أمال دانسن رأسه قليلًا وقال: "ما الذي تعنيه؟"

"بالضبط هذا ما أعنيه"

قال إيسيلدر، وقد بدأ صوته يزداد وضوحًا واستقرارًا، "في الجزر كثير من الفتية المستعدين لخدمتي في أدق التفاصيل، كأنهم حبات شعير في كومة، كما كان هناك في الماضي كثيرون يتوسلون الفرصة ليقفوا أمامه ولو للحظة، وأنا حقًا أقدّر صبرهم، لا أنكر ذلك، لكن لماذا؟ لماذا يفرّطون بحياتهم من أجل شيء كهذا؟ ألا تهمهم متعة الحياة؟ أليس من حقهم أن يعيشوا ببعض البهجة؟"

ثم علت نبرته، وبدت عليه نفحة غضب وهو يقول: "لماذا يوجد كل هؤلاء الفتية المستعدين لتكريس أعمارهم وهم يلهثون خلف قطعة من الحديد؟"

"يتعلّمون على يد رجل لا يعلّمهم بحماسة، ولا يوجههم بإخلاص؟ لا أفهم، إنهم مفرطو الطاعة، يتخلّون عن أيام حياتهم، يومًا بعد يوم، من أجل أهداف لا يستحق كثير منها التضحية، وليسوا قلة، بل هم الغالبية الساحقة، وأنا أكره الحالة التي يصنعها هذا النوع من الناس."

ومع كل ما قاله، لم يتجرأ إيسيلدر على التصريح بكراهيته للجزر، لقد غادرها، وخاض طريقًا شاقًا بعيدًا عنها، لكنه لم ينجُ كليًا من قيودها المتجذّرة في أعماقه.

"لكن ذلك الفتى مختلف"

تابع إيسيلدر، "إنه يراني نِدًّا، لا يمنح ثقته بسهولة، له حياته الخاصة، وهو من يختار من يثق به، ومن يعينه، ومن يقبله، بما يرضي ضميره، لا يتودد إليّ ليأخذ شيئًا، ولا يخدعني ليحصل على شيء، هو لا يطلب مني شيئًا، وهذا ما يجعله مختلفًا فعلًا."

كان الإحباط مرسومًا على وجهه حين تابع قائلًا: "هل سألتني إن كنت أرغب في تعليمه؟ أنت تفهم الأمور على نحو خاطئ، نحن مجرد شخصين فحسب، نحترم بعضنا ونتبادل الحديث عن حياتنا الخاصة، لا، بل إنني أحسده، ذلك الفتى يملك حرية هائلة، لا يقيده شيء، ولو وجد كهفًا بعيدًا ليعتزل فيه الناس ويعيش بسلام، لرضي بذلك"

نظر إليه دانسن بحدة بينما هز إيسيلدر رأسه، ثم قال: "ذلك الصبي يسعى لنيل حريته، يقاتل ليصير شخصًا لا يَدِينُ لأحدٍ بفضلٍ ولا يحمل في قلبه حقدًا، وسيصل إلى ما يريد يومًا، وإن لم يكن هذا اليوم، فلماذا لا أستطيع أن أفعل ذلك أنا أيضًا؟ أو لماذا لا يستطيع أبناء الجزر فعل الشيء ذاته؟"

رد دانسن بوجه معقود الجبين وصوت مشحون بالتوتر قائلًا: "هل أنت جاد يا أخي؟ أنت تعرف جيدًا لماذا لا يستطيعون، لأن الدَّيْنَ الذي نحمله بسبب نجاتنا حين هلك الآخرون ليس شيئًا يمكن سداده بمجرد التضحية بسعادة شخص أو اثنين، إنه بئر بلا قرار، لا نعرف مدى عمقه."

قاطعه إيسيلدر قائلًا: "هل تزعم أنهم يفعلون ذلك بدافع مراعاة دَيْنِنَا؟ لا تخدع نفسك، الأمر ليس كذلك، ما يريدونه هو المجد والجاه، إنهم يطمعون في مكاني من غير أن يدركوا ما يتطلبه من مسؤوليات."

ولم يُنكر دانسن ذلك، فقد عاش في الجزر ولم يكن غافلًا عن واقعها.

أكمل إيسيلدر بحدة قائلًا: "هم فقط يتصنعون أمامي، يريدون أن يسلبوني كل شيء حتى نخاع عظامي، لا يهمهم إن قضوا سنوات بل عقودًا في خدمتي ليأخذوا ما يشتهون، لا يبالون أصلًا، الكل يعلم أن هذه السنوات تمضي كأنها لم تكن!"

صرخ دانسن قائلًا: "يا أخي!"

أسند إيسيلدر مرفقه على الطاولة ودفع كأس شرابه قليلًا إلى الأمام، وكان سطح الطاولة يعبق برائحة سنوات من الشراب الرخيص، وكانت سحب الشراب تدور في كأسه كما في رأسه.

بينما المصباح بجانب الدرج يلقي ظلًا متراقصًا يشبه دمية تتحرك على وقع لهب مضطرب، وكأن نسمة باردة تسللت من مكان ما.

قال بصوت خافت: "لكن.."

وكان كلاهما يعلم تمامًا ما سيقوله دانسن بعد ذلك، فاستأنف دانسن "لا يمكنك أن تصطحب معك غريبًا"

فبعكس إيسيلدر الذي طاف خارج الجزر أعوامًا، لم يغادر دانسن إلا في المهمات، وكان متشددًا في اتباع القواعد، وكل ما قاله لم يكن سوى تكرار تقريبًا لما قد يقوله الشيوخ، ومع أن أفكاره تختلف كثيرًا عن أفكار إيسيلدر، إلا أنه شعر بالأسى عليه، وغضبه لم يكن إلا لعلمه به منذ سنين طويلة.

أضاف قائلًا: "لقد بدا فتى طيبًا جدًا، لكن عينيه كانتا معتمتين، كم عمره؟"

رد إيسيلدر وفي ملامحه شيء من اعتزاز الأب بابنه قائلًا: "سيبلغ الرابعة عشرة في يوليو"

"أهو كذلك؟ إذن لا يزال في الثالثة عشرة؟ لم أكن لأظن، ظننت أنه في الخامسة عشرة على الأقل، هيئته قوية، ولا بد أن يحمل جسدًا كهذا ليحمل سيفًا بهذا الحجم"

قال إيسيلدر: "ولديه المهارة أيضًا، لقد ارتكب أول جريمة قتل له بالفعل"

اتسعت عينا دانسن قليلًا قبل أن يهمس قائلًا: "هذا ليس بالأمر الذي يدعو للفخر"

قال إيسيلدر بسخرية: "تقصد أن الدم مهما جف يبقى أثره ظاهرًا؟ ربما، لكنه لن يقابل من سيقدر على رؤيته كما هو فعلًا؟"

رد دانسن بجدية قائلًا: "ثمة وسيلة واحدة"

رفع إيسيلدر رأسه فجأة وحدق فيه، فقال دانسن بصوت مهيب: "اجعله تلميذًا مرتحلاً"¹

صرخ إيسيلدر واقفًا: "لا، مستحيل!"

ثم جلس وقال بصوت خفيض ولكنه حازم: "أتريدني أن أدفع بذلك الفتى في طريق المعاناة الذي لم أستطع أنا نفسي الهرب منه؟ لا، لا يزال في الثالثة عشرة، بالكاد يستطيع أن يحكم بنفسه، لن أسمح له أن يتخذ قرارًا لا رجعة فيه، أيفهم حتى طبيعة هذا الطريق لو شرحتها له؟ ماذا لو كرهني حين يكبر؟ هذا القرار عظيم، ولن أدفعه إليه من أجل طمعي"

لكن دانسن هز رأسه نافيًا وقال: "بل أنا من يعيد عليك هذه الكلمات، من حسن الحظ أنه لا يزال في الثالثة عشرة، لو كان في الخامسة عشرة لما أمكن أخذه، خذه معك إن لم ترد أن تودّعه، يمكنك أن تعيش معه وتعلمه السيف وطريقتنا، ثم ما السيئ في الطريق الذي تسلكه؟ لمجرد أنك تكرهه لا يعني أنه سيكرهه هو أيضًا، أليس كذلك؟"

مد دانسن يده وأمسك يد أخيه قائلًا: "أنا مستعد أن أشهد أمام الشيوخ، وأن أكون ضامنًا له، بل سأتبناه إن لزم الأمر، فقط لنعد إلى الجزر، كلنا، معًا"

كان عرض دانسن مغريًا لدرجة يصعب فيها الرفض، وقد تطلب من إيسيلدر كل ما فيه من عزيمة ليرد بالرفض وهو يهز رأسه.

قال إيسيلدر: "لا، لا أستطيع فعل ذلك، لن أقيّد شخصًا آخر بالسلاسل التي تكبل قدميّ لمجرد أنني أعجز عن التخلص منها، حتى العبيد لن يشاركوا قيودهم مع أصدقائهم، أنا لم يكن لي خيار حين وُلدت في الجزر، لكنّه ليس مقيدًا بالخطيئة الأصلية، صحيح؟ فلماذا أحمّله دَيْن خطايانا؟"

"لأني أريده لنفسي"

لم تأتِ الإجابة من دانسن، بل من الدرج، حيث نهض ظلّ طويل وبدأ يقترب ببطء من الطاولة.

قال إيسيلدر: "كيف..."

قاطعه بوريس بانحناءة خفيفة نحو دانسن قائلًا: "أعتذر على التنصت، شكرًا جزيلًا لك على استعدادك لفعل كل ذلك من أجلي، سأكون في رعايتك"

كان بوريس جالسًا في عتمة الدرج، مستندًا بذقنه إلى كفيه وهو يُنصت إلى حديث إيسيلدر ودانسن، لقد سمع كل شيء، القصص التي رواها دانسن ولم يفهمها، ردود إيسيلدر الحادّة، والقيود الغامضة، والخيار الذي لم يشأ إيسيلدر أن يشركه فيه.

ثم فكّر في أشياء كثيرة، في المصباح المتمايل، وفي الظل الطويل تحت الدرج، وفي نفسه وهو على حافته، وفي كم بدا صغيرًا مقارنة به، وفي الهجر، والفراق، والخسارات، وفي أشياء لن تعود كما كانت.

فكّر في الأشهر الستة التي قضاها مع إيسيلدر.

لقد بدأت الكوابيس التي لازمته منذ أن فقد يفجنين، لا، منذ أن عاش معه، تتلاشى أخيرًا، لقد عاش الصيف والخريف والشتاء الأخير تحت حماية شخص واحد، وصار صديقًا له، ولا يزال يحب يفجنين كثيرًا بالطبع.

لكن لم يبقَ من يثق به سوى رجلٍ واحد، لم يعد بإمكانه تخيّل أن يبني ثقة كهذه من جديد لو افترقا الآن، فلن يجد أبدًا شخصًا يثق به كما يثق به.

ربما سيتمكن من الاستمرار حتى من دون أن يثق بأحد، لكنه لم يستطع أن يُنكر البذرة التي نبتت في أعماق قلبه، رغبته الشديدة في أن يربطه شيء صادق بشخص واحد على الأقل.

لقد كبر، وقوي، ونجا، خلافًا لتوقعات الجميع، لكنه أدرك أن ما تبقى منه كان هشيمًا، لقد كان أخرقَ لدرجة أنه لم يستطع كسب ودّ الصبي الذي كان بإمكانه أن يصبح صديقه.

وكان ضعيفًا لدرجة أنه لم يفعل شيئًا سوى البكاء ويداه المغطاة بالدم ترتجفان ، و قد غار بشدة حين التقى بصبي يتصرف بعفوية وحرية كطفل في عمره، لم يكن من ذلك النوع من الناس الذي يستطيع أن يعيش وحده، ببساطة لم يكن كذلك.

أراد أن يبقى، أن يصدق إلى الأبد أنه يستطيع أن يكبر كطفل عادي إن ظل بجوار إيسيلدر.

لقد فقد عائلته، وخانه من وثق به، وارتكب القتل، لكن إيسيلدر قبله كما هو، حتى بعدما خدعه مرة، لقد تركت طفولته فيه جروحًا ودماءً، فهل يمكنه أن يبدأها من جديد برفقة إيسيلدر؟

قال إيسيلدر: "بوريس، أنت... أنت لا تفكر جيدًا، لا أعلم كم سمعت من حديثنا، لكن ذلك المكان ليس مناسبًا للعيش، ولا يمكن مغادرته بسهولة، لا يمكنك الخروج منه إلا بإذن بعد دخولك، وستتحمل العديد من الواجبات، لا أريدك أن تقيد نفسك، في النهاية، أنت... يمكنك أن تكون حرًا إن أردت، لا تذهب إليه بإرادتك، ستندم على ذلك بالتأكيد"

قال دانسن فجأة: "ما يقوله أخي صحيح"

لم يكن دانسن يهتم كثيرًا بمصير بوريس، طالما نجح في إقناع إيسيلدر بالعودة إلى الجزر، لكنه تأثر بكلمات أخيه حين تحدّث بصدقٍ نابعٍ من قلبه.

استدار بوريس نحو إيسيلدر، وكان في عينيه سكون غريب.

قال بوريس: "أنا بحاجة إلى القوة التي تحميني إن أردت أن أكون حرًا، أريد أن أذهب معك لأنني لا أملك القوة الكافية لأعيش وحدي... فكر بالأمر هكذا، هذا خياري، وإن ندمت عليه لاحقًا، فأنا من سيتحمل ذلك"

ثم تمتم بهدوء حين لم يرد عليه إيسيلدر: "أم أنك لا تريدني أن أبقى معك؟.."

نظر إيسيلدر إلى الأرض حيث انسكب الشراب، كان السائل شبه الجاف يبدو عميقًا وواسعًا ومائجًا، تمامًا كالبحر.

بعد عشرة أيام، أبحر كل من إيسيلدر وبوريس ودانسن على متن سفينة متجهة لتطوف حول جزيرة إلبه.

كانوا يواجهون برزخ سيزوليف الذي يقسم خليج تيفو إلى نصفين من الشرق إلى الغرب، وكانوا يعبرون الممر الضيق بين رأس سيزوليف والمنحدرات الجنوبية لجزيرة إلبه، ويتطلب عبور هذا المضيق ملاحًا ماهرًا، فجميع قادة السفن التي تطوف حول الجزيرة كانوا أساتذة في فن الملاحة.

اجتازت سفينة "ألتان سيغمار"، التي أبحرت لأكثر من أربعة عشر عامًا، رأس سيزوليف دون مشاكل عند الرابعة صباحًا، أي أنها عبرت من الخليج الغربي لتيفو إلى شرقه.

وكان بوريس واقفًا عند المؤخرة يراقب اليابسة وهي تبتعد عنه، شعر كأن القارة نفسها تبتعد عنه، وكأنه أصبح حصاة تُرمى بعيدًا عن الأرض التي عاش فيها طوال حياته.

لا يزال عليهم عبور الخليج الشرقي لتيفو، ثم اجتياز أرخبيل الكريستال قبل الوصول إلى المياه المفتوحة في بحر الشمال، بدأت الجزر المنتثرة في البحر تبدو كأنها مجرد حصى لا طاقة لها على مقاومة قدرها حين اختفت رؤوس اليابسة ومنحدراتها.

فكّر بوريس، 'الجزر أبعد من ذلك، تُرى، ما نوع ذلك المكان؟'

ـ⊹¹ : "Pilgrim in Training"

تعني حرفياً "حاج متدرب" لكنني غيرت المعنى لما شعرت به من مخالفة لشعائر الإسلام.

2025/06/25 · 6 مشاهدة · 1645 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025