5 - الفصل الخامس: سايرا

بعد موسم، عندما بلغت الثامنة، دخل أخي غرفة نومي، لاهثاً ومبللاً بالمطر. كنتُ لتوي قد أنهيتُ تجهيز آخر تماثيلي الصغيرة على السجادة أمام سريري. كانت من مقتنيات الإقامة المؤقتة في أوثير السنة الفائتة، فأهل أوثير مولعون بالأشياء الصغيرة غير المفيدة. لقد قلب بعضها أرضاً عندما مشى في الغرفة. فصرخت باحتجاج. لقد خَرّب تشكيل الجيش.

جلس إلى جانبي وقال: «سايرا»، كان قد بلغ الموسم الثامن عشر من العمر، وذراعاه وساقاه أصبحت ضخمة جداً مع وجود بقع على جبينه، لكنّ الفزع جعله يبدو أصغر عمراً، فوضعتُ يدي على كتفه.

سألته وأنا أضغط: «ما الأمر؟».

«هل أخذك أبي ذات مرة إلى مكان ما فقط لكي... يُريكِ شيئاً ما؟».

«لا، أبداً». لم يأخذني لازمِت نوفاك إلى أي مكان البتة، فهو بالكاد ينظر إليّ عندما نكون في الغرفة ذاتها. ولم يكن يزعجني هذا حتى في ذلك الوقت، فقد كنتُ أعرف أنه عندما ينظر أبي إلى أحدنا فهذا ليس بالأمر الجيد.

فقال رايز بغضب: «هذا ليس عدلاً، أليس كذلك؟ فأنتِ وأنا ولداها، ويجب أن نُعامل سواسيةً. ألا تعتقدين ذلك؟»

قلتُ: «أنا... أعتقد ذلك يا رايز، ما هو...»

لكنّ رايز اكتفى بوضع راحة يده على خدي.

اختفتْ غرفة نومي بستائرها الزرقاء الزاهية وألواح جدارها الخشبية الداكنة.

سمعت صوت أبي: «أنت من سيعطي الأمر اليوم يا رايزك».

كنتُ في غرفة مظلمة صغيرة، بجدران حجرية ونافذة ضخمة أمامي. وقف أبي بجانب كتفي الأيسر، لكنه بدا أقصر مما كان بالعادة – فأنا أصل إلى مستوى صدره في الواقع، لكن في تلك الغرفة كنتُ أنظر مباشرةً إلى وجهه. ويداي كانتا مقبوضتين أمامي وأصابعي طويلة ونحيلة.

أتتْ أنفاسي سريعة وضئيلة فقلتُ: «أنت تريدني... أنت تريدني أن...».

فتذمّر أبي وأمسك بمقدمة درعي وهزّني باتجاه النافذة وقال: «استجمعي قواكِ».

رأيتُ من خلال النافذة رجلاً عجوزاً، بشعر رمادي مجعّد. كان نحيلاً بعينين ميتتين وهناك قيد يجمع يديه معاً. وبإيماءةٍ من أبي اقترب الحرس الموجودون في الغرفة المجاورة من السجين. وأمسك أحدهم بكتفيه كي يُبقيه ثابتاً والآخر لفّ حبلاً حول عنقه، وعقده بإحكام خلف رأسه. ولم يُبدِ السجين أي اعتراض، فقد بدت أطرافه أثقل مما يُفترض أن تكون.

شعرتُ بالقشعريرة وبقيتُ أرتجف.

قال أبي: «هذا الرجل خائن، وهو يتآمر ضد عائلتنا. فقد روّج أكاذيب عنا بأننا نسرق معونات أجنبية من مرضى وجائعي الشوتيت. والأشخاص الذين يتكلمون بسوء عن عائلتنا لا يمكن إعدامهم ببساطة. يجب أن يعدموا ببطء ويجب أن تكوني جاهزةً لتأمري بذلك. ويجب أن تكوني جاهزةً لتفعلي ذلك بنفسك، رغم أنّ ذلك الدرس سوف يأتي لاحقاً».

التفّ الفزع في معدتي مثل ثعبان.

أصدر أبي صوتاً محبطاً من حنجرته وحشر شيئاً في يدي، كان قارورةً مختومة بالشمع.

قال: «إذا لم يكن بإمكانك تهدئة نفسك، فهذا كفيل بذلك، لكن بطريقة أو بأخرى سوف تفعلين ما أقوله لك».

تلمّستُ طرف الشمع، ونزعته، ثم سكبتُ محتوى القارورة في فمي. ذلك التونيك المُهدّئ أحرق حنجرتي، لكن لم يستغرق الأمر سوى لحظات حتى تباطأ خفقان قلبي وهدأ روعي. فأومأتُ إلى أبي الذي ضغط على مفتاح مكبرات الصوت في الغرفة المجاورة. ولم استغرق سوى لحظة كي أجد الكلمات في الضباب الذي ملأ عقلي.

قلتُ لهم بصوت غير مألوف: «أعدموه».

تراجع أحد الحراس إلى الخلف وسحب طرف الحبل الذي مرّ عبر حلقة معدنية في السقف مثل خيط يمر بثقب إبرة. وظلّ يشدّ الحبل حتى أصبحت أصابع رجلي السجين بالكاد تلامس الأرض. بقيتُ أُراقب حتى تحوّل لون وجه السجين إلى الأحمر ثم البنفسجي. وأخذ ينتفض فأردتُ أن أُشيح بنظري لكني لم أستطع.

قال أبي بشكل عابر وهو يُطفئ مفتاح مكبرات الصوت مرة أخرى: «ليس كل شيء مؤثر يجب أن يتم فعله في العلن، فسوف يهمس الحراس بما سترغبين بفعله لأولئك الذين يتكلمون ضدّكِ، وأولئك الذين همسوا لهم سوف يهمسون أيضاً، وعندها سوف تُعرف قوتك وسلطتك في شتى أرجاء الشوتيت».

كانت هناك صرخة تعتمل في داخلي، حبستها في حنجرتي مثل قطعة طعام كانت كبيرة جداً لأن تُبتلع.

تلاشت الغرفة القاتمة الصغيرة.

وقفتُ في شارع مُضاء مزدحم بالناس. كنتُ أجلس على فخذ أمي، وذراعي ملتفة حول ساقها. وارتفع غبار في الهواء من حولنا، في عاصمة البلد الكوكبي زولد، المسماة مدينة زولديا، التي زرناها في رحلة إقامتي الأولى، وكان كل شيء مغطىً بطبقة رقيقة من الغبار الرمادي في ذلك الوقت من السنة. لم تأتِ من صخر أو أرض، كما كنتُ أفترض، بل من حقل واسع من الأزهار التي تنمو في الجهة الشرقية من هنا ثم تتحلل في الرياح الموسمية القوية.

لقد عرفتُ هذا المكان وهذه اللحظة. فقد كانت إحدى ذكرياتي المفضلة مع أمي.

أمالتْ أمي رأسها نحو الرجل الذي التقاها في الشارع، ويدها تمسح بلطف على شعري.

قالت أمي له: «شكراً لسيادتكم لاستضافة بحثنا عن الأشياء المفيدة بلطف كبير، وسوف أفعل ما بوسعي كي نأخذ فقط الأشياء التي لم تعودوا بحاجة إليها». فأجاب الرجل بفظاظة: «أقدّر ذلك، فهناك تقارير أثناء البحث الأخير تُفيد بحدوث نهب للمستشفيات من قِبل جنود الشوتيت». كان جلده مغطى بالغبار وبدا تقريباً أنه سوف يلمع تحت ضوء الشمس. فأنعمتُ النظر إليه بذهول. كان يرتدي رداءً رمادياً طويلاً، وكأنه تقريباً أراد أن يُشبه أحد التماثيل.

قالت أمي بحزم: «لقد كان سلوك أولئك الجنود مُروّعاً، وعوقبوا بشدة». ثم التفتت إليّ وقالت: «عزيزتي سايرا، هذا زعيم عاصمة زولد. وسيادتكم، هذه ابنتي سايرا».

قلتُ له: «أحب هذا الغبار عليك، هل يدخل في عينيك؟»

بدا الرجل أكثر لطفاً عندما أجابني: «بشكل دائم، وعندما لا يكون لدينا زوار نضع نظارات واقية».

أخرج واحدة من جيبه وقدّمها لي. كانت كبيرة، وكانت عدستاها خضراوتين فاتحتين. قمتُ بوضعها على وجهي فسقطت واستقرت على عنقي، ولذا كان عليّ أن أحملها بيد واحدة. فضحكت أمي – بخفة وهدوء – ثم انضمّ الرجل إليها بالضحك.

قال الرجل لأمي: «سوف نبذل ما بوسعنا لنُكرّم تقليدكم هذا، رغم أني أعترف بعدم فهمنا له».

فقالت له: «حسناً، نحن نسعى للتجديد قبل كل شيء آخر، ونحن نجد ما يمكن أن يُجعل جديداً في ما تمّ التخلّص منه. فلا يجب تبديد أي شيء جدير بالاهتمام، وبالتأكيد باستطاعتنا الاتفاق على ذلك».

وفيما بعد بدأ كلامها يُعرض بشكل معكوس، وارتفعت النظارة الواقية إلى عينيّ ثم إلى ما فوق رأسي وإلى يد الرجل مرة أخرى. كان ذلك بحثي الأول عن الأشياء المفيدة، وكان يتفكّك ويتحلل في عقلي. وبعد أن عُرضت الذاكرة بشكل معكوس، انتهى الأمر. كنتُ قد عدتُ إلى غرفة نومي، والتماثيل الصغيرة حولي، وأنا على علم بأني قمتُ برحلة إقامتي المؤقتة الأولى وأننا التقينا بزعيم مدينة زولديا، لكن لم يعد باستطاعتي استحضار الصور من عقلي. ففي منزلهم كان السجين ذو الحبل حول عنقه، ونبرة الأب المنخفضة في أذني.

لقد بادل رايز إحدى ذكرياته بواحدة من عندي.

لقد رأيته يفعل ذلك من قبل، مرّة لـفاس، صديقه وخادمه، ومرة أخرى مع أمي. في كل مرة أتى فيها من أحد الاجتماعات مع أبي بدا وكأنه مُمزّق إلى أشلاء. يضع إحدى يديه على أقدم صديق له، أو على أمنا، وبعد لحظة، يبدو معتدلاً وبعينين جافتين وأقوى من قبل. وهما يبدوان... أكثر خواءً بطريقة ما وكأنهما فقدا شيئاً.

قال رايز والدموع على خدّيه: «سايرا، من العدل، من العدل فقط أن نتشارك هذا العبء».

مدّ يده إليّ مرة أخرى، وشيء ما في أعمق دواخلي كان يحترق. وعندما لمست يده خدي، انتشرت عروق حبرية قاتمة تحت جلدي مثل حشرات بأرجل كثيرة، مثل شبكات الظلمة. وتحركت زاحفة إلى ذراعيّ، جالبة معها الحرارة والألم إلى وجهي.

صرختُ بأعلى ما صرختُ في حياتي على الإطلاق، وانضم صوت رايز إلى صوتي، بانسجام تقريباً. لقد جلبت العروق السوداء الألم، وكان الظلام ألماً، وأنا صُنعتُ منه، لقد كنتُ الألم بذاته.

نزع يده بعنف، لكن بقيت الظلال الجلدية وبقي العذاب، لقد انبثقتْ هبتي التيارية بشكل مبكر جداً.

اندفعت أمي داخل غرفتي، كان قميصها نصف مُزرّر ووجهها يقطر ماءً لأنها غسلته من دون أن تجففه. فرأت البقع السوداء وركضت نحوي واضعةً يديها على ذراعيّ لثانية واحدة قبل أن تسحبهما مجفلة. فقد شعرت بالألم أيضاً. وصرختُ مرة أخرى وخدشتُ الشبكات السوداء بأظافري.

أعطتني أمي دواءً مخدراً كي تهدئني.

ما من أحد يتحمل الألم. لذا لم يضع رايز يده عليّ مجدداً، ولم يقم مخلوق بعده بذلك

2019/12/20 · 323 مشاهدة · 1227 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024