3 - الفصل الثالث: سايرا

كنتُ في الموسم السادس من العمر عندما قمتُ برحلة إقامتي المؤقتة الأولى. وعندما خرجتُ، توقعتُ أن أخرج إلى ضوء الشمس. لكن بدلاً من ذلك، دخلتُ إلى ظلمة سفينة الإقامة المؤقتة، التي تغطي مدينة فوا – عاصمة الشوتيت – مثل غيمة ضخمة. كانت مستطيلة وتغطي أعلى مقدمتها ألواح زجاجية غير قابلة للكسر. وكانت الصفائح المعدنية التي تغطي سطحها مخدوشة بسبب عقد أو أكثر من السفر عبر الفضاء، لكن تمّ تلميع بعض الصفائح المتداخلة التي استُبدلت. سوف نكون واقفين داخلها قريباً، مثل طعام ممضوغ في معدة وحش كبير. وقرب النفاثات الخلفية تقع المحطة المفتوحة التي سنعبر من خلالها عما قريب.

سُمح لمعظم أطفال الشوتيت بالذهاب في رحلة إقامتهم المؤقتة الأولى – طقسنا البالغ الأهمية – عندما يبلغون الموسم الثامن من العمر. لكن كابنة للملك لازمِت نوفاك، حُضّرت لرحلة إقامتي المؤقتة الأولى عبر المجرّة أبكر بموسمين. سنلحق بالدفق التياري حول طرف المجرة إلى أن يتحوّل إلى اللون الأزرق الداكن، ومن ثم نهبط على سطح أحد الكواكب، للبحث عن أشياء مفيدة، وهو الجزء الثاني من الطقس.

من التقليدي بالنسبة إلى الملك وعائلته – أو الملكة وعائلتها– أن يدخلوا سفينة الإقامة المؤقتة أولاً، أو أخيراً، فقد أصبح ذلك تقليدياً منذ أيام جدتي، أول قائد للشوتيت من النوفاك، التي طلبت أن يكون الأمر على هذا الشكل.

قلتُ لأمي: «أشعر بحكة في فروة رأسي»، وأنا أُربّتُ بطرف إصبعي على الجدائل المُثبّتة بإحكام على طرف رأسي. كان هناك القليل فقط من الشعر المسحوب إلى الخلف والمربوط حتى لا ينسدل على وجهي.

«ما المشكلة في شعري العادي؟».

ابتسمت أمي لي. كانت ترتدي فستاناً مصنوعاً من العشب الريشي، والسويقات تتصالب مع صدره وتمتدّ لتُشكّل إطاراً على وجهها. لقد علمتني مربيتي أوتيجا – من بين أشياء أخرى – أنّ الشوتيت قاموا بزراعة محيط من العشب الريشي بيننا وبين أعدائنا، الثوفيين، لمنعهم من غزو أرضنا. وأمي أحيت ذكرى هذا القانون الآن، بفستانها. وبشكل مقصود، كل شيء فعلته أمي كان يكرّر تاريخنا.

قالت أمي: «اليوم، هو اليوم الأول الذي سوف ينظر فيه معظم الشوتيت إليك، إن لم نقل بقية المجرة. وآخر شيء نريده هو أن يُحملقوا إلى شعرك. وبترتيبه بهذا الشكل، نجعله مخفياً. هل تفهمين؟».

لم أفهم، لكني لم أُصرّ على هذا الموضوع. فقد كنتُ أنظر إلى شعر أمي الذي كان داكناً مثل شعري، لكن بملمس مختلف. كان شعرها مُجعّداً كثيراً بحيث تعلق الأصابع فيه، بينما كان شعري سابلاً بما يكفي لتعبره الأصابع.

«بقية المجرة؟» من الناحية التقنية، كنت أعرف كم هي المجرة واسعة، إذ تضم تسعة كواكب رئيسية وعدداً لا يُحصى من الكواكب الهامشية، إضافة إلى محطات تقع في الصخور الموحشة للأقمار المتحطمة، وسفن مداريّة كبيرة للغاية تشبه البلدان الكوكبية بحد ذاتها. لكن بالنسبة إليّ، لاتزال الكواكب ضخمة بقدر المنزل الذي أمضيتُ فيه معظم حياتي.

أجابتني أمي: «لقد سمح والدك بإرسال لقطات الموكب عبر نشرات الأخبار العامة، تلك التي تراها كل كواكب المجلس، فكل من هو مُهتم بطقوسنا سيشاهد».

حتى في ذلك العمر لم أكن أفترض بأنّ الكواكب الأخرى مشابهة لكوكبنا. كنتُ أعرف أننا فريدون في مطاردتنا للتيار عبر المجرة، وأنّ انفصالنا عن الأماكن والممتلكات كان غريباً. ومن الطبيعي أنّ الكواكب الأخرى كانت فضولية بشأننا، وربما تحسدنا أيضاً.

منذ وُجد شعبنا، والشوتيت يذهبون في رحلة الإقامة المؤقتة مرة واحدة كل موسم. ذات مرة أخبرتني أوتيجا أنّ الإقامة المؤقتة لها علاقة بالعرف، والبحث عن الأشياء المفيدة، ما أتى بعد ذلك، كان له علاقة بالتجديد؛ بحيث يجمع الماضي والحاضر في طقس واحد. لكني سمعت أبي يقول بمرارة إننا «نعيش على فضلات الكواكب الأخرى». لقد كان لأبي طريقة معينة في تجريد الأشياء من جمالها.

كان أبي؛ لازمِت نوفاك أول من عبر البوابات الكبيرة التي تفصل قصر مانور عن شوارع فوا. ارتفعت يده لإلقاء التحية، فهتف له الحشد الكبير المتجمع أمام القصر. لقد كان الحشد كبيراً لدرجة أن المناكب المتراصة حجبت الضوء أمامنا، ولم يعد بإمكاني سماع صوت أفكاري من كثرة الهتافات المتباينة النغمة. يبعد مركز مدينة فوا، عدة شوارع عن المدرج حيث تُقام تحديات الحلبة. كانت الشوارع نظيفة، وتنوعت الأبنية بين قديم وحديث. كان مزيجاً انتقائياً طبيعياً بالنسبة إليّ مثل جسدي ذاته. فقد عرفنا كيف نُقدّر جمال الأشياء القديمة مقارنةً بجمال الحديثة منها، فلا نفقد أي شيء من الاثنين.

أمي هي من نالت أعلى الصيحات من بحر رعاياها وليس أبي. فمدّت يديها للناس الذين مدوا أيديهم إليها، لامسين أصابعها بأناملهم وهم مبتسمون. بدا الأمر وكأن بحيرة تكونت عندما بكت العيون فرحاً لرؤيتها لوحدها، وصدحت الحناجر باسمها. إليرا، إليرا، إليرا. فاقتلعتْ سويقة من العشب الريشي من أسفل تنورتها ووضعتها خلف أذن إحدى الفتيات الصغيرات. إليرا، إليرا، إليرا.

ركضتُ إلى الأمام لألحق بأخي رايزك، الذي كان أكبر مني بعشرة مواسم كاملة. كان يرتدي درعاً مزيفاً – لم يستحق بعد الدرع المصنوع من جلد أحد المُدرّعين المقتولين، الذي اعتبره شعبنا رمزاً للهيبة– وهذا ما جعله يبدو أضخم من المعتاد، لقد ظننت أن ذلك كان مقصوداً، لأن رايزك كان طويلاً وشديد النحول.

سألتُ رايزك وأنا أتعثّر كي ألحق بخطوته: «لماذا يهتفون باسمها؟».

قال رايزك: «لأنهم يحبونها، تماماً كما نحبها».

قلتُ له: «لكنهم لا يعرفونها».

أيدني قائلاً: «هذا صحيح، لكنهم يعتقدون أنهم يحبونها، وهذا يكفي أحياناً».

لقد تلطّخت أصابع أمي بالطلاء جراء لمس كثير من الأيادي الممدودة والمُزيّنة. ولا أظنّ أني أحب أن ألمس هذا العدد الكبير من الناس دفعة واحدة.

كنا مُحاطين بجنود مُدرعين شقّوا ممراً ضيقاً لنا بين الجموع. في الواقع، لم أعتقد أننا بحاجة إليهم، لقد تفرّق الحشد أمام أبي وكأنه كان سكيناً يشق صفوفهم. ربما لم يهتفوا باسمه، لكنهم أحنوا رؤوسهم له، وأشاحوا بعيونهم بعيداً عنه. لقد رأيتُ للمرة الأولى، كم كان الحد الفاصل رفيعاً بين الخوف والحب، بين التبجيل والافتتان. كان هذا الحد موجوداً بين والدي.

قال أبي: «سايرا»، فتيبّستُ، وأصبحتُ جامدةً عندما استدار ونظر إليّ. مدّ يده إلى يدي، وأنا أعطيته إياها، رغم أني لم أُرد ذلك. لقد كان أبي من الرجال والأشخاص الذين يُطاعون فقط.

عندئذٍ ضمني بذراعيه بسرعة وقوة مستجراً ضحكة مني. فحملني بذراع واحدة على الجانب المدرع منه، وكأنني عديمة الوزن. كان وجهه قريباً من وجهي، ورائحته رائحة أعشاب وأشياء محروقة، وخدّه قاسٍ وخشن بسبب لحيته. كانت أمي تدعو أبي ملك الشوتيت بلاز عندما تظن أن أحداً غيره لا يسمعها وكانا يتحاوران عندها بأشعار الشوتيت الملحمية.

قال لي أبي وهو يهزني قليلاً بينما يسندني إلى ذراعه: «أعتقد أنك تودين رؤية شعبك». كانت ذراعه الأخرى مليئة بالندبات من الرسغ وحتى الكتف، وهي موشومة بالسواد لتكون واضحة للعيان. لقد أخبرني ذات مرة أنها سجل للأرواح، لكني لم أعلم ماذا يعني ذلك. بدورها ذراع أمي كانت موشومة ولكن بنصف عدد وشوم أبي.

قال أبي: «يتوق هؤلاء الناس إلى القوة، وأمك وأبوك وأخوكِ سيعطونهم إياها. وستعطينهم إياها يوماً ما. أليس كذلك؟»

أجبته بهدوء: «أجل». بالرغم من أنه لم تكن لديّ أدنى فكرة عن كيفية القيام بذلك.

قال: «هذا جيد، والآن لوّحي بيدك».

مددتُ يدي وأنا أرتجف قليلاً مُقلّدةً أبي. فحدّقتُ مذهولةً بينما استجاب الحشد إليّ بلطف.

صاح أبي: «رايزك».

قال رايزك: «تعالي أيتها النوفاك الصغيرة»، فهو لم يكن بحاجة ليُطلب منه أخذي من ذراعه، فقد عرف ذلك من وضعيته، مثلما شعرت بالتأكيد بالتغيير القلق لمكانته. فوضعتُ ذراعي حول عنق رايزك وتسلقت ظهره رابطة ساقيّ بأحزمة درعه.

فقال لي رافعاً صوته لكي أستطيع سماعه من بين أصوات الحشود: «أأنت مستعدة للركض؟».

فتشبّثتُ به وسألته متعجبة: «الركض!؟».

وكجواب عليّ، أمسك بركبتي وثبّتهما على جانبيه وهرول ضاحكاً في الممر الذي فتحه الجنود. وأثارت خطواته القافزة قهقهتي، ومن ثم شاركتني الحشود القهقهة – شعبنا وشعبي – وكانت الابتسامات على مدّ النظر.

رأيتُ إحدى الأيادي وهي تمتدُ نحوي، فلمستها برفق بأصابعي، مثلما تفعل أمي. ووجدتُ أني لم أمانع ذلك كثيراً كما توقعت.

2019/12/20 · 318 مشاهدة · 1172 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024