54 - "كيف تُذلّ نفسك وتتحمّل الإهانة"(١).

تلألأ القمر وكأنّه يشعّ بضوء أزرق بارد، كانت الساعة الرابعة صباحًا، والسماء قد انخفضت كستارة ثقيلة ملبّدة.

أسرع بوريس في خطواته، انعطف الرجال عند الزاوية ودخلوا منزلًا منخفض السقف كان هناك رجل آخر يحرس الباب، لكنه اكتفى بالمراقبة وأفسح لهم المجال للدخول من دون أن ينطق بكلمة.

تردّد بوريس.

الرجال كانوا بالغين ويبدو أنهم يعرفون بعضهم، ولذا قد لا يكذبون على بعضهم البعض، لكن لا ضمان أنهم سيتصرفون معه بنفس النزاهة.

لقد شهد مرارًا كيف يتحوّل أولئك الذين يبدون طيبين مع من هم في صفّهم إلى مفترسين شرسين بمجرد أن تقع فريسة ضعيفة بين أيديهم.

والأسوأ من ذلك، أنهم قد يهاجمونه إذا اكتشفوا أنه يملك ما يكفي من المال لدفع أربعمئة إلسو، وقد يتساءلون إن كان بحوزته أكثر.

لم يكن بوريس يحمل المال فحسب، بل كان معه حصانه، و"وينترر" أيضًا، كان عليه أن يكون حذرًا.

وبينما كان متردّدًا في الزاوية المظلمة، تثاءب الرجل الذي كان يحرس الباب، ثم دخل إلى الداخل، لم يتبقّ في الخارج سوى مصباح يتدلّى من طرف السقف.

وبعد لحظة، أدرك بوريس أن هناك شيئًا آخر أيضًا تحت المصباح، في البداية، ظنّه كومة من التراب، أو ربما كيسًا، لكن حين خيّم الصمت على المكان، بدأ ذاك الشيء يتحرك ببطء.

اقترب من عمود خشبي وفرك جسده به، ثم تمدد، وارتجفت كتفاه بينما يتمطّى، ارتفع ذيله ثم عاد إلى الأسفل.

لقد كانت قطًّة

راقب بوريس القطة بفضول، إذ كانت القطط نادرة في ترافاتشيس.

كان مخططة باللونين الرمادي والأسود، و لمعت عيناها بلون أزرق. التفتت على نفسها وبدأت بتنظيف فرائها لوقت طويل، متجاهلة بوريس تمامًا.

ثم خرجت إلى ضوء المصباح وجلست بثقة، كأنها تتحدى كل من تسوّل له نفسه التحديق فيها.

وتحت الضوء، اتّضح أنه رغم حجمها غير المألوف، كانت القطة مغطاة بالجراح القديمة، لم يكن لها سوى نصف ذيل، وكانت إحدى عينيها مصابة، وآثار الخدوش تغطي جسدها ، حتى أذناها كانتا مطويتين بزاوية غريبة.

ومع ذلك، لم تكن تبدو متألمة، بل إن مظهرها كان قويًا لدرجة أن أي شخص يراها وهي تخرج من زاوية مظلمة قد يشعر بالخوف منها. كانت مرتاحة كما لو أنها اعتادت العراك والنجاة.

ذكّرت بوريس بمحاربٍ مخضرم—مرتزق، أو ربما سيّاف متجول.

فتحت القطة فمها، لكنها لم تُصدر أي صوت.

مشت خطوات قليلة إلى الأمام، ثم لحست بعض الماء من بركة راكدة وبعدها، نظرت من حولها.

وفجأة، شعر بوريس وكأنها تدعوه ليتبعها.

وبينما أحسّ لوهلة وكأنه طفل صغير من جديد، أشار إلى نفسه وهمس: "أنا؟"

فتحت القطة فمها الممتلئ بأسنان حادّة، وكأنها تجيب على سؤاله، ثم أغلقته من جديد من دون أي صوت، وبعدها بدأت بالمشي مبتعدة.

دون أن يشعر، خطا بوريس بضع خطوات في اتجاهها، وبعد لحظات قصيرة، تخلّى عن تردّده تمامًا، وبدأ يتبعها.

لم تلتفت القطة ولو لمرة واحدة، بل مضت تمشي بخطى واثقة وذيلها القصير مرفوع عاليًا.

قادته عبر زقاق مليء بالحاويات، فوق جدار متصدّع، إلى طريق ضيّق موحل، ومنه إلى شارع بدأ فيه الناس يفتحون نوافذهم تواً مع بزوغ الفجر.

وسرعان ما خرجا من أطراف القرية متجهين نحو طريق الجبل القريب من بوابة روزنبورغ، القطة لم تتوقف لتشم شيئًا، ولم تشتّت انتباهها أي مؤثرات جانبية.

بحلول الوقت الذي بدأ فيه بوريس يتساءل عن المكان الذي وصله، أصدرت القطة صوتًا للمرة الأولى.

كان الصوت غريبًا وخشنًا، أشبه بشخص أجشّ الصوت يقلّد مواء قطة.

"تعالي هنا."

ارتجف بوريس ونظر نحو الشخص الذي بدا وكأنه ظهر من العدم، كان هناك شخص يرتدي عباءة سوداء تغطي جسده بالكامل، ووشاحًا يخفي ملامح وجهه، واقفًا على طريق الجبل.

ذهبت القطة إليه والتفتت عند قدميه.

تردّد بوريس، بدأ يشكك في السبب الذي دفعه للمجيء أصلًا.

"ما الذي تريده؟" قال الغريب.

قرّر بوريس أن يكون صريحًا: "كنت فقط أتبع القطة. هل هي لك؟ أعتذر إن كانت كذلك."

"لا، ليست قطتي. ليست من النوع الذي ينتمي لأحد." قال الرجل بصراحة غير متوقعة.

ثم سأله: "لا بد أنك متوجه إلى بوابة روزنبورغ، هل أنت ذاهب إلى ليمي؟ أم قادم منها؟"

لم يكن هناك ما يدعو لإخفاء الأمر، "كنت ذاهبًا إلى ليمي، لكن لا أملك تصريحًا."

"لا تملك تصريحًا؟ يمكنك ببساطة التظاهر بأنك ضمن مجموعة أحدهم ممن يحملون تصريحًا."

لم يخطر هذا الاحتمال في بال بوريس، كان يظن أن العشرات من العمال الذين يصطحبهم التجّار يحملون تصاريح خاصة بهم.

أومأ برأسه، وكان على وشك أن يشكر الرجل على المعلومة، لكنه لم يُتح له الوقت.

"ذلك أكثر أمانًا بكثير من أن تدفع لأشخاص لا تعرفهم كي يقودوك عبر طريق التهريب."

كان الأمر وكأن الرجل قرأ أفكاره، رفع بوريس نظره نحوه بارتباك، لكنه لم يكن قادرًا على رؤية ما خلف الوشاح الذي يغطي وجه الرجل. الشيء الوحيد الذي استطاع ملاحظته هو أن الرجل طويل القامة جدًا.

"على كل حال، شكرًا لك على مشاركتي هذه المعلومة، سأتابع طريقي الآن"، قال بوريس وهو يهمّ بالابتعاد.

"كنت فقط أخمّن، بما أنك اتبعت هذه القطة، فهي غالبًا ما تتبع المهرّبين."

لم يكن بوريس قد طرح عليه أي سؤال، لكن الرجل واصل الحديث: "ما رأيك لو أعبر بك الحدود بنفسي؟"

ساور بوريس الشك فورًا، فقال ببرود: "أنت غريب تمامًا بالنسبة لي، مثل البقية، من يدري؟ ربما تكون أكثر خطرًا من المهربين أنفسهم."

بدأ الرجل يضحك ضحكة مكتومة، "هيه هيه هيه! أيها الفتى الصغير، تحاول أن تكون ذكيًا! لكن لا ينبغي لك أن تُغضب غريبًا بهذه الطريقة، ماذا ستفعل لو استللتُ سيفي غضبًا من إهانتك؟"

كان الرجل يقول أشياء تزداد غرابة، لكن بوريس لم يُسقط حذره.

"سأستل سيفي أنا أيضًا، لكنني لا أرغب في قتال، سأتابع طريقي. أعتذر إن كنت قد أزعجتك."

"يا للأسف، لا يجوز لك أن تتركني هكذا، فلتنطلق إذًا."

لم يستطع بوريس فهم المقصود من كلماته الأخيرة، حتى بعدما بدأ في النزول من الجبل.

◈ ◈ ◈

كان الحصول على مكان كعامل أصعب مما توقع، لم يكن بوريس شخصًا اجتماعيًا، ولم يكن من السهل عليه أن يقترب من أحد ويعرض عليه مئتي إلسو مقابل العبور إلى الجهة الأخرى من الحدود.

لم يكن بارعًا في التملق أو جعل الآخرين يرغبون في الاستماع إليه.

كان الوقت يقترب من العاشرة، حين التقى بوريس الرجل مرة أخرى. أما القطة المحاربة، فقد اختفت تمامًا، ولم يُرَ لها أثر.

"هيه! هل وجدتَ مجموعة؟"

لو لم يتكلم أولًا، لما كان بوريس ليعرفه أصلًا، لا يزال يرتدي العصابة على وجهه، رغم اقتراب الصيف وطلوع الشمس.

شعر بوريس بالحيرة، وقبل أن يدرك ذلك، رد بسلاسة: "لا. كنتُ أتساءل إن كان عليّ الانضمام إليك بدلًا من ذلك."

قال الآخر: "همف، شروطي ليست سهلة، لكن إن كنتَ مستعدًا للإنصات، فربما أُخبرك بها."

كان في نبرته طابع غريب من المرح ذكّر بوريس بشخص ما، لكنه لم يجد لذلك أي أساس واقعي، فطرد الفكرة من رأسه.

قال بوريس: "قل لي، إن كنت تريد المال، أستطيع أن أدفع لك القليل."

"لا أحتاج المال، لدي شخصية ملتوية، وأستمتع بتعذيب الآخرين. يمكنك أن تتظاهر بأنك تلميذي أثناء عبورنا للحدود، سيتوجب عليك تحمّل شتمي وضربي، ومهما حدث، لا يمكنك أن تعارض، أو تشتكي، أو تتفادى قبضتي، سيستمر هذا حتى نعبر الحدود و تفترق طرقنا، هل تفهمني؟"

كانت الشروط غريبة إلى حد لا يُصدق، لكن بوريس شعر أن الرجل لم يكن يحاول خداعه.

فمن يحاول الخداع يقدّم عروضًا جذابة في البداية، بينما هذا الرجل فعل العكس تمامًا، ثم، ما الذي قد يكسبه من ذلك أصلًا؟

قال بوريس: "حسنًا، سأفعل."

تمت الصفقة..

◈ ◈ ◈

"تعال إلى هنا! لا تتسكع مثل الشحاذ! أسرع سحقاً لك! لماذا أنت بطيء هكذا؟ ألم تحصل على جرعتك اليومية من عصيدة الشوارع، أيها الجبان؟"

"أيها الأحمق القذر! قلتُ لك أن تبقى في مكانك، لا أن تتجول! الدب يمتلك دماغًا أكبر منك! وما هذا؟ لماذا تبدو هكذا، ها؟"

"قلتُ لك أن تُزرر ردائك كما يجب! أنت كبير بما يكفي لتعرف كيف تلبس كبشر! لهذا السبب يضربك الشيخ كل يوم، أتعلم ذلك؟ هكذا أنت دائمًا، مهما فعلت! ودائمًا ما تبكي بعد ذلك، مثل الأبله..."

"ألم تصبح كبيرًا بما يكفي لتكفّ عن تبليل فراشك؟ إلى متى سأضطر لتحمل نظرات الاشمئزاز في النُزل كل صباح؟ أنت أسوأ من طفل في الثالثة من عمره! لا تحدق بي هكذا! قلتُ لك أن تنظر إلى الأرض!"

"متى ستتعلم القراءة؟ ألا تزال لا تعرف ما المكتوب هنا؟ أنا أقرأ لك الحروف بصوتٍ عالٍ في كل مرة، أيها الأبله! (بـوّابـة. روزنـبـورغ.) مكتوبٌ هنا! بوابة روزنبورغ!"

اتضح أن شروط الرجل كانت أصعب بكثير مما تخيل بوريس، لكنه لم يُدرك ذلك إلا بعد أن وافق.

فحتى قبل أن يصلا إلى البوابة، كان قد سمع من الشتائم أكثر مما سمع في حياته كلها، وتلقى عشرات اللكمات، لم يكن يتصور أن هناك هذا الكمّ من التنويع في أساليب الإهانة.

سماعها فقط شيء، لكن أن تكون هدفًا مباشرًا لها شيء آخر تمامًا، أكثر من مرة، شعر بالغضب الشديد لدرجة أنه كان على وشك التراجع، سواء أكان بينهما اتفاق أم لا، لكنه كتم غضبه، كانت يداه ترتجفان من الغيظ، لكنه ضمهما إلى جانبيه.

أدرك حينها أن كبرياءه كان أقوى مما ظن،بعد كل ما مرّ به، ظن أن بعض الشتائم لن تؤثر فيه، لكنه كان مخطئًا تمامًا.

صحيح أنه يمكنه تحمّل القليل منها، لكن الكلمات الجارحة التي كان يقولها الرجل وهو ينهال عليه بتأنيبه كانت تفوق الاحتمال.

وبحلول الوقت الذي وصلا فيه إلى البوابة، بدأ الناس من حولهم يتبادلون النظرات ويلتفتون نحو بوريس، يتهامسون، كان يبدو كصبي عادي، لكنه لا يعرف القراءة، مهما كُررت عليه الدروس، ولا يزال يبلل الفراش! احمرّ وجهه حتى عنقه، وتمنى لو كان لديه ما يغطي به رأسه.

كان الرجل الغامض قد أعطاه رداءً داكنًا، لكنه للأسف لم يكن مزودًا بقلنسوة، لذا، اضطر بوريس لأن يُبقي وجهه مكشوفًا، ليراه الناس ويشيروا إليه.

"تعال إلى هنا، أيها الأحمق! قف هناك!"

أخرج الرجل عند البوابة تصريحًا غريب الشكل، كان يحمل علامة حاجٍ من جماعة "برابها" الذين يجوبون القارة ويقدّمون خدماتهم دون مقابل.

كان التصريح عبارة عن قطعة مسطحة من الفضة، منقوش عليها تنين واحد، بلا أي تفصيل كتابي أو تاريخ انتهاء صلاحية، وهي أمور ضرورية في التصاريح الحقيقية.

لكن الحراس عند البوابة أومأوا فقط برؤوسهم ونظروا إلى بوريس.

قال الرجل: "لا يزال يتدرب، لا يحمل علامة بعد، سيحصل على واحدة فقط بعد أن يُتم دورة كاملة."

سمح لهم الحراس بالمرور بعد ذلك.

كانت العملية بسيطة لدرجة أذهلت بوريس، لكن معاناته لم تنتهِ بعد. فالرجل لم يصمت لحظة واحدة بينما اقترب وقت الوداع، قرص خد بوريس، ونكزه على كتفه، وحتى ركله، مطلقًا آخر ما يمكنه من الإهانات.

تحمّل بوريس كل ذلك في صمت، لقد اجتاز البوابة، وكان يمكنه الآن أن يضرب الرجل أو يفرّ هاربًا، لكنه لم يفعل.

فالوعد وعد، ولا شيء يُمنح في هذه الحياة مجانًا، لقد أوفى الرجل بجانبه من الاتفاق، وساعده على المرور بأمان، وبوريس كان مستعدًا لتحمّل أي إهانة مقابل ذلك.

سرعان ما بلغ الابتلاء نهايته، قال الرجل: "الآن إلى الجزء الأخير، اركع وحيّني بوداع، ثم ينتهي كل شيء."

2025/06/10 · 14 مشاهدة · 1666 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025