لم يسبق لبوريس أن انحنى لأحد سوى لوالده ولشخصٍ آخر، لكنه فعل ما طُلب منه وتمنّى للرجل رحلة آمنة.
مرّ بلحظات لا تُحصى شعر فيها بالغضب والرغبة في الانسحاب، وكان فخورًا بنفسه لأنه تمكّن من إكمال الأمر حتى نهايته، لم تستغرق الرحلة عبر المسار الصاعد إلى البوابة سوى بضع ساعات، لكن الوقت لم يمرّ عليه ببطء كما مرّ حينها.
"ها قد انتهينا، لم يكن بالأمر السهل كما ظننت، أليس كذلك؟"
كان بوريس يتوقع أن يشعر بالراحة عند سماعه هذا، لكن الأمر لم يكن كذلك،فقد اجتاحه شعور مفاجئ برغبة عارمة في ردّ الجميل للرجل على كل ما تحمّله بسببه، حتى أنه فاجأ نفسه بذلك.
"لا شك أن الغضب واتخاذ موقف حين يستدعي الأمر ذلك يتطلب شجاعة، لكن الصبر على احتمال الأمر حتى نهايته، عندما يكون ذلك هو الواجب، أمر أصعب بكثير. أليس كذلك؟"
لم يكن بوريس متأكدًا مما إذا كان الرجل يقدّم له نصيحة أم يسخر منه.
ضحك الرجل بصوتٍ عالٍ عندما رأى النظرة في عيني بوريس، ثم قال: "لدي اقتراح لك."
"ماذا؟" قال بوريس، وقد بدا صوته قاسيًا.
حتى وإن ظنّ أن الاقتراح لا داعي له، لم يستطع إخفاء نبرته.
"لا أعلم إلى أين تتجه، لكن لا يوجد سوى طريقٍ واحد نحو الشرق من هنا. ما رأيك أن نسافر معًا؟"
سكت بوريس.
كم يمكن أن يكون هذا الرجل وقحًا؟ ألم يفعل ما يكفي بالفعل؟
ثم أدرك خطأه...الرجل لم يكن يطلب منه مواصلة اللعب، بل فقط السفر معًا.
العقد قد انتهى بالفعل، ومع ذلك، لم يشعر بوريس بأي رغبة في مرافقة هذا الرجل.
قال باختصار: "لا."
"لا تدع عواطفك تعمي حكمك، ستتعلم الكثير إن رافقتني. وفوق ذلك، سيكون أكثر أمانًا، ألا ترى أنك لا تزال صغيرًا لتسافر وحدك؟"
كان اقتراحه غريبًا في لطفه، لكن بوريس هزّ رأسه: "معك حق، لكن لا أرغب في ذلك،سأتابع طريقي الآن. وبالمناسبة، آمل ألّا نلتقي مجددًا."
"إن كان هذا ما تريده. فقط، لا تندم لاحقًا."
ثم افترقا.
ورغبةً في الابتعاد عن الرجل بأسرع ما يمكن، امتطى بوريس الحصان الذي كان يقوده بلجامه، وضغط برفق على جانبيه لينطلق.
◈ ◈ ◈
في البداية، لم يلاحظ فرقًا كبيرًا عن أنوماراد، لكن ذلك تغيّر عند غروب الشمس.
بدأت الرياح تملأ الحقول الخالية، وسرعان ما أخذت تعصف بعنف، حتى بات لها صوت هادر، كانت الرياح مختلفة تمامًا عن نسائم حقول لونغورد، حتى في صوتها.
رياح أنوماراد اللطيفة لم تكن شيئًا يُذكر مقارنةً بما يواجهه الآن، كانت تعصف ببوريس بقسوة بالغة.
"أيها الصبي، أعطنا كل ما لديك وارحل."
لم يكن يعرف من هم.
قطاع طرق؟ تجار تحولوا إلى اللصوص؟ أم مجرد رعاع من سكان المنطقة؟
اقترب منه عدة أشخاص بطريقة عادية وأحاطوا به، كانت ملامحهم وتصرفاتهم تدل على مدى ارتياحهم واستخفافهم به.
"لقد سمعتنا، يا فتى، انزل عن الحصان، واترك أمتعتك أيضًا. سترحل ولا تملك سوى الملابس التي ترتديها، واضح؟"
"هذا بطيء الفهم، تحرّك!"
نظر بوريس حوله، كانوا أحد عشر شخصًا، وكان من بينهم بالغون يمتطون الخيل، وقد أشهروا سيوفهم وأسلحتهم، يبدون أشداء.
حتى لو لم يكونوا محاربين بارعين، فمن المستحيل عليه أن يواجه أحد عشر شخصًا بمفرده.
وبالنظر إلى فارق السن وحده، كان سيجد صعوبة حتى لو كانت المواجهة واحدًا لواحد.
اجتاحه القلق، وتبعه اليأس.
لم يكن بوريس قد انحنى حتى أمام الفرسان الذين يحملون السياط، لكنه أدرك أن التمسك بذلك الآن ليس إلا تهورًا لا طائل منه.
قال أحدهم: "اضرب حصانك على مؤخرته، سيأتي إلينا، بعدها، كل ما عليك فعله هو أن تمشي مبتعدًا بهدوء."
سيكون كاذبًا لو قال إنه لم يفكر في المقاومة، عندها تذكّر شيئًا قاله له ذلك الرجل الوقح.
لم يكن يعتبره نصيحة حقيقية من قبل، لكن الكلمات عادت فجأة إلى ذهنه، وكانت بالضبط ما يحتاج إلى سماعه، لم يكن بوسعه أن يموت فقط لأنه لم يحتمل عندما كان ينبغي أن يحتمل.
"ستتركوني أرحل إن أعطيتكم حصاني وأمتعتي؟" سأل.
"بالطبع. هيا نفّذ."
ترجّل بوريس عن حصانه.
لقد تعلّق به بعد أن قضى معه وقتًا طويلًا في السفر، لكن لا مفرّ الآن.
كل ما كان يملكه هو خنجر في كيس الطعام، وقليل من الذهب، وبعض مستلزمات السفر والطعام.
ولم يشعر بأسف كبير على فقدانها.
ضرب الحصان بخفة، فتردد لحظة ثم تقدّم بضع خطوات، أخذ الرجل الذي في المنتصف اللجام، وتراجع بوريس قليلًا عن الدائرة التي أحاطت به.
فتح الرجال الكيس، وبدوا محبطين بشدة عندما لم يجدوا فيه شيئًا يُذكر.
كان بوريس على وشك الانصراف حين قال أحدهم: "مهلًا، سيفه يبدو جيدًا."
فعلّق آخر: "تقصد ذلك الشيء البالي؟ ما الجيد فيه؟"
قال الأول مجددًا: "لا، انظر إليه عن قرب. الغمد متآكل بعض الشيء، لكن المقبض جميل. يبدو كسيف حقيقي."
خفق قلب بوريس بسرعة.
أسرع في خطواته، لكن أحدهم صاح: "أيها الصبي! اترك السيف أيضًا. إن كان جيدًا، فهو لي."
لم يكن بوريس يعلم ما عليه فعله، لم يلتفت، ولم يمد يده إلى سيفه.
لقد أوصاه شقيقه بأن يعتز بـ"وينترر" أكثر من حياته نفسها، لكن... هل عليه أن يتحمّل مثل هذه الإهانة؟ هل يتخلى عن آخر ما يهمّه، دون أن يُمنح حتى فرصة واحدة ليختبر مهاراته؟
'كلا..' إن كان عليه أن يفعل شيئًا، فعليه المحاولة حتى النهاية.
استدار، كانت يداه ترتجفان، لكنه جثا على ركبتيه وانحنى حتى لامست جبهته الأرض.
قال بصوت منكسر: "أرجوكم، سامحوني... ليس السيف... إنه آخر ما تركه لي والدي قبل وفاته، ولذلك أعدّه بمنزلة حياتي، إنه ليس سلاحًا جيدًا على الإطلاق، لذا أرجو السماح لي بالاحتفاظ به، سأظل ممتنًّا لكم... ما حييت."
استدار أحد الرجال نحو رفاقه وقال: "لماذا لا ندعه وشأنه؟ السلاح لا يبدو جيدًا أصلًا."
وأيّده آخرون: "لا يعجبني أن نسرق شيئًا يحتفظ به كذكرى من والده، لنتركه، لا يزال طفلًا. انظروا كيف يتوسل."
قال آخر: "هممم..."
رأى بوريس بصيص أمل، إن كان الانحناء قد يجنّبه المصيبة، فعليه أن يفعل ذلك في كل مرة، فالذين يتحمّلون الذلّ، هم وحدهم من يمكنهم حماية ما هو أعظم.
هو ضعيف، ويجب أن يتعلّم كيف يعيش الضعفاء.
لكن الرأي انقسم بينهم، فرفع الرجل الذي بدأ النقاش صوته وقال:"لا تكونوا سذّجًا! ألستم تعلمون أن الأشياء التي يُستهان بها عادةً هي الأكثر قيمة؟ وكونه مستعدًا لأن يذلّ نفسه بهذا الشكل يجعلني أشك أكثر، سأنظر في أمر هذا السيف، مهما كان الثمن."
قال آخر مؤيدًا: "أتفق معه. لا يمكننا أن نأخذ حصانًا وبعض النقود ونترك الكنز الحقيقي له، كفى خداعًا، أيها الصبي، اترك السيف وارحل من هنا."
"لقد سمعت ما قاله! نفّذ الأمر!"
واجه بوريس صعوبة في الوقوف على قدميه، خفض صوته مجددًا، متوسلًا: "أرجوكم، فقط دعوني أرحل... سأشعر بالخزي إلى الأبد أمام روح والدي الراحل وعائلتي إن فقدت هذا السيف، إنه كالعائلة الوحيدة المتبقية لي، هذا السيف هو السبب الوحيد الذي جعلني أواصل العيش حتى الآن، اطلبوا أي شيء آخر، وسأنفّذه عن طيب خاطر، أرجوكم، تحلّوا بالرحمة، أيها السادة الكرام..."
ومع كلماته، لم يكن يتوسّل فحسب، بل بدأ يُدلّلهم بالكلام ويُهين كبرياءه، منذ وقت ليس ببعيد، لم يكن ليتخيل أبدًا أن يفعل شيئًا كهذا.
"يا لك من صبي ثرثار! سحقاً ، فقط خذ السيف وارحل، أتسمعني؟"
"لا! لا تجرؤ! سأذبحك إن لم تُسلّم السيف!"
"لا تكن عنيفًا هكذا، لسنا من النوع الذي يسرق من الأطفال..."
"هل تسمع نفسك؟! لقد كنا لصوصًا منذ زمن لا نذكره! الأشياء التي يملكونها دائمًا تكون الأفضل. أرِنا السيف! دعنا نلقي نظرة!"
نزل أحد الرجال عن حصانه، واستل سلاحه واقترب من بوريس، فتوقفت بقية المجموعة عن الجدال.
"انهض! الآن!"
وقف بوريس ببطء، وعيناه تلمعان بالغضب، وقد وضع يده اليمنى على مقبض السيف.
رمقه الرجل بنظرة حادة، متفاجئًا، ذلك الصبي المتوسل بدا فجأة شديد التحدي.
"ما الأمر؟ هل جُننت؟! ما الذي تحدّق فيه هكذا؟! أتظن أن نظراتك الغاضبة ستغيّر شيئًا؟"
تراجع بوريس خطوة إلى الوراء بصمت، وبينما كان يتوسّل، كان قد تمكّن من الخروج من الدائرة التي أحاطت به.
اقترب الرجل أكثر، موجّهًا سيفه نحو بوريس: "يا ابن الـ**! أتريد قتالًا؟ هل هذا ما تسعى إليه؟!"
"ستندم على ما فعلته، أيها الصبي!"
قبض بوريس بقوة على مقبض وينترِر بيده اليمنى، وباليسرى أمسك الغمد.
لم يعد هناك مجال للتراجع، المقاومة باتت خياره الوحيد.
"فلنرَ من منا سيندم في النهاية."
انزلق السيف الأبيض النقي خارج الغمد البالي، وكان نصله صافياً لدرجة أنه عكس نجوم السماء التي بدأت تشرق في ليلٍ هادئ،
مطلقًا طاقة باردة في الأرجاء.
تجمّد الرجال في أماكنهم، وقد اتسعت أعينهم من الذهول.
صرخ أحدهم: "أرأيتم؟ ألم أقل لكم؟! أكنتم حقًا على وشك ترك شيء كهذا؟!"
"سحقاً!"
نزع بوريس الغمد من حزامه ورماه جانبًا، ثم قفز إلى الوراء ورفع نصل السيف، مصوّبًا إياه نحو أول من يهاجمه.
اندفع الرجل نحوه صارخًا، وفي الوقت نفسه، ركل آخر بطن الحصان، قاصدًا دهس بوريس.
انزلقت سيف الرجل على نصل "وينترر"، فدفعه بوريس بقوة حتى وصل إلى المقبض، ثم تراجع للخلف وطعن مرة أخرى.
قبض على السيف بكلتا يديه، مستخدمًا إياه للدفاع والهجوم معًا – وهذه هي الطريقة الحقيقية لاستخدام سيفٍ مزدوج الاستخدام كـ"وينترر".
كانت ذراعاه قد قويت كثيرًا، لم يكن بقوة يفجنين قبل موته، لكنّ هجمات رجلٍ بالغٍ عادي بات من السهل صدّها.
وعندما أبعد خصمه الأول قليلًا، طار نصل "وينترر" نحو عنق الرجل،لم يخترقه، لكنه شقّ ذقنه، وتفجّر الدم منه.
"إذًا، الموت هو ما تريده؟!"
اندفع سيفان نحوه من الجانبين، تفادَى الأول، وركله بقدمٍ مدربة، ثم استدار ليصد الثاني. سمح لقوة الضربة أن تنزلق قليلًا، قبل أن يرد بدفعٍ مضاد، ثم قطع خصمه بخطوة أسرع من حركته.
"آهغ!"
هذه المرة، كانت الضربة عميقة.
كان خصمه يرتدي درعًا جلديًا مرصّعًا، لكن نصل وينترر شقّ الصفائح المعدنية وترك جرحًا غائرًا في بطنه.
أما الرجل الذي حاول دهسه بحصانه، فقد اضطر إلى التوقف، لأن رفاقه باتوا متشابكين مع بوريس في القتال.
تعمّد بوريس التقدّم نحو تجمّع الرجال. أما الآخرون الذين كانوا على ظهور خيولهم، فلم يكن أمامهم سوى النزول.
ولم يكونوا كما توقع من حيث المهارة، فقد بدوا أقل براعة مما أظهروا.
"اقتلـوه!"
"كيف تجرأت على الكذب علينا! ستُدفن هنا، أيها الصبي!"
كان على بوريس أن يمتطي حصانًا في أول فرصة تسنح له، أي حصان منهم سيكون كافيًا، كانت الخيول المدربة جيدًا لا تزال قريبة، تدور في موقع غير بعيد.
لم يكن يملك فرصة في قتالٍ طويل.
"هاه!"
تحرّك "وينترِر بخفة مذهلة في يد بوريس، لم تكن حركاته مثالية، لكنه بات يعرف كيف يحمي نفسه به، كما كان يفعل شقيقه.
لم يعد السيف عبئًا عليه، بل أصبح سلاحًا حقيقيًا — رفيقًا يقاتل من أجله، وكأنه ظلّه نفسه.