58 - "الظّل الذَهبي في البحيرة"

"أحقًّا فعل لانزي ذلك؟"

كان بوريس قد انتهى لتوّه من رواية كلّ ما جرى في قلعة بيلنور لإيسيلدر.

المعلم الطويل النحيل وتلميذه الصغير كانا يسيران عبر السهول الصخرية في ليمي ومعهما حصان واحد

مضت عدّة أيام منذ أن بدأا السفر معًا.

كانت السماء لا تزال صافية على الرغم من اقتراب المساء ، معلنةً بأن الصيف على الأبواب، يعد الصيف من أفضل الفصول للسفر في الشمال.

"ما زلت لا أفهمه جيّدًا لا أعني أنه كان يكذب بشأن ماضيه ولكنني لا أستطيع أن أدرك ما الذي يدفعه إلى ما يفعل لا يبدو كصبيٍّ في مثل سنّي ولا يبدو كرجلٍ ناضج أيضًا من المستحيل أن أتّخذه صديقًا أو أن أكرهه"

حاول بوريس أن يكون صادقًا قدر استطاعته إذ إن لانزي كان يستحق تلك المعاملة، فقال: "يبدو مثيرًا للشفقة لكنه لا يحتاج الشفقة، إنه قوي لكنه ليس بلا نقاط ضعف، لقد أنقذني بطريقة مفاجئة لا يمكن لأحد سواه أن يستخدمها وأنا ممتن له حقًّا لكن..."

"أنت تظن أنك لن تستطيع أن تصادقه حتى إن التقيته مرة أخرى؟ أهذا ما تعنيه؟"

كان إيسيلدر قد أصاب كبد الحقيقة، شعر بوريس بخيبة أمل لأنه لم يتمكن من أن يكون صديقًا للانزي وربما لن يصبح كذلك أبدًا

عبث إيسيلدر بطرف رباط شعره كعادته ناظرًا إلى شعر بوريس الطويل وقد عقد العزم في نفسه على أن يربطه له قريبًا.

ثم تابع: "هذا ما أظنه، لانزي فتى ذو طبع سياسي فعلى الرغم من أنه يزعم كراهية والده ويقول إنه محاه من قلبه فلا أستبعد أن يكون قد ورث شيئًا من طباعه، لقد تلاعب بدقة بينك وبين الكونت وكشف أسرار الكونت كاحتياط لما قد يحدث لاحقًا، لا فتى في مثل سنه كان ليخطر بباله هذا فضلًا عن أن ينجح في تنفيذه"

أومأ بوريس برأسه موافقًا لقد تخيّل نفسه مرارًا في موضع لانزي أثناء تجواله وحيدًا لكنه لم يظن أبدًا أنه كان ليتمكّن ممّا أنجزه لانزي.

و أضاف إيسيلدر: "لا شك أنّ البيئة القاسية التي نشأ فيها لها دور لكنها ليست كل شيء لقد أدركت حقيقته أكثر حين رأيت كيف تصرف عندما ساعدت لانزمي على الكلام أتتذكّر؟ لقد قال إنه سيسدد إليّ هذا المعروف ما دامت نيّتي صافية لكنه في المقابل توعّد بأنه لن يرحمني إن كانت نيّتي خبيثة"

تذكّر بوريس ذلك، فسأله: "وكيف يتصرّف أصحاب الطباع السياسية؟"

كان لا يزال لا يفهم السياسة ولم يكن يستوعب تمامًا ما الذي يعنيه إيسيلدر بوصف لانزي بالشخص السياسي إذ إنّ اهتمامه لا يزال منصبًّا على مشاعر الأفراد من حبّ وبغضاء.

أجابه إيسيلدر: "هم لا يخلطون بين ردّ الجميل وحمل الضغينة يعلمون موضعهم بدقة ويتوقعون جميع النتائج ويستعدّون لها مسبقاً، لا يثقون بأمور غير مضمونة كالحظ أو حسن النيّة وكل فعل يقومون به يكون خطوة ممهدة للمستقبل، يعلمون بفطرتهم أنّ لأفعالهم آثارًا بعيدة كتموّجات الماء وأيضًا..."

ثم رفع رأسه فجأة وحدّق في بوريس، متابعاً: "حين يلتقون بأمثالك يكتشفون بسرعة ما لديكم من مزايا وعيوب"

صمت بوريس قليلًا ثم أضاف: "ربما أنت على حق، لكن إن كنت كذلك، فلماذا ساعدني؟ لا أملك ما أقدمه له مقابل ما فعل، على الأقل ليس الآن، ولا أظن أنني سأصبح شخصًا عظيمًا في المستقبل"

قال إيسيلدر: "من يدري؟ قد يبدو حديثي غامضاً، لكن أظن أن مساعدته لك كانت شيئًا مميزًا لديه، وفي الوقت ذاته جزءًا من طبيعته. فقد ساعدك رغم ما عرض نفسه له من خطر، وهذا لا يختلف كثيرًا عما يفعله حين يرعى أخته الصغيرة الهشّة باستمرار، من حسن الحظ أن مهاراته السياسية مرتبطة بتعاطفه مع الآخرين، أو لعلّه قدّر ما يمكن أن تكون عليه يومًا وقرر أن يراهن على المدى البعيد"

غشّت ملامح الحيرة وجه بوريس، لم يكن قد تخيل من قبل ما سيكون عليه حين يكبر، إذ لم تتح له الفرصة لذلك أصلًا.

تابع إيسيلدر بنبرة منخفضة: "مع ذلك، فالشخص الذي يملك حسًا سياسيًا يكون قويًا حتى لو كان عطوفًا في قلبه، إن قرر لانزي أن يستخدم حنكته السياسية ليؤسس الجمهورية التي يحلم بها حين يكبر، فستجد مملكة أنوماراد الجديدة نفسها أمام عدو بالغ البراعة."

فجأة مد بوريس يده إلى عباءته وقبض على مقبض وينترر، لقد فقد ما فقده بالفعل، رغم كل جهوده للحفاظ عليه، ولم يتبق له سوى هذا السيف، وكان لانزي هو من ساعده على الاحتفاظ به، وقد وعده بوريس أن يرد له جميله دون أن يخلف، إذ لم يكن هناك صداقة تربط بينهما..فكيف إذن يمكنه أن يرد الجميل؟.

كان المستقبل لا يزال مجهولًا بالنسبة إليه.

بدا لون السماء باردًا كأنها تنذره أن ليمي أرض قاسية، وما زالت تميل إلى الزرقة رغم حلول الليل.

نظر بوريس إلى إيسيلدر، الذي توقف ليتفقد حالة الطقس، وسأله

"من أين أتيت، وإلى أين أنت ذاهب؟"

ابتسم إيسيلدر بشفتيه فقط وهو يلحق بالفتى، ثم رفع قدمه وركل حجرًا بعيدًا.

أجاب: "كل البشر خرجوا من الأرض، وإليها سيعودون"

قال بوريس: "لم أقصد ذلك، هل لديك عائلة؟ ماذا عن موطنك؟"

أدى إيسيلدر حركة كأنه يوجه سيفًا إلى شيء ما ويسحبه ببطء دون أن يخرجه فعلًا، ولم يرَ بوريس سوى جانبه حين قال: "القمر"

صدر صوت خافت يشبه تمزيق الريح، وكأن السيف الوهمي اخترق الهواء.

قال: "ذلك هو موطن قلبي"

الجلوس أمام نار المخيم دائمًا ما يستدعي الذكريات القديمة.

كان بوريس يتذكر نيران المخيم التي اعتاد أخوه إشعالها، والتي لم يستطع يومًا إشعالها بنفسه، لقد صار العالم أكثر برودة بكثير بعد أن انطفأت تلك النيران.

"هناك مجموعة من الناس يشبّهون القمر بأمٍ رمزية ترعاهم، عددهم قليل، لكنهم اجتمعوا ليؤسسوا قريتهم الخاصة، واختاروا موضعًا يعيشون فيه في محاولة للتكفير عن آثار كارثة قديمة. السيف والأغنية يمثلان جوهر ثقافتهم، بل إنهما أصبحا شيئًا واحدًا في النهاية. إنها حضارة منسية تتداخل فيها المغفرة والانتقام، وكذلك الوداعة والقسوة. تمامًا كما يمكنني أن آخذ هذه النصل..." ـ✶ـ

استل إيسيلدر خنجرًا وغرسه في الأرض ثم استأنف: "...وأستخدمه في سلب الحياة أو تحريرها، بحسب نيتي"

كانت الليلة شديدة الضباب، حتى نار المخيم بدت وكأن الرطوبة نالت منها.

كان هناك بحيرة صغيرة عند حافة الغابة، وبما أن ليمي أرض شديدة البرودة، فقد كانت مياه البحيرة باردة إلى حد العظم، غسل إيسيلدر وبوريس وجهيهما في البحيرة وكانا يتحدثان قليلاً قبل أن يذهبا للنوم.

سأل بوريس: "هل هذه الحضارة التي تحدثت عنها هي موطنك؟ وأين تقع؟"

أجابه إيسيلدر: "هل ترغب في الذهاب؟"

بدا على ملامحه أنه لم يتحمس للفكرة، لقد بدا مترددًا، وكأنه يود أن يري بوريس موطنه، لكنه لا يدري ما الحاجة التي قد تدعو الفتى للذهاب إلى هناك.

قال بوريس: "ليس تمامًا... لكنني كنت فضوليًا فحسب بشأن المكان الذي نشأت فيه، فأنت مبارز رائع، لكن لديك أيضًا قدرات غريبة أخرى. أظن أنني لن أتمكن من تعلّمها..."

و قال إيسيلدر: "هل تود تعلّمها؟"

وحين لم يجب بوريس، وقف إيسيلدر وأشار إليه أن يقف كذلك، ثم توجها معًا نحو البحيرة، كانت الظلمة شديدة بحيث لم يكونا قادرين على رؤية ظلالهما حتى بعدما ابتعدا عن نار المخيم.

وحين وقفا جنبًا إلى جنب أمام البحيرة، مدّ إيسيلدر يده إلى جيبه وأحكم قبضته على شيء ما، ثم قال: "حتى أنا لا أعلم ما الذي قد تراه، فذلك يتوقف على ما تريد رؤيته، لكنك قد لا تعرف ما تريده أصلًا..." ـ✶ـ

ثم أخرج شيئًا تعرّف عليه بوريس على الفور..لقد كان الخنجر ذو النصل الهلالي المثقّوب، ذا النقش الغريب على ظهره، وهو ذاته الذي سلّمه إليه إيسيلدر سابقًا بدلًا من وينترر.

جلس إيسيلدر على ركبتيه، فتبللت أطراف ثيابه من الماء المظلم الذي تطاير عند ملامسة الخنجر للسطح.

راحت تموجات ذهبية تنتشر على سطح الماء، وكأن الخنجر كان مفتاحًا فتح بابًا لعالم من نور.

تكوّن في النهاية على سطح الماء دائرة ذهبية ثابتة، بدا لبوريس أنها أشبه بمرآة، كانت الدائرة ممتلئة بالنور فقط في البداية، ثم بدأت تظهر فيها صورة شيئًا فشيئًا

استأنف إيسيلدر: "هذا الخنجر... يملك القدرة على إظهار ما ينعكس في قلبك، أو شيء من هذا القبيل، اسمه لونيت (الخنجر الهلالي)، لونيت سيكشف ما ترغب برؤيته، انظر جيدًا" ـ✶ـ

أول ما ظهر كان قمة جبل شاهق.

توجد بحيرة عند سفحه، ووادٍ مليء بالحشائش والزهور يطنّ بصوت الحشرات الصيفية، انزلقت الصورة بين أزهار التلال ثم نظرت نحو الأسطح التي خُبئت بعناية خلف حافة الجبل.

استمرت الصورة في الانسياب مثل الماء حتى وصلت إلى حقل عشبي محاط بدائرة من سبع صخور شاهقة.

على سطح الصخور، كما على الصخرة العريضة المسطحة التي في المنتصف، نُقشت رموز غريبة، لعلها كانت نقوش قديمة لم يعرفها بوريس. ـ✶ـ

هل كان هذا الملجأ ملاذًا آمنًا؟ لم يظهر فيه أي شخص، لكن... هل كان سكانه سعداء؟ وهل كانت تلك البقعة مكانًا لا تزال فيه سحر الماضي المفقود يتنفس، وتُهمس فيه حكايات العصور السحيقة؟

قال إيسيلدر بينما يحدّق في الماء: "الطريق طويل للوصول إلى هناك. لا بد من عبور بحار هائجة، ومن لا يعرف الطريق لن يصل إليه حتى بالمصادفة. لن تعبر البحر حيًا ما لم تعرف الانشودة القديمة، سكان القارة لا يعلمون بوجودهم، وهم يفضلون أن تبقى الأمور على هذا النحو. لقد عاشوا في ظل ماضٍ مشوّه منذ وقوع الكارثة القديمة"

سأله بوريس: "لكنك أتيت من هناك، أليس كذلك؟"

أجاب إيسيلدر: "نعم، وسأعود إليه ذات يوم"

ثم أردف: "قد يبدو جميلًا، لكن الجمال ليس كل شيء"

أخذ بوريس يحدق بصمت في الصورة المنعكسة على سطح الماء وقال: "يبدو هادئًا"

كان يشبه كثيرًا المكان الذي لطالما تمنى بوريس أن يذهب إليه، تُرى، هل كان قلبه سيستحضر صورة مشابهة؟

امتدت الصورة على سطح الماء كتطريزٍ ذهبي، بدت في غاية السكون، وربما بدا ذلك لأنها لم تنقل أي صوت.

ظل بوريس يحدق في المشهد، منجذبًا إلى سكينته، بينما تمرّ فوق الجبال وتغادر القرية لتصل إلى بيت وحيد قائم على منحدر شديد الانحدار

فتح إيسيلدر فمه وكأنه ينوي قول شيء، لكنه أغلقه دون أن ينطق بكلمة، ثم ظهرت هيئة شخص في الصورة، تطلب من بوريس لحظة ليرى بوضوح.

كانت فتاة.

ترتدي تنورة متوسطة الطول مشدودة بحزام عريض، تعلوها سترة فضفاضة، ومعطف أخضر من الفرو السميك.

تفقدت قدرًا موضوعًا خارج البيت، ثم أعادت الغطاء عليه وانحدرت نحو الحقل العشبي أسفل التل، شعرها الأشقر القصير يلمع بضوء القمر، وأذناها البارزتان تتركان انطباعًا لا يُنسى.

جلست على منحدر تغطيه الأعشاب، رفعت ركبتيها، وأسندت ذقنها إلى يدها في سكون، ملامح وجهها حادة وهادئة، تنمّ عن بساطة خشنة لا تفتقر للوقار.

لم توحِ بهيئتها بالزينة أو التصنع، بل بانتماء واضح إلى حياةٍ ريفية صارمة، خلخالان من خيوط رفيعة مرصعة بأحجار صغيرة يحيطان بكاحليها الشاحبين.

هل كانت فتاة أم امرأة ناضجة؟ بدا أن عمرها يتراوح بين السادسة عشرة والعشرين، لكن بوريس لم يستطع الجزم.

كان وجهها حادًا ورفيعًا كحد السهم، يوحي بالبرود، لكن فيه أيضًا شجنٌ غامض، لقد كانت من ذلك النوع من الجمال اللا إنساني الذي لا يُلمس، بل يُنظر إليه فقط.

في تلك اللحظة، زقزقت الطيور فوق البحيرة.

كان صوتها حقيقيًا كما كان في واقعه، ومع ذلك، هبط طائر أبيض في الصورة على يد الفتاة، وكأنها استدعته ، مدّت يدها إليه، فأمال رأسه إليها و حادثها.

تأمل بوريس يدها، لا زينة فيها ولا نعومة، بل خشونة، وعروق بارزة على مفاصلها المتيبسة.

ثم سمع إيسيلدر يقول: "يبدو أنك بخير حال، يا إيزوليت"

ـــــ

ملاحظات المترجمة : أيما نصاً تبعه هذا الرمز ـ✶ـ فهذه إشارة على تحريف النص الأصلي لما فيه من معتقدات أو عبارات تخالف عقيدتنا الإسلامية.

2025/06/17 · 18 مشاهدة · 1723 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025