تأوه بوريس بضع مرات بصوت ضعيف بدلًا من الضحك؛ إذ لم يكن قادرًا جسديًا على الضحك بصوت مرتفع في تلك اللحظة.
كان دوره الآن ليردّ بانفعال: "عمّ تتحدث؟ لم يكن هناك أي شيء بيني وبين روزينيس!"
"ولماذا تقول ذلك؟ لقد كنتما كالأشقاء يومًا ما!"
"لم أقصد هذا..."
صرخ إيسيلدر بعد لحظة: "لا تكن سخيفًا! إن كنتُ قد هربت لأني لم أرد أن أدرّسك، فلماذا أكون هنا أصلًا؟ كان هناك حدث لا بد لي من المشاركة فيه مهما كان، ولهذا—"
"آه، كنت ستتزوج، أليس كذلك؟"
"ماذا—؟! هذا ليس..."
اختنق إيسيلدر بطعامه، وسعل بشدة حتى بدا الأمر مثيرًا للشفقة.
وخلال ذلك، كان بوريس يبذل جهدًا كي يبقى جالسًا باستقامة، دون أن ينفجر ضاحكًا.
لقد فوجئ بنفسه؛ لم يكن معتادًا على إطلاق الدعابات بهذه الطريقة، لكنه أحبّ الأمر بشكل غريب، لقد أراد، بأي وسيلة، أن يُظهر سعادته برؤية إيسيلدر مجددًا.
انتهت الوجبة أخيرًا، حدّق كل منهما في الآخر بنظرات حادة، لكنها لم تكن نابعة عن غضب، وعندما صعد بوريس إلى الطابق الثاني بصعوبة، تبعه إيسيلدر ببطء وهو يضحك بخفّة. دخلا الغرفة وجلسا وجهًا لوجه.
خلع إيسيلدر رداؤه، وكانت بطانته باللون نفسه الذي لاحظه بوريس سابقًا، بلون أوراق الأشجار، ما أعاده إلى أيام مضت في الذاكرة، لكنه لم يسأله إن كان قد قلب الرداء عمدًا.
قال إيسيلدر: "أنت بالكاد شخص يمكن محبته." ثم صمت للحظة، كأن حتى أمثاله يحتاجون للتفكير أحيانًا قبل أن يتحدثوا.
سأله بوريس: "كيف عثرت عليّ؟"
جاء الرد فورًا: "عثرت عليك؟ ألا يبدو أن لدي ما هو أهم لأفعله؟"
أجاب بوريس مبتسمًا: "لا أعلم إن كان لديك حقًا، لكنك ظهرت مرتين تمامًا حين احتجت إلى المساعدة. شكرًا لك."
لم يكن ساخرًا، رغم أن في نبرة صوته بعض المزاح.
رمقه إيسيلدر بنظرة طويلة قبل أن يرفع ذقنه ويهز رأسه، كأنه لا يجد شيئًا أفضل ليقوله: "محض صدفة. لا أكثر."
"لكنّك أرسلت لي تلك القطة..."
"قلتُ إنها صدفة!"
كتم بوريس ضحكته، لكن الأسئلة كانت تتزاحم في رأسه.
"لكن لماذا شتمتني بتلك الطريقة عند بوابة روزنبيرغ؟ هل كنت تكرهني إلى ذلك الحد؟"
كان الغضب قد تملكه وقتها حين عامله الغريب بخشونة، لكنه الآن، بعد أن عرف أن الرجل لم يكن سوى "وَلنيت" — أي إيسيلدر — وجد الأمر أقرب إلى الطرافة.
بدا له وكأن سيل الشتائم قد غسل مرارة الفراق المؤلم، وكأنهما قد وصلا إلى تصفية تلقائية لحساب كان ينبغي تسويته منذ وقت طويل.
قال له إيسيلدر ببرود: "كنتَ تستحق ذلك. وسأستمر في شتمك."
وهذه المرة، لم يتمالك بوريس نفسه من الضحك، رغم جراحه.
"إذًا قررتَ أن ترافقني في رحلتي أخيرًا؟ هاهاها... أوخ!"
ربما شعر بالارتياح أكثر الآن.
بوريس الذي عاش في قلعة بيلينور وتعلّم على يد وَلنيت لم يكن يشبه البتة بوريس الذي التقى بإيسيلدر الآن.
وربما كان ذلك لأن النسخة الأولى لم تكن حقيقية، لا أحد يستطيع أن يحب شخصًا مزيفًا، وكان من المريح للغاية أن يلتقي بوريس بنسخته الحقيقية أخيرًا.
لم تتحوّل التوترات والحيطة التي كانت بينهما في الماضي إلى هذه الصراحة التي تجمعهما اليوم بين ليلةٍ وضحاها.
ورغم أن بوريس لم يُدرك ذلك من قبل، إلا أنه حين نظر إلى الوراء، تبيّن له كم تغيّرت علاقتهما.
وكان ذلك أمرًا جيدًا، لم يكن بوريس يرغب أبدًا في العودة إلى ما كان عليه، لقد مضى وقت طويل منذ آخر مرة التقى فيها شخصًا يستطيع الوثوق به.
تمتم إيسيلدر بنبرة كئيبة: "ولِمَ يجب أن أكون لطيفًا معك بهذا الشكل المبالغ فيه؟"
ثم أسند يديه خلف رأسه واتكأ إلى الوراء.
لم يكن وَلنيت قد غيّر اسمه فقط، بل تغير تمامًا، ففي الماضي، كان معلّمًا للابن المُتبنّى للكونت بيلينور، أما الآن، فلم يكن سوى مبارز تائه بلا انتماء.
وَلنيت كان عشوائيًا متقلبًا، أما إيسيلدر فكان صريحًا، هادئ الطبع، ومتحررًا من القيود، بدا مرتاحًا، وكأن هذا هو أقرب ما يكون إلى شخصيته الحقيقية.
بشأن الحديث الذي لم نُكمله البارحة... كيف تنوي أن تردّ لي جميل إنقاذ حياتك؟ أنا صارم للغاية في معاملاتي، ولا أنسى من يدين لي بشيء. لم أعد معلّمك، وهذا يعني أنني لست مُلزَمًا بإنقاذك."
ولكن، إن لم يكن ملزَمًا... فلماذا تعقّب بوريس سرًا بعد أن افترقا عند البوابة، وظهر بالضبط في اللحظة التي كان فيها بأمسّ الحاجة إليه؟
لم يقل بوريس ذلك، وبدلًا من ذلك، سأل بجديّة: "كيف يمكنني ردّ الجميل؟"
ردّ إيسيلدر وهو يبدو وكأنه لم يكن يملك جوابًا حين طرح السؤال: "هممم... لا أدري."
ثم ضيّق عينيه فجأة وقال: "ما رأيك أن تُعيد لي ذلك السيف؟"
اعتدل بوريس في جلسته فورًا وهزّ رأسه نافيًا: "محال."
قال إيسيلدر: "لا بد أنك شعرت بالأمس كيف يمكن لذلك السيف أن يتغيّر."
"ماذا؟" سأل بوريس وقد ارتبك، فهل كان مخطئًا بشأنه؟
أردف إيسيلدر: "هل لا تزال تصرّ على حمل ذلك الشيء؟ إنه يعشق القتل. إن اعتدت عليه، فسيساعدك على حماية نفسك، لكنه سيجعلك شخصًا مختلفًا تمامًا. سفك الدماء سيغدو تافهًا بالنسبة لك، وقد تبدأ حتى في السعي إليه بنفسك."
عقد بوريس حاجبيه، متذكّرًا الإحساس الغريب الذي راوده بالأمس.
هزّ إيسيلدر رأسه مجددًا وقال: "لكن، ربما الأمر ليس بتلك البساطة، على أي حال، ذلك السيف يحتوي على نوع من السحر... وسحرٌ كهذا، لا يمكن تحديد طبيعته، غالبًا ما يكون سيئًا، فبعض الأشياء تُصنع بقصد الدمار منذ البداية."
أُخذ بوريس بهذه الكلمات، وعجز عن الردّ للحظة، لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه وقال: "ربما معك حق، لكنني اتخذت قراري بحماية هذا السيف لبقية حياتي، وهذا قرار لن أتراجع عنه بسهولة. طريقة عمل السيف تعتمد على حامله، أليس كذلك؟ ومهما كان السحر الذي يحمله هذا النصل شريرًا، إن كنتُ مصممًا بما يكفي، فلا أظن أن مجرد أداة يمكنها التغلب عليّ."
نظر إليه إيسيلدر للحظة. لم يكن واضحًا إن كان يُعجب به أم يسخر منه.
"لا تبدو فكرة سيئة — وأنا أريد لك ذلك أيضًا — لكني لست واثقًا من أنها ستكون بهذه السهولة، ربما عليك أن تسأل شخصًا يعرف بأمور كهذه. ماذا تعرف أنت عن هذا السيف أصلًا؟ كيف وصلت إليه عائلتك؟"
تردد بوريس في ذكر العتاد، لكن التردد لم يدم طويلًا.
"هناك درع يُكمل السيف، يُدعى حارس الثلج، والسيف والدرع معًا يُكوّنان ما يُعرف بـ عتاد قاع الشتاء، لكن الدرع ليس بحوزتي الآن... إنه في مكانٍ لن يُعثر عليه مجددًا..هذا كل ما أعلمه، ولا أعرف كيف حصلت عائلتي على هذا السيف، ولا ما الذي يستطيع فعله تحديدًا."
لم يسأل إيسيلدر عن مكان درع "حارس الثلج"، لكنه بدا مرتاحًا بعض الشيء حين علم أنه قد لا يُعثر عليه أبدًا.
قال مبتسمًا، وقد ارتسمت على شفتيه تلك الابتسامة التي تبادلاها في بعض ليالي المبارزة داخل قلعة بيلنور: "هذا يعني أن السيف سيكون أضعف قليلًا على الأقل، ما دامت الدرع لن تُستعاد."
وأضاف بابتسامة ماكرة: "حسنًا... ما رأيك أن نرى من سيفوز — الفتى أم السيف؟ لا أستطيع أن أطلب منك الاستسلام قبل أن تحاول. لكن لا تشهره دون حاجة حقيقية، وإن اضطُررت إلى استخدامه، فكن حذرًا، وانتبه لأي أفكار دخيلة تتسلل إلى ذهنك، وإن شعرت بأي تغير مقلق، تعال إليّ فورًا. من الأفضل أن تبقيه بعيدًا منذ الآن، إن استطعت."
أومأ بوريس برأسه، مستمتعًا بسعادة غريبة غمرته. لم يكن يدري تمامًا لِمَ شعر بالفرح، أو لماذا أحب هذا الرجل إلى هذا الحد، لكنه في تلك اللحظة أحس بسعادة فطرية صافية.
لم يعد وحيدًا. بات يمكنه الاعتماد على شخصٍ آخر من جديد.
قال مبتسماً: "هذا يعني أنك ستبقى معي، في النهاية."
رفع إيسيلدر إصبعًا وقال: "هل تذكُر حين عرضتُ عليك أن ترافقني بعد بوابة روزنبرغ؟ رفضتني فورًا، ألم تقل إنك لا تريد رؤيتي مجددًا؟"
ابتسم بوريس، فقد بدا له إيسيلدر وكأنه يتذمر مثل طفل.
"دعني أعتذر عن ذلك."
"لا. الاعتذار لا يكفي، لقد أضعتَ فرصتك، لا تتكرر الفرص هكذا. والأسوأ من ذلك... أنك مدين لي الآن، لماذا لا نُطبق عقدًا رسميًا هذه المرة؟"
اتسعت عينا بوريس فجأة: "لا تقل إنك ستبدأ بشتمي مجددًا!"
كان إيسيلدر غريب الأطوار بما يكفي ليفعلها، واكتفى بالابتسام، وكأنه يتسلى، متسائلًا: هل هناك ما هو أمتع من هذا؟
قال: "لا أظن أنه سيكون سهلًا عليك أن تتحمل هذا يوميًا، لكن على كل حال، لم تعد وريثًا لكونت، بل رفيقٌ يُعدّ نظيرًا لي، لن تعاملني كتلميذ، وسأحميك، وفي المقابل، ستقضي شؤوني. ما رأيك؟"
فوجئ بوريس و أجاب على الفور: "لِمَ لا؟"
"سأكون صارمًا في أوامري، هل تظن أنك ستحتمل ذلك؟"
ضحك بوريس بخفوت وقال: "لطالما احتملتك، يا سيد وَلنيت."
قال إيسيلدر فجأة بلهجة صارمة: "لا تنادِني بهذا الاسم، ولا تفكر بي كمعلّم أيضًا، انتهى ذلك. لم نعد هناك. يضايقني هذا."
"فماذا أقول إذًا؟"
"إيسيلدر، لا أكثر، يكفي هذا."
"لا أستطيع، سأشعر بالحرج."
فكر إيسيلدر للحظة، ثم أردف مستسلماً: "احذف اسمي فقط، إذن. ماذا يمكنك أن تفعل غير ذلك؟"
ذكره ذلك بطريقة لانزي حين كان يحذف مناداته بـ"سيدي الشاب" في بعض الأحيان، لم تكن طريقة ودية في الخطاب، لكنها كانت توحي بالقرب أكثر من أي ألقاب رسمية.
لاحظ بوريس أن إيسيلدر لم يسأله لماذا هرب من القلعة أو لما كان يتجول هكذا بلا وجهة، وكأنه كان يعلم كل ما حدث، لكن هذا مستحيل. لم يكن ليعلم وقت مغادرته.
مدّ إيسيلدر يديه، ووضعهما على وجه بوريس، كانت الحركة خشنة، لكنه ربت على وجنتيه وحدّق في عينيه مباشرة.
وفي تلك اللحظة، أحس بوريس بشعور مألوف، ذكره بشخص آخر سبق وأن أمسك وجهه بتلك الطريقة...لم تكن نفس اللمسة تمامًا، لكن الإحساس كان متقاربًا.
قال إيسيلدر بهدوء: "يا لك من صبي أحمق ... كنت قلقًا لأنك بعيد عن ناظري، ألا يُخبرك ذلك كم بدوتَ طائشًا في نظري؟ عجباً..."