أوسيه باقتضاب: «ليست هنا، ربما لاحظت ذلك».

قال فاس: «يعتقد الثوفي أنه ذكي؟ أظنّ أنّ التذاكي مع الأعداء يتسبّب بقتل المتذاكي».

قال أوسيه: «أنا واثق أنك تفكر بكثير من الأشياء الحقيرة». وبطريقة ما استطاع إخضاع فاس بالتحديق إليه رغم كونه على الأرض تحت قدميه. «يا خادم عائلة نوفاك. أنت مثل الوسخ الذي أُزيله من تحت أظافري».

هجم فاس ولكم بشدة وجه أوسيه فأسقطه جانباً. عندها صرخ إيجيه، وهو يصارع ليكون أقرب لأبيه لكن اعترضه الشوتيت الذي يمسك بذراع أكوس. لقد أمسك بكلا الأخوين من دون جهد، بالرغم من أنّ إيجيه في الموسم السادس عشر، وكان تقريباً بحجم رجل.

تشقّق وسط الطاولة قليلة الارتفاع في غرفة المعيشة، قبل أن تنقسم إلى قسمين ويسقط كل منهما على حدة، وتتبعثر كل الأشياء الصغيرة التي كانت على سطحها على الأرض؛ كأس قديمة، وكتاب، وبعض بقايا الخشب من نحت والدهم، كلها تبعثرت على الأرض.

قال فاس بصوت منخفض: «لو كنت مكانك، لكنتُ احتفظت بالهبة التيارية قيد التحكم، يا أوسيه».

أمسك أوسيه وجهه بإحكام للحظة، ثم انقضّ وأمسك برسغ القصير وسحب جندي الشوتيت البعيد قليلاً لاوياً معصمه بقوة، فتراخت قبضته. فحرر أوسيه السكين من قبضته ثم عكس اتجاهها نحو من كان يُمسكها، ورفع حاجبيه.

حثه فاس: «هيا اقتله، فلدينا العشرات من أمثاله، لكنك تملك عدداً محدوداً من الأبناء».

كانت شفة أوسيه مُتورّمة والدم ينزف منها، لكنه لعق الدم بطرف لسانه ونظر من خلف كتفه إلى فاس.

قال أوسيه: «لا أعرف أين هي، كان عليك أن تبحث في المعبد. هذا آخر مكان سوف تأتي إليه، إن كانت تعلم أنك في طريقك إلى هنا».

سخر فاس من السكين التي في يده، فقال بلغة الشوتيت وهو ينظر إلى الجندي الذي يمسك أكوس بيد ويضغط إيجيه على الحائط باليد الأخرى، «أفترض أنّ ذلك جيد أيضاً، أولويتنا هي الصغير».

أجابه الجندي باللغة نفسها وهو يهزّ أكوس من ذراعه مرة أخرى: «نحن نعرف من هو الأصغر، ولكن بين الاثنين الآخرين من الأصغر؟».

فقال أكوس بيأس: «أبي، يريدون أن يعرفوا عن الولد الأصغر. يريدون أن يعرفوا من منهما الأصغر...».

أطلق الجندي سراح أكوس، وصفعه بظهر يده على عظم وجنته. فترنّح أكوس وارتطم بالجدار، واختنقت سيسي بتنهّدها وانحنت عليه وداعبت أصابعها وجه أخيها.

صرخ أوسيه من خلال أسنانه واندفع غارزاً السكين التيارية المسروقة عميقاً في جسد فاس، تحت الدرع مباشرةً.

لم يتأثر فاس حتى أنه لم يجفل. ابتسم فقط ولفّ يده حول مقبض السكين، وسحبها بقوة. كان أوسيه مذهولاً جداً. فتدفق الدم من الجرح مُبلّلاً سروال فاس الداكن.

قال فاس بنعومة: «أنت تعرف اسمي لكنك لا تعرف هبتي؟ أنا لا أشعر بالألم، أتذكُر؟».

أمسك بمرفق أوسيه مرة أخرى، وسحب ذراعه بعيداً عن جنبه وغرز السكين في الجانب اللحمي من ذراع أوسيه وسحبها إلى الأسفل جاعلاً إياه يتأوه مثلما لم يسمعه أكوس في حياته أبداً. فتناثر الدم على الأرض. وصرخ إيجيه ثانيةً، وبدأ يضرب بعنف، وكانت سيسي تتلوى من الألم لكن بصمت.

لم يستطع أكوس تحمّل المشهد، فخرّ على قدميه. وبالرغم من أنّ وجهه لايزال يؤلمه، إلا أنه لم يكن هنا جدوى من تحركه ولم يكن بإمكانه القيام بشيء.

قال بهدوء: «إيجيه، اهرب».

ورمى بجسده على فاس، قاصداً إدخال أصابعه في الجرح الذي في خاصرة الرجل عميقاً وعميقاً إلى أن يستطيع تحطيم عظامه، وتمزيق قلبه.

حصل شجار وصراخ وتنهّد. تجمّعت كل الأصوات في أُذني أكوس، مليئة بالرعب. فلكم من دون فائدة على الدرع الذي يُغطي خاصرة فاس. لقد تسبّبت الضربة بارتجاج يده. فأتى الجندي ذو الوجه المليء بالندبات إليه ورماه أرضاً مثل كيس طحين. وضغط بحذائه طويل الساق على وجه أكوس. فشعر بحبيبات الوسخ على جلده.

صرخ إيجيه: «أبي! أبي!».

لم يستطع أكوس تحريك رأسه، لكن عندما رفع عينيه، شاهد والده على الأرض في منتصف المسافة بين الجدار والمدخل، كان مرفقه مُنثنياً بزاوية غريبة. وانتشر الدم مثل هالةٍ حول رأسه. فانحنت سيسي إلى جانب أوسيه ويداها المرتجفتان تحومان حول الجرح الذي في حنجرته. كان فاس واقفاً فوقها حاملاً بيده سكيناً تقطر دماً.

كان أكوس يتلوى أرضاً.

قال فاس: «أوقفه على قدميه، يا سوزاو».

سوزاو – الشخص الذي كان حذاؤه يحفر في وجه أكوس – رفع قدمه وجرّ أكوس على قدميه. لم يكن باستطاعته رفع عينيه عن جسد أبيه، فقد كان جلده مهشماً مثل الطاولة في غرفة المعيشة، وكان مقدار الدم الذي يحيط به – كيف لشخص ما أن يكون لديه هذه الكمية الكبيرة من الدماء؟ – بلونه البني المحمر المائل إلى البرتقالي الداكن، كبيراً.

لا يزال فاس يحمل السكين المُلطّخة بالدم، ويداه رطبتان.

سأل فاس الشوتيت الطويل: «هل انتهى الخطر؟». كان قد أمسك بإيجيه ووضع قيداً معدنياً على رسغيه. لو قاوم إيجيه، في البداية، لكان انتهى الآن، وهو يُحدّق بتبلّد إلى أبيه، المطروح أرضاً في غرفة المعيشة.

قال فاس لأكوس: «أشكرك على جوابك عن سؤالي حول مَن مِن شقيقيك الذي نبحث عنه، يبدو أنّ كليكما ستأتيان معنا بسبب قدريكما».

أحاط سوزاو وفاس بأكوس، ودفعاه إلى الأمام. وفي اللحظة الأخيرة انهار وسقط على ركبتيه بجانب والده ولمس وجهه. بدا أوسيه دافئاً ورطباً. وكانت عيناه مفتوحتين وكان على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، مثل مياه تنحدر في مصرف. ثم قفزا على إيجيه الذي كان قد خرج تقريباً من الباب الأمامي، واقتيد للأمام من قِبل جنود الشوتيت.

قال أكوس وهو يُحرك رأس والده قليلاً كي ينظر إليه: «سأُعيده إلى المنزل، سأعيده».

لم يكن أكوس هناك عندما فارق والده الحياة، كان في العشب الريشي، بين يدي أعدائه

2019/12/20 · 347 مشاهدة · 3581 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024