59 - [هـيفيتيكا - أراضـي الـشتاء]¹

حلّ الشتاء مبكرًا في ترافاتشيس، وبدأت زرقة السماء تكتسي بالبرودة في منتصف أغسطس.

مع بزوغ الفجر، حيث تلتمع السماء النيليّة بآخر أنفاس الصيف، وُلدت طفلة في بيتٍ بمدينة رون، العاصمة.

لم يكن والدها حاضرًا، إذ كان قد أُرسل إلى مكان بعيد بتكليفٍ من أحد علية القوم.

كان يأمل أن يعود في الوقت المناسب لولادة طفلته، لكنها أبصرت النور قبل أوانها بشهرين، ولم يعد الوالد إلى منزله إلا بعد شهرين من ولادتها.

رغم غيابه، نالت الطفلة محبة كلّ من في الدار، لم تكن البِكر فحسب، بل كانت أمنية طال انتظارها.

وقد تمنّى كثيرون أن تكون تلك الطفلة سببًا في إذابة قسوة قلب سيدهم، لذا، تمنّوا أن تكون أنثى.

حتى أمّها، التي لم تجد مدخلًا إلى قلب زوجها، كانت تأمل أن تفتح هذه الطفلة الباب المغلَق بينهما.

وقد تحققت أمنيتهم، فكانت المولودة فتاة ذات عيون رقيقة، وشعر ذهبي ناعم، وعينين بلون الذهب، توحيان بحكمةٍ تفوق سنّها، لكنها كانت ضعيفة، ربما بسبب ولادتها المبكرة.

أرسل الرجل الذي خدمه والدها أطباءً ومعالجين ليبقوا إلى جانبها ليل نهار، لكن حالتها بقيت متذبذبة، بل خشي البعض أن لا تعيش طويلاً.

ومع التمني المتواصل والرجاء، تعافت الطفلة، لم تفارق الدموع عيني أمها، ولم يتوقف والدها عن إرسال الرسائل التي يعد فيها بالرجوع القريب.

ثم كأن المرض لم يكن، بدأت الطفلة تأكل وتنام بهدوء وسكينة.

وكلما كبرت، كلما بدت وكأنها تستجيب لأمنيات كل من رجى سلامتها، تمسّكت بعالمها بكل ما أوتيت من قوة، ورفضت أن تتركه.

كانت أشبه بعصفورٍ صغير يجلس في حضن والدته في أول نزهة له تحت أشعة الشمس، لم تكن كثيرة البكاء، بل تبسمت بهدوء وسلام.

في ذلك اليوم، اقترب منها كبير خدم المنزل، جاء من أرض بعيدة بأمر سيد البيت، لم يكن مقربًا من بقية الخدم رغم خدمته لعام كامل، لكنه كان موضع ثقة، يدير شؤون الدار في غياب السيد.

كانت الأم تنظر إليه بشيء من الحذر، فهو دقيق صارم، لا يظهر مشاعره.

نظرت الطفلة إليه، وعيناها تنعكسان بأشعة الخريف، فأمعن فيها النظر بطريقة ألطف من المعتاد، ثم قال: "الطفلة تشبه عمتها الراحلة"

ولم تُمنح اسمًا حتى عاد والدها، سمّاها: "ييني."

◈ ◈ ◈

كانت شهور ديسمبر قاسية ومريرة في ليمّي.

كانت طبقة الصقيع تتكسر تحت أقدامهما وهما يعبران الحقول.

كلاهما كان يرتدي رداءً، غير أن رداء الفتى بدا أقرب إلى عباءة ذات قلنسوة منه إلى رداء تقليدي ، للوهلة الأولى، كانا يبدوان كأب وابنه، لكن سلوكهما كان أشبه بصديقين.

ومع ذلك، كانت الفجوة العمرية بينهما أكبر من أن يُعدّا أندادًا، على أية حال، كانت خطواتهما خفيفة، وكأن البرد لا يمسّهما بشيء.

نظر إيسيلدر، الرجل الأكبر سنًا، إلى رفيقه الصغير وتمتم قائلا: "فلنرَ كم ستصمد"

فردّ الفتى على الفور: "وأنت أيضًا"

كان نطقه مثقلا قليلا، على الأرجح بسبب تجمّد شفتيه من البرد، لكن عينيه كانتا مليئتين بمزيج من الدفء والمرح وهو يتبادل النظرات مع إيسيلدر ويتابع مشيته النشيطة.

بدأت السماء تميل إلى الصفرة مع بدء الشمس في الصعود نحو الأفق.

هل يوشك الثلج على الهطول؟ كان المشهد مؤثرًا حتى إن اللون الأصفر انعكس على وجهيهما.

ثم بدأت ندف الثلج تتساقط، تجمّدت وجنتاهما وصارتا ككتلتين من الحجر.

ومع ذلك، لم يتوقفا بل سارعا في خطاهما. كانت الحقول المغطاة بالصقيع تمتد أمامهما بلا نهاية، غير أن النهار كان يوشك أن ينطفئ.

فجأة، اندفعا في عدو وكأن سباقًا غير معلن قد بدأ، وظلّا يركضان حتى اضطرّا إلى التوقف.

"إنه نهر."

أبطآ من سرعتهما، فكلاهما لم يشأ أن يكون أول من يتوقف، وصلا إلى ضفاف البحيرة المتجمّدة في الوقت ذاته تقريبًا.

سأل إيسيلدر: "هل ستعبرها؟"

حاول بوريس أن يبتسم، لكنه لم يستطع بسبب تجمد وجهه: "سأفعل إن فعلت"

"همف، عنيد بحق"

داسا على الجليد دون أن يناقشا من ينبغي أن يخطو أولًا، كانت البحيرة صغيرة، ربما يمكن عبورها في عشرين خطوة فقط، لكن لا أحد منهما كان يعلم على وجه اليقين مدى عمقها.

كما لم يكن بوسعهما التحقق من صلابة الجليد الذي تحتهما، مع ذلك، لم يظنا أن الجليد سينكسر قريبًا، خاصة بالنظر إلى شدة البرودة في الأيام الماضية.

لكن، ولسوء الحظ، كان تقديرهما خاطئًا، ربما بسبب وجود تيار لا يزال يجري تحت الجليد، أو لأن الشمس سطعت عليه طوال فترة الظهيرة.

صرخ إيسيلدر: "بوريس!"

كان هو أول من أدرك ما يحدث، بدأت تشققات صغيرة تتشكل على الجليد ما إن وصل بوريس، الذي كان يسير في المقدمة، إلى وسط البحيرة، وبدأ الجليد يصدر صريرًا واضحًا بينما ينشق.

لحسن الحظ، كان بوريس واقفًا على قطعة كبيرة من الجليد، أما إيسيلدر، الذي أطلق التحذير، فكان في وضع أخطر، إذ بدأت كل قطع الجليد من حوله تتداعى، وكانت الشقوق الحادة تنتشر بسرعة نحو موضع قدميه.

صرخ الفتى: "سيد ولنيت!"

في لحظة الخطر، نسي بوريس أن إيسيلدر طلب منه الكف عن مناداته بتلك الطريقة، أما إيسيلدر، الذي كان على وشك التوجه إلى حيث يقف بوريس، فقد تراجع خطوة وقفز في الهواء.

تجاوز قطعة من الجليد انهارت أمام أعينهما، ثم هبط على نفس القطعة التي كان الفتى واقفًا عليها.

غير أن الجليد انشطر إلى نصفين من قوة الصدمة قبل أن يتمكن من الإمساك بيدي الفتى.

بدأ التيار أسفلهم يسحب الجليد إلى الأسفل، انزلقت قدم بوريس، عاجزًا عن الحفاظ على توازنه، حين اصطدمت قطعة الجليد التي يقف عليها إيسيلدر بقطعته.

انقلبت قطعة الجليد عندما انصب ثقل بوريس على جانب واحد منها، فسحبه الماء معها إلى الأعماق.

قفز قلبه فزعًا حين سقط، كان يظن بالفعل أنه متجمد من الرأس حتى القدمين، لكن الماء كان أبرد بكثير مما ظن.

"سحقاً، هذا سيء جدًا"

كان بوريس قد غمر بالكامل تحت الماء، وبوتيرة كهذه، سينفد منه الهواء ويختنق قبل أن يتجمد حتى الموت إن علق تحت الجليد.

بدأ ضوء الشمس يخفت الآن، ولم يكن يلمع تحته سوى الماء الداكن للنهر، لكن، وقبل أن يقفز إيسيلدر إلى الماء بنفسه، عاجزًا عن إيجاد خطة أفضل...

خرج رأس بوريس فجأة إلى السطح وهو يسعل ويشهق باحثًا عن الهواء.

'هل يعرف هذا الطفل السباحة؟' تساءل إيسيلدر، لكنه لم ينتظر حتى يقرر، بل تمدد على الجليد وأمسك بكتفي الصبي، ثم جذب بكل ما أوتي من قوة.

كان جسد بوريس قد تجمد بالفعل، كسمكة متجمدة، وبقوة خارقة استطاع إيسيلدر أن يرفع جزأه العلوي ويجعله يتنفس مجددًا، غير أن وضع جسده لم يسمح له بسحبه بالكامل، وكان الجليد الذي يتمددان فوقه قد ينكسر هو الآخر إن سحب بقوة زائدة.

"أنا... أنا... بخير..."

هكذا قال الصبي، لكن ساقيه المتجمدتين رفضتا أن تتحركا، رأى الندم في عيني إيسيلدر أمامه.

حاول بوريس بكل ما لديه من جهد أن يتمسك بالجليد، لكن جسده لم يستجب له.

'هل هذه نهايتي...؟'

بدأت أفكاره تخبو في ذهنه كشرارة واهنة، ثم ظن أنه سمع أحدًا يناديهم. كان صوتًا غريبًا لا يعرفه، فهل كان يحلم؟ أم أن الأمر مجرد هلوسة؟ لكن الصوت استمر يزداد وضوحًا، لكل من الرجل الممدد على الجليد، والفتى الذي ما زال نصفه مغمورًا في الماء.

"ما الذي تفعلانه هناك؟"

سأل أحدهم بلكنة أهل ليمي الثقيلة: "أتحاولان الاغتسال في هذا البرد القارس أم ماذا؟"

استدار إيسيلدر برأسه فرأى ثلاثة مزارعين وامرأة شابة يقفون على الضفة المقابلة، كانوا يضحكون فيما بينهم رغم الخطر الذي يواجهه هو وبوريس.

صرخ إيسيلدر غاضبًا: "أتقفون هناك تضحكون والمرء على وشك أن يموت؟!"

"يموت؟ ومن هذا الذي سيموت؟ أم أنك تزعم أنكما ستغرقان في صحن الشاي هذا؟"¹

كان بوريس مذهولًا، توقف عن محاولة التسلق على الجليد ومد ساقيه بدلًا من ذلك.

أستغرق الأمر لحظة حتى يدرك، لأن ساقيه ما زالتا متجمدتين، لكنه لاحظ أن ساقيه لم تعد تغوص أكثر حين وصل الماء إلى صدره، والسبب كان واضحًا، لقد كان يقف على أرض صلبة.

بقي عاجزًا عن الكلام.

بدأت المرأة تحدق بغضب في الرجال المقهقهين ووبّختهم قائلة: "أترونه أمرًا مضحكًا أن تسخروا من أناس لم يكن لهم سبيل لمعرفة ذلك من البداية؟ ماذا لو أن الفتى المسكين تعثر على الجليد أو نحو ذلك؟."

كانت المرأة ترتدي تنورة صوفية سميكة وتحمل عصًا أطول من قامتِها، فتقدمت إلى الجليد دون أدنى تردد، وغرست العصا في الماء لتعينها على القفز.

قفزت إلى حيث كان إيسيلدر وبوريس في لمح البصر، وكانت خطواتها خفيفة على الجليد إلى درجة جعلت خطوات إيسيلدر السابقة تبدو خشنة مقارنة بها.

أسندت المرأة معظم ثقل جسدها على العصا ومدّت يدها إلى بوريس قائلة: "تمسّك جيدًا، وادفع بكلتا قدميك"

نفّذ بوريس ما طُلب منه، فانتشلته المرأة من الماء عند العد إلى ثلاثة، ووضعته فوق كتلة جليد.

كادت الكتلة أن تغوص تحته، لكن المرأة سحبته مجددًا بسرعة.

ثم، وبعصا واحدة فقط، أوصلت بوريس إلى الضفة بسهولة كما لو كانت شجرة متجذّرة راسخة في الأرض.

"أنا... آه..."

كان جسده يرتجف بقوة حتى إنه لم يستطع النطق، فخلعت المرأة ثوب بوريس المبتل، ثم انتزعت عباءة أحد الرجال ولفّت بها الصبي، لم يعترض الرجل، بل واصل الضحك دون توقف.

هزّت المرأة الماء عن عصاها، ثم التفتت إلى النهر كما لو تذكرت شيئًا كانت قد نسيته، وحين رأت إيسيلدر لا يزال ممددًا على الجليد مذهولًا، هزّت كتفيها وقالت: "أنت رجل بالغ، فلا شك أنك ستدبّر أمرك بنفسك."

دعا الفلاحون بوريس وإيسيلدر بكل ترحاب للإقامة معهم، ويبدو أن موقفهما السخيف على الجليد أكسبهما شيئًا من مودّتهم.

ورغم أن أهل ليمي لم يكونوا عادة يرحبون بالغرباء، إلا أنهم لم يمتنعوا عن إبداء الود إن راق لهم الأمر.

وقد أبدى القرويون لطفًا مدهشًا، لا سيما تجاه بوريس، فلم يكتفوا بدعوتهما إلى مشاركة الطعام والمبيت، بل أوقدوا الحطب وسخّنوا الماء ليأخذ الصبي الذي سقط في النهر المثلج حمامًا دافئًا.

لم يدرك إيسيلدر وبوريس أن كرم الضيافة هذا لم يكن مجانيًا إلا في صباح اليوم التالي، فبعد أن أنهيا فطورًا متأخرًا وخرجا إلى الخارج، لاحظا أن القرويين يضحكون كلما التقت أعينهم بأعينهم.

لقد كان الثمن الذي دفعاه مقابل الضيافة هو أن يصبحا سخرية القرية بأكملها.

ومع أنه من الصحيح أنهما بدوا أحمقين تمامًا عندما تصرفا كما لو أن حياتيهما في خطر بعد السقوط في نهر لا يتجاوز عمقه طول طفل صغير، إلا أنهما لم يكونا راضيين تمامًا عن الورطة التي وجدا نفسيهما فيها فجأة.

"أشعر أنني أصبحت أحمقاً أنا أيضًا بعد لقائك" أردف إيسيلدر وهو يزفر زفرة ثقيلة ويمرر يده في شعره.

اكتفى بوريس بابتسامة صامتة، فقد كان يحب سماع مثل هذه الكلمات من إيسيلدر، كلمات فيها شيء من الطفولية، وكأنها تجعل منه صديقًا أكثر من كونه بالغًا مسؤولًا.

طوال اليومين الماضيين، كان بوريس وإيسيلدر يخوضان رهانًا ليروا من منهما سيصمد أكثر وهو يسير في البرد القارس دون أن يتوقف للاستراحة.

لم يكن بوريس يذكر أصلًا كيف بدأ هذا الرهان، لم يكن أي منهما ليتصرف برعونة في عبور نهر متجمد دون التحقق من الجليد أولًا لولا وجود هذا الرهان.

كانا قد سارا طوال الليلة الأولى، ثم تابعا في اليوم التالي دون أن يشعلا نارًا.

واعتبرا نفسيهما محظوظين لعدم إصابة أي منهما بقضمة الصقيع في الأذنين أو الأطراف، ناهيك عن نجاتهما من الغرق أو التجمد بعد السقوط في نهر جليدي.²

ولم يكن لهما أي حجة يدافعان بها عن نفسيهما إن سخر أهل ليمي منهما بعد أن يعلموا بالحماقة الكاملة التي اقترفاها.

فقد نفّذا رهانهما لا في مكان معتدل، بل في شبه جزيرة نِم الباردة، وفوق ذلك في قلب ديسمبر، وهم يسلكون طريقًا شرق جبال دراكنز.

"على أية حال، لقد خسرت" قال بوريس.

"يا لك من وغد!"

انفجر إيسيلدر بغتة: "أنا نشأت في مكان حيث كانت التلال خلف منزلنا مغطاة بالثلج طَوال العام! لقد نشأت و أنا اتدحرج في الثلوج، والبرد لا يؤثر بي، لهذا قلت منذ البداية إن رهاننا لم يكن عادلًا"

ابتسم بوريس و أجاب: "لكننا خرجنا سالمين على الأقل، أليس كذلك؟"

لم يُجبه إيسيلدر، إذ كان جزء من غضبه موجّهًا نحو نفسه، لأنه خاض هذا الرهان الخطر فقط لأنه أراد أن يفعل شيئًا أمام عناد هذا الصعلوك الصغير.

كان حسنًا أنهما يضحكان الآن على غبائهما، لكن إيسيلدر كان قد لام نفسه بصدق حين سقط بوريس في الماء.

غير أن إيسيلدر، في نهاية الأمر، كان رجلًا بسيط التفكير رغم عمره، ولم يطل به الأمر حتى نسي شعور الذنب هذا وبدأ يفكر في كيفية معاقبة هذا الشقي الصغير الذي سبّب له كل هذا العناء.

"إذًا، كيف كان الأمر؟ أن تغرق تقريبًا في صحن شاي؟"¹

⊹¹ : "الغرق في صحن شاي" هي جملة إنجليزية للاستعارة ، تعني ببساطة أن الحفرة ذات قاع منخفض جداً و بالتالي لا يمكن أن يغرق بها أحد، تماماً كصحن الشاي.

⊹² : "قَضمَة الصقِيعِ أو تثليج" هي إصابة جلدية تحدث عند التعرض لدرجات حرارة منخفضة للغاية، مسببةً تجمد الجلد أو الأنسجة الأخرى، وعادةً ما تؤثر على اليدين والقدمين والأنف والأذنين والخدين ومنطقة الذقن.

2025/06/24 · 12 مشاهدة · 1928 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025