اقتربت المرأة التي أنقذت بوريس بعصاها من بوريس وإيسيلدر برفقة رجل آخر، بينما كانا يقتربان من موقد النار الكبير في وسط ساحة القرية.
جلس عدد من القرويين بالفعل حول النار، يقرعون كؤوسهم المعدنية و يشربون مبتهجين، لعلّ شرب النهار كان من أعراف هذا الإقليم القارس.
قال إيسيلدر و هز كتفيه بضيق: "وكيف لنا أن نعلم أن النهر بهذا القدر من الضحالة؟ لم يخطر ببالنا أيضًا أن تلك الأواني الطافية في الحوض ستتحطم بهذه السهولة. يبدو أن ليمي لم تعد كما كانت برودةً"
أجابت المرأة: "نعم، الشتاء هذا العام أكثر دفئًا. ثم إن لكلٍّ منا حقًا في أيام من المرح. نحن من ليمي، صحيح، لكن هذا لا يعني أننا ملزمون بتحمّل الصقيع ومضغ الجليد طوال العام"
كانت نبرتها الجنوبية تحمل شيئًا من اللين هذا اليوم، ووضعت يديها على خصرها وهي تنظر إلى إيسيلدر بوجه متحفّظ، ثم قالت: "هل التقينا من قبل؟"
أجاب: "بصيرتك حادة".
كان ردّه باردًا، يخلو من أي تفسير، اعتاد بوريس على تلك الأجوبة الغامضة، لكن المرأة أمعنت النظر في إيسيلدر بريبة، تمسحه بعينيها من رأسه حتى قدميه.
ثم قالت: "لقد كنت هنا من قبل، أليس كذلك؟ مرّت بضع سنين. ما اسمك؟"
"إيسيلدر، إيسيلدر سان"
"ذاك ليس الاسم الذي أذكره"
"فلعلّ الذي التقيتِ به كان شقيقي؟"
كتم بوريس ضحكته بصعوبة على رد إيسيلدر اللامبالي، أما إيسيلدر فتابع، وهو يهز كتفيه كعادته ويبتسم "ألن تخبريني باسمك؟"
أحكمت المرأة قبضتها على عصاها وقالت بتحدٍ: "اسمي هيفتيكا"
"يا له من اسم مُلفت، لا سيّما أنك لا تحملين اسم عائلة"
ضربت هيفتيكا عصاها بكفها الأخرى وقالت: "أما تعرف معنى اسمي؟ أأنت همجي؟ أم أنك من أولئك الذين لا يحسنون التصرف إلا بعد أن يتلقوا بعض الضرب بالعصا؟"
كانت فظة و غريبة، كأنها تسعى إلى شجار، غير أن ملامح إيسيلدر لم تتغير، رد: "همجي؟ سيحزن أخاك غير الشقيق إن سمعك تنعتينني بذلك"
تبدل وجه هيفتيكا على الفور وقالت: "أتعرفه؟ هل التقيت به مؤخرًا؟ أين هو الآن؟"
فأجابها: "مهلًا، وكيف لي أن أعلم؟ أترينني من الكامزاك؟ لقد سمعت بعض الشائعات، لا أكثر. ثم إنك تشبهينه كثيرًا"
ضحك الرجل الذي برفقتها وقال: "تشبهه؟ هذه الفتاة عظامها ضخمة من كثرة ما جدّفت منذ أن سقطت أسنانها اللبنية، أمها وجدتها كلتاهما نساء بحر، لا أحد في هذه الأنحاء يضاهيها في استخدام العصا، ستندم إن استصغرتها لمجرد أن مظهرها جذاب قليلًا"
قال إيسيلدر: "حقًا؟ إذن لا أظن أنني سأهزمها في سباق تجديف، فلنقل إنني خسرت"
عبست هيفتيكا من عبثية قوله، إذ إنها لم تتحدّه في شيء، لكنه تابع ببرود: "اسمك الأول يبدو وحيدًا دون لقب. ما رأيك بهيفتيكا كازانيس؟ هيفتيكا آلزروز لا تبدو سيئة كذلك، أو لعلّ هيفتيكا سولون افضل؟"
قال الرجل محذرًا: "سأضربك حقًا إن واصلت هذا العبث!"
كانت هيفتيكا قد أعادت قبضتها على عصاها، ثم بدلتها إلى يدها الأخرى، وأخيرًا أنزلتها
ارتفع طرف شفتهاو تحدثت: "تذكّرت الآن. قبل ثلاث سنوات، أليس كذلك؟ أطول مما ظننت. كان هناك رجل انخرط في القتال لمجرد رغبته حين غزت قبيلة ديكان، ثم اختفى بعد ذلك فجأة، ذاك كنت أنت، أليس كذلك؟ ومن هناك عرفت أخي"
صمت إيسيلدر لحظة، ثم قال: "آه، لعلّ ذلك صحيح. إن لم يكن شقيقي من التقيتِ به، فلا بدّ أنه أنا"
غرست هيفتيكا عصاها في الأرض وقالت: "أكنت تكره حقًا أن تسمع كلمة شكر بسيطة؟"
ظلّ إيسيلدر يبتسم، لكن ملامح وجهها تغيرت قليلاً حين قال: "الناس عادةً لا يذكرون جميلًا مضى، إلا إذا كانوا على وشك طلب معروف آخر"
عضّت هيفتيكا شفتها وهي تعبث بعصاها قليلًا، ثم قالت بصراحة وقد بدا أنها عقدت عزمها: "نعم، معك حق. لدي أمر آخر أطلبه"
"اختصريه"
فتابعت: "اعمل معنا مجددًا، كما فعلت في المرة السابقة"
رفع إيسيلدر يديه كما لو أنها طلبت منه أمرًا فادحًا، ثم هز رأسه رافضاً: "لا أستطيع، لم أعد كذلك. لقد كبرت على هذا. هلّا طلبتِ مني أمرًا آخر؟ أبحاجة إلى من يساعدك في حراثة الأرض لموسم الزراعة القادم؟ أو من يعينك على شرب الشراب المعتّق الذي تكدّس لديكم حتى عجزتم عن تصريفه؟ إن كان الأمر كذلك، فسأساعدك بكل سرور"
ضحكت هيفتيكا، لكن ضحكتها أثارت الغرابة ، استأنفت: "ليس الأمر مختلفًا كثيرًا في الواقع. وسأعطيك بعضًا من شرابنا المعتّق إن أنجزت المهمة على خير وجه"
قال "أحقًا؟ إذن سأجلب بعضًا منه معي إن تبقّى شيء، أليس كذلك؟"
وافق إيسيلدر بهذه السهولة دون أن يسأل حتى عن طبيعة ما طلبته، فأشارت هيفتيكا إلى تلة تقع شمالًا وطلبت منه أن يلاقيها هناك صباح الغد، فأومأ برأسه واستدار عائدًا
و من خلفه، سأل بوريس: "هل لديك أخ حقًا؟"
"نعم، إن لم أكن لا أملك واحدًا، فربما لديّ"
حَدق به بوريس بريبة: "لا تملك واحدًا إلا إذا كان لديك، تقصد."
شتاء هذه المنطقة كان باردًا ونقيًّا.
الغيوم الطبقية الرمادية تناثرت على الأفق، وبعض السحب الركامية علتها شاهقة، كان إيسيلدر وبوريس قد تسلّقا التلّ الذي وعدا أن يلتقيا فيه هيفتيكا، وكانا ينتظران بزوغ الفجر.
كان بوريس يحدّق في الغيوم بشرود حين تذكّر فجأة ما قاله إيسيلدر في اليوم السابق.
"ما الذي قلته عن الهمجيون؟"
"أتتذكر ما أخبرتك به عنهم في قلعة بيلنور؟"
بدا أن نبرته توحي بأنه على وشك البدء بمحاضرة طويلة، غير أنه كان منشغلًا بمحاولة فتح زجاجة المشروب بأسلوب أنيق.
كانت الغيوم الرمادية تُذكّر بوريس بعاصفة من الرمال تثيرها حوافر خيول منطلقة.
قال بوريس: "أجل، أخبرتني عن الهمجيون والأميرة"
"الهمجيون لا يطلقون هذا الاسم على أنفسهم، لكن دعنا من تلك الجزئية الآن. أخبرتك عن العلاقة التبادلية الغريبة بين أهل ليمه والمتوحشين، أليس كذلك؟ لقد كانوا في صراع دائم فيما مضى، كأنهم أعداء لا يُصالَح بينهم، أما الآن فقد هدأت الأمور كثيرًا، وأصبحوا يحترمون حدود الأراضي. لا تزال الكراهية قائمة بينهم، لكنهم باتوا يتعاونون من حين لآخر. ما تطلبه هيفتيكا مني لا يخرج كثيرًا عن هذا الإطار التبادلي. على أي حال، الأمر بسيط، وأنا مدين لها، لذا أظن أنه ينبغي لي أن أراعي هيفتيكا هذه المرّة"
لم يكن بوريس يفهم ما الذي يرمي إليه إيسيلدر ، فقال: "ستراعي الآنسة هيفتيكا؟"
قال: "لا" ثم هزّ رأسه، وأخذ يفكر كيف يشرح الأمر للفتى، وتابع:"هيفتيكا ليست اسمًا فحسب، بل لها معنى خاص منفصل. معناها يشبه كلمة "الآداب" في اللغة الليمية القديمة، لا، بل أقرب إلى عبارة تعني "الالتزام بالعادات العريقة للأرض" شيء من هذا القبيل. وليس من قبيل المصادفة أن هذا اسم تلك الفتاة أيضًا"
سأل بوريس: "ولماذا تحمل هذا الاسم تحديدًا؟"
قال إيسيلدر: "هذا تقليد هنا. يوجد في كل قرية عدد من الأشخاص الذين يرثون أسماء خاصة، يختار الناس القيم التي يرغبون في الحفاظ عليها عبر الأجيال، ويحوّلونها إلى أسماء. وبهذا، يستحيل على الناس نسيان تلك القيم، ما دام بينهم من يحمل اسمًا يجسّدها"
سأل بوريس، مذهولًا من غرابة الفكرة: "أن تُستخدم أسماء الناس بهذه الطريقة... أليس هذا مبالغًا فيه؟"
أجابه إيسيلدر: "هذا تقليد بدأ في زمن كان فيه التوثيق الكتابي أمرًا صعبًا، على أي حال، اسم هيفتيكا شائع في القرى التي يُرجَّح أن تتعامل مع الغرباء. يُستخدم لفرض سلوكيات هيفتيكا على الأجانب وإلزامهم بها، و... ماذا أيضًا؟"
صمت لحظة وهو يقرع على زجاجة المشروب، ثم استأنف بعد برهة: "آه، صحيح، ليمسار، معناها أن تكون دائمًا في الصفوف الأمامية عند القتال. يُعطى هذا الاسم عادةً في القرى التي كانت في صراع طويل الأمد مع الهمجيون. أما في القرى القريبة من الأنهار الكبيرة، فغالبًا ما تجد شخصًا يُدعى كورونوس، ويعني الذي يُهدئ المياه، ويُعتقد أن حامل هذا الاسم يستطيع الحفاظ على هدوء النهر قبل أن يجلب الأذى إلى القرية"
قال بوريس، وقد أثار الأمر فضوله: "يبدو أنك تعرف كل شيء"
"بالطبع، أعرف كل شيء، ما عدا ما أجهله"
انتظر بوريس أن تخف حدّة غرور إيسيلدر قليلًا، ثم سأله: "لكن لماذا يهاجم الهمجيون قرى ليمي؟ معلمي... أعني، لقد قلت إن بين الهمجيون وأهل ليمي علاقة تبادلية، وقلت إنهم يساعدون بعضهم البعض ويحترمون الحدود..."
"نعم، قلت ذلك. لكن هذا على مستوى الصورة الكبرى فقط، أما في التفاصيل الصغيرة، فالمناوشات ما زالت قائمة.،الأمر أشبه بأخوين يعيشان في منزل واحد ولا يتفقان دائمًا. إن تشاجرا وتضاربا بين حين وآخر، فهذا لا يعني بالضرورة أنهما أصبحا عدوين لدودين. لا ملك ليمي ولا زعماء قبائل الهمجيون يهتمون كثيرًا إن زالت قرية أو اثنتان من الوجود أثناء هذه النزاعات الجانبية"
ثم قال بصوت خافت، وكأنه يصحح نفسه: "لكن الأمر قد يكون مختلفًا بالنسبة لزعماء القبائل. فقبائلهم ضئيلة الحجم مقارنة بمملكة ليمه، وسيغضبون على الأرجح إن تصرّف أحد رجالهم برعونة. وإن كان الزعيم أحمق بما يكفي، فقد يدعم سرًا الهمجيون الذين يسعون للانتقام، مما سيدفع بالعائلة المالكة في ليمي إلى إرسال الجنود في نهاية المطاف"
ثم رمق بوريس بنظرة جانبية، وكان الفتى ينصت بوجه متجهّم، فابتسم إيسيلدر بسخرية، وتابع: "على أية حال، لا أظن أن معروفنا هذا سيقود إلى نتائج مأساوية كتلك، إنها مجرد مشاحنة بسيطة على قطعة أرض يُراد زراعتها بالذرة، القرويون و الهمجيون جيران من الناحية التقنية، لكن علاقتهم لا تختلف كثيرًا عن علاقة القطط بالكلاب"
◈ ◈ ◈
كانت الغيوم المتناثرة تواصل امتدادها عبر السماء، وكانت الشمس متوارية خلفها، لقد كان فجرًا باهرًا.
سأل بوريس: "وإلى أي مدى ينبغي أن نساعد لنكون قد التزمنا بما يُسمى هيفتيكا؟ هل يجب أن نكون مثل الليمسار ونقاتل في الصفوف الأمامية؟"
أخرج إيسيلدر لسانه وهز رأسه و أجاب: "لا أعلم، افعل فقط ما تميل إلى فعله"
كان وجه بوريس يحمل مسحة نضج وهو يعقد ذراعيه ويتأمل الغيوم على الأفق ، قال: "لا أحب القتل"
فضربه إيسيلدر بقبضته على رأسه وقال: "ولا أنا، أيها الفتى!"
التفت الاثنان إلى بعضهما البعض، حتى كادت أنوفهما أن تتلامس، وابتسما ، كان نمو بوريس قد توقّف منذ مغادرته قلعة بيلنور، فبلغ رأسه قاعدة عنق إيسيلدر، نفخا خدّيهما بالطريقة نفسها، وهزّا رأسيهما في انسجام.
"خفف الوطء، لكن أبق على حذرك"
قال بوريس: "إذن، درس اليوم يتعلّق بالتحلي بالآداب في أرض الآخرين، هكذا إذن"
قال إيسيلدر: "أجل، هذا هو درسي الرابع بعد المئة والرابع والأربعون لك"
سأله بوريس: "منذ متى و أنت تعدّها؟"
في مثل هذه اللحظات، كانا كصديقين لا غير، وكان بوريس يستلذ بذلك.
كان يحب ما أتاح لهما هذا القرب، ويحب أنه قد كبر بما يكفي ليتمكن من التصرف هكذا، ويحب إيسيلدر لأنه سمح له بذلك، تمنى لو أن هذا كله يدوم إلى الأبد ، تمنى لو أن شيئًا لا يتغير أبدًا.
قال إيسيلدر: "فهل نمضي الآن؟"
كانت كلماته موجهة لهما فقط، كان القرويون قد أنهوا نقاشهم بينما كان بوريس وإيسيلدر يتحدثان عن الأسماء وما يتصل بها، وكانوا قد انطلقوا بالفعل يهرولون بصخب، وقد انبعثت من حناجرهم جلبة مدوّية، أكانت زئيرًا أم صرخة جماعية؟ وربّت آخر من مرّ منهم على ظهري بوريس وإيسيلدر أثناء مروره، بينما كان إيسيلدر ينهي آخر رشفة من زجاجة الشراب.
قال بوريس: "ربما تأخرنا كثيرًا، لا سيّما أننا شربنا شرابهم مقابل تقديم المساعدة"
رد عليه إيسيلدر: "لا تقلق. لا أدري لماذا ظلّت هذه الزجاجة القديمة غير مفتوحة طوال هذه المدة، لكنها لم تكن سيئة. فحسب، احرص على ألا تسحب سيفك"
"أشك في أن الأمر سيكون ضرورياً"
لم يكن بوريس قد استلّ سيف الشتاء منذ ذلك التحذير الذي ألقاه عليه إيسيلدر يوم التقيا من جديد، وكان يستخدم حاليًا نصل قصير اشتراه له إيسيلدر.
قال: "حسنًا، أأبدأ الآن في سداد ثمن ذلك الشراب المعتّق؟"
كان أغلب القرويين قد غادروا، ولم يبقَ على التلّ إلا الأطفال الذين كانوا يهتفون على الهامش، كانوا يقرعون أغطية القدور الحديدية وما شابهها، ويبدو أنهم سيتبعون المقاتلين إلى حيث يذهبون.
تمتن بوريس بهدوء: "قتال من أجل حقل الذرة..؟" ولم يزل مندهشًا من أنهم مقبلون على ذلك حقًا.
وفي تلك اللحظة، بدأ إيسيلدر يصرخ كما فعل القرويون في هيجانهم، حتى إن الفتيان والفتيات الذين كانوا يقرعون الأواني توقفوا عن الحركة وقد ارتسمت على وجوههم علامات الدهشة.
صرخ إيسيلدر: "لن نعطيكم الذرة!"
ثم بدأ يلوّح بأطرافه كما فعل القرويون واندفع يعدو نازلًا التل خلفهم. وعندئذ فقط فهم بوريس لماذا شرب زجاجة الشراب كاملة، أما هو، وقد بقي صافي الذهن، فقد تردد، غير أن التردد لم يطل.، إذ سرعان ما انقاد لدافع طفولي يصعب تجاهله ، فصرخ: "أعيدوا... حقل الذرة لنا!"
وردّ آخرون: "لن نسمح لكم بأن تحصدوا سنبلة واحدة من حقلنا!"
"ازرعوا ذرتكم في أرضكم، أيها الهمجيون!!"
"سأهشم أسنانك إن سرقت ذرتنا!"
"ارحلوا عائدين إلى دياركم قبل أن أغرس هذه السنبلة مكان أسنانكم!"
ترددت أصوات النداء في أرجاء الحقول، وكان نحو أربعين من أفراد فرقة حماة حقل الذرة من القرية يشتبكون مع غزاة يساوونهم عددًا، والهراوات مرفوعة، تتصادم في كل ركن من الأرض.
ومع ذلك، فإن رجلًا وفتًى كانا الأعلى صوتًا في الدفاع عن الذرة.