أُصيب اثنان من الرجال في الرقبة والكتف، لكن بوريس أُصيب كذلك في الفخذ والذراع.
وعلى الرغم من دهشة الرجال لاكتشافهم أن الصبي لم يكن أخرق كما ظنوا، فإنهم بدأوا يحيطون به من كل الجهات، كان أحد عشر رجلًا في مواجهة واحد، ولم يكن هناك سبيل لأن يخسروا.
كان سيف الصبي ذا جودة لا تُصدّق، ولو أن مبارزًا حقيقيًّا استخدمه، لكان القضاء على عشرةٍ من الأشقياء أمرًا يسيرًا.
كان ذلك السيف يساوي جيشًا من عدة مئات — لا لأن سلاحًا واحدًا يمكنه قتال هذا العدد، بل لأنه بتلك الندرة، لم يكن من المنطقي أن يعجزوا عن سرقته من طفل.
ومع تلاشي الأدرينالين، بدأ التعب يتسلل إلى بوريس بسرعة، غير أن ذهنه صار أكثر صفاءً.
والآن بعدما صار يستخدم وينترِر بنفسه، لا يحمله كشيء يخصه فقط، بدأ يدرك لمَ يرغب الجميع به.
حتى الصدمة وإحساس الظلم الناتج عن قتل رجل، تضاءل أمام جاذبية هذا السيف الساحرة، فالسيف خُلق ليقتل، ولهذا، فإن جماله يناسب غايته تمامًا.
ما الذي يدعوه إلى الخوف؟ ما الداعي لأن يفرّ؟ أفكارٌ لم يسبق له أن عرفها بدأت تتدفق في ذهنه، دون أن يعلم لماذا اجتاحته فجأة.
وكلما اتحد مع السيف أكثر، واستعمله بمهارة أكبر، شعر بقوة تنبعث من داخله، راوده شعور بأنه يريد أن يملكه حقًّا — أن يستخدمه بحرية، كما لو كان جزءًا من جسده.
'أسرع!'
اخترق وينترِر قلب أحدهم، فاندفع الدم في الهواء، ولم يزد هذا المشهد بوريس إلا حماسة، لم يعد قتل إنسان يُحدث فيه تلك الصدمة كما في السابق.
بل إن الثقة الناتجة عن فعله ذلك جعلت حركته أسرع، فصدّ ضربةً أتته من الخلف، تحرك النصل في قوسٍ حاد، قاطعًا قدم المهاجم — القطع كان نظيفًا وسهلًا إلى حدٍ أدهش بوريس نفسه.
"سحقاً!"، صرخة ألم شقت الهواء، وازدادت حدة وينترِر بطريقة غريبة، ما حدث الآن كان مستحيلًا بسيفٍ عادي.
توهجٌ غريب أحاط بالشفرة، وبدأ ينتشر.
"اهجموا عليه! جميعكم!"
راح السيف يقطع كل ما يلمسه، واضطر العدو إلى توخي الحذر، صعد ثلاثة رجال على خيولهم واندفعوا نحوه، فانحرف بوريس جانبًا ولوّح بالسيف مجددًا، ولسببٍ ما، ملأه مشهد ساق الحصان وهي تُقطع بسلاسة بإحساس بالنشاط.
لكن في اللحظة التالية، اندفع خنجرٌ نحو بوريس وغرس في ظهره.
"خذ هذه، أيها اللعين!"
في تلك اللحظة، اجتاح جسده بردٌ شديد، وبدأ يدرك ما فعله، خنجر في الظهر... لقد تسبّب في جرحٍ كهذا من قبل.
ومثل المدّ وهو ينحسر، انطفأت انفعالاته فجأة، ارتخت يداه..
كان الجرح عميقًا، لكن ذهنه عاد إلى طبيعته فجأة، وعندما استوعب الموقف دفعة واحدة، خلّف ذلك في داخله تنافرًا فظيعًا.
ترنّح في وقفته، فأمسكه أحد الرجال، بينما أمسك آخر بذراعه ولفها بعنف.
سقط وينترِر من يده، داسته قدمٌ، فلم يستطع التقاطه، وسحب رجلٌ آخر الخنجر من ظهره، ثم ارتفعت قبضة، وضربت ذقنه.
"ذلك الوغد! اقطعوا رأسه!" صرخ الرجل الذي فقد قدمه وهو ممدد على الأرض.
أمسك رجال آخرون بذراعي بوريس، وتقدّم واحد منهم وهو يرفع سيفه، لقد كان على وشك أن يُقطع رأسه.
لكن فجأة، حدث أمر ما وتدخّل شيء ما،لم يكن بوريس يعلم ما الذي يحدث، فقد كان الأمر يحدث من خلفه.
تركه الرجال بسرعة وتراجعوا، وعلى الرغم من أن يديه أصبحتا حرتين، فقد هوى إلى الأرض عاجزًا عن الحركة.
ثم لمح وينترِر تحت قدم أحد الرجال، كان ذلك الرجل يحاول التقاطه، وفعل بوريس الشيء نفسه، مدّا أيديهما نحو السيف في اللحظة ذاتها تقريبًا.
"ابتعد عن هنا!" صرخ الرجل، ضاربًا يد بوريس عندما تلامستا.
كان بوريس يائسًا، فأمسك هذه المرة بالنصل نفسه، وسال الدم من قبضته، لم يكن ينوي أن يتركه.
"ابن الـ**!"
ظهر ظل أسود فوقه، ودوّى صراخ مفاجئ، رفع بوريس رأسه، فرأى شخصًا يرتدي عباءة يحطّ برشاقة خلف الرجل.
كان سيف الغريب الطويل قد اخترق ظهر الرجل وخرج من بطنه.
سحب الرجل ذو العباءة سيفه بسهولة، ثم استدار وانقضّ على الآخرين.
كانت يد بوريس تنزف بشدة. ومن الغريب أن وينترِر بدا أكثر حدّة بكثير أثناء المعركة، وقد جرح نفسه بعمق لمجرد لمسه للنصل، ولو أنه أمسك به لثوانٍ أطول، لربما فقد بعض أصابعه.
بدلًا من معالجة جراحه، أمسك وينترِر بيده اليسرى، كان رأسه يدور، لكنه أجبر نفسه على الوقوف.
راح يُراقب أقواس السيوف في الهواء — خيالات تركها سلاح يتحرّك بسرعة تتجاوز إدراك البصر. كانت الضربات سلسة ودقيقة، الغريب كان يحصدهم كأنهم قشّ.
شقّ حنجرة رجل، ثم طعن كتف آخر في اللحظة نفسها، انحنى، وركل أحدهم ممن حاول مباغتته من الخلف، قفز برشاقة من قدم واحدة، وقطع ذراع رجل يمتطي جواده.
كان سيفه من نوع السيف الثقيل، بحجم قريب من وينترِر لكنه كان يبدّل بين استخدامه بيد واحدة وبيدين ببراعة مذهلة.
نصف المهاجمين سقطوا قتلى خلال ثوانٍ، والباقون فرّوا كمن رأى شبحًا، لم يلاحقهم الغريب، بل ضيّق عينيه يراقبهم وهم يولّون الأدبار.
وبقي هو وبوريس وحدهما، محاطين بالجثث والدماء.
فرس بوريس لم يهرب، بل ظل قريبًا، ثم عاد إليه الآن، لكنه لم يلحظ ذلك، إذ كان يحدّق بجمود في منقذه.
"أنت..."
كانت العباءة والقلنسوة مألوفتين — تخصّان الرجل المزعج الذي افترق عنه حالما عبروا بوابة روزنبرغ.
لكن لم يكن ذلك كلّ شيء، بوريس لم ينسَ أبدًا تلك الحركات، وتلك التقنيات القتالية، لكنه لم يستطع تصديق ما تراه عيناه.
لماذا؟ كيف وصل إلى هنا؟ وكيف وجده بهذه الطريقة؟
استدار الرجل ونظر إليه: "أعد السيف إلى غمده قبل أن يفوت الأوان."
وجد بوريس نفسه يطيعه.
كان الغمد المهترئ ملقى على الأرض على مسافة، بعد أن داسه أحد الخيول، وما إن أعاد وينترر إلى غمده، حتى انطفأ شيء داخله فجأة، وتلاشى التوهّج الأبيض للسيف.
"ما رأيك في درسي الأول؟"
لم يلتقط بوريس حزامه، ولم يحاول حتى وقف النزيف، بل واصل التحديق في الرجل.
نسي ألمه لوهلة، كان عقله يعجّ بأسئلة لا حصر لها.
قال الرجل مجددًا: "أما تنوي ردّ الجميل لمن أنقذ حياتك؟"
هبت نسائم خفيفة وحرّكت عشب الحقل، كان الصيف قادمًا، حتى إلى هذه الحقول الشمالية الباردة.
كان لا مفر منه — لا شيء يمكنه إيقاف مجيء الصيف.
"غير مبهر كثيرًا، لكن..."
تبدّل صوت الرجل شيئًا فشيئًا، من نبرة حادّة متوترة إلى صوت جهوري دافئ.
كان الصوتان مختلفين تمامًا، ويصعب تصديق أنهما خرجا من الشخص نفسه، لم يكن بوريس يعرف أن أحدًا يمكنه فعل ذلك.
لولا هذا التغيير، لكان تعرّف عليه فورًا.
أزاح الرجل قلنسوته، فسقطت جديلة بنية طويلة حتى خصره.
"ليست طريقة سيئة للقاء مجددًا، أأنا محق؟"
وبينما غادر التوتر جسد بوريس، شعر كأن عقدة ثقيلة قد انحلّت داخله، هذا هو الرجل الذي خيّبه، الرجل الذي غادر دون أن يخفي خيبة أمله.
لم يستطع بوريس النظر إليه..
◈ ◈ ◈
فتح عينيه، وحدّق من حوله..رأى أغطية نظيفة، وغرفة بسيطة لكنها مرتّبة، ونافذة نصف مفتوحة، ووعاء ماء قد ملأه أحدهم.
كان قد استيقظ للتو، مستلقيًا على بطنه على السرير، حاول النهوض، لكنه كاد يفقد وعيه من شدّة الألم.
تذكّر أخيرًا جرح ظهره، رغم أن أحدًا قد عالج الجرح بعجلة ووضع دواءً، إلا أن الشفاء سيأخذ وقتًا طويلًا.
نهض بحذر، وابتعد عن السرير.
حتى رفع ذراعيه لغسل وجهه تطلّب جهدًا جبارًا، فكّر في أن يغطس وجهه في الماء وينتهي، لكن العمق الضحل للوعاء لم يساعده.
عضّ على أسنانه، وحرّك يده اليسرى فقط وهو يغسل وجهه — فالجرح كان قريبًا من كتفه اليمنى.
حاول أن يضحك — لن يموت بسبب هذا — لكنه لم يفلح.
فتح الباب ونزل إلى الطابق السفلي، وهو يشعر أن كل طاقته تتبدّد.
كل ما أراده الآن هو أن ينتهي هذا اليوم سريعًا.
"أهلاً."
كان الأمر غريبًا، هل كان بوريس يحبّ هذا الرجل؟ لم يستطع التذكّر بالضبط.
ربما أحبّه قليلًا، وكان بينهما لحظات غامضة شعر فيها بأنه قد ربطه به شيء ما، لم يكن حاسمًا بشأن لقائه مرة أخرى، ومع ذلك، فقد أحبّ أن هذا اللقاء قد حدث.
الفرح الذي غمر قلبه لم يكن له وصف، لقد كان بوريس تائهًا، وحيدًا، والآن رأى صديقًا قديمًا.
"تعال وتناول فطورك، لن يُطعمه لك أحد."
راود بوريس شعور بالرغبة في الضحك، رغم مرضه.
كان بالكاد يستطيع تحريك شفتيه، وكلما شدّ صدره قليلًا، اشتعل الجرح في ظهره، لم يكن قادرًا على الضحك، ولا حتى على رفع صوته بالكلام.
وحين جلس، لاحظ وجود عصيدة من الحبوب وقطعتين من الخبز، وعلى الطرف الآخر من الطاولة كان هناك وعاء دجاج مسلوق.
"لا يمكنك أكل اللحم الآن، فأنت مصاب، فقط تناول الخبز والعصيدة."
امتثل بوريس للأمر دون أي تذمّر.
رغم أنه نشأ على طعام فاخر، وتناول أطباقًا مترفة في قلعة بيلنور، إلا أنه لم يشعر بأي رغبة في طعام أفضل، ولم يكن صعب الإرضاء.
راقب الرجل بوريس وهو ينهي طعامه الفاتر بسرعة، ثم يستند إلى الوراء، فقال له: "من يأكل ببساطة، يمكنه فعل أي شيء — أظن أن المثل يقول ذلك."
قال بوريس بصوت خافت:"السيد وَلنيت..."
"لم أعد أُعرف بذلك الاسم، هذه أرض مختلفة، انسَ ذلك الاسم الآن. أنا إيسيلدر، إيسيلدر سان، اسم كهذا هو بالضبط ما تتوقّعه من شخص من ليمي، أليس كذلك؟"
كان إيسيلدر — الذي كان يُعرف سابقًا بوَلنيت — يبدو أقوى مما كان، وشعره صار أطول، أما لحيته، فبقيت كما هي، لكن بشرته صارت أكثر اسمرارًا.
قال بوريس دون تفكير: "جبهتك تبدو وكأنها اتّسعت."
ردّ إيسيلدر على الفور: "ما الذي تقوله؟ جبهتي لم تتغيّر إطلاقًا، لا تقصد أن تقول إن خط شعري يتراجع، أليس كذلك؟"
ورغم أن بوريس لم يكن يقصد ذلك، إلا أنه كان أحيانًا صريحًا إلى درجة الجفاء.
"الاحتمال وارد."
ردّ إيسيلدر بتحذير ساخر: "احذر من أن تؤذيك هذه الافتراضات السخيفة."
فأجابه بوريس: "ذلك لا يُقارن بالأذى الذي سيلحق بك إن اتّضح أنها صحيحة..."
تساءل بوريس في نفسه إن كان قد جادل هذا الرجل هكذا من قبل.
لكن بينما أنهى إيسيلدر طعامه، استمرّا في تبادل الكلمات التافهة — أحيانًا يصرخان، وأحيانًا يضحكان.