تحركت السفينة تحت تموجات المحيط الأزرق العميق، وقد خُيّل إلى بوريس بأن أي شخص سيتجمد ككتلةً من الجليد لو سقط فيه.
لم يكن ليشبه أبدًا تلك المرة التي سقط فيها في نهر قرية هيفبرو، فالمحيط لا يرحم، ومع ذلك، كان عليه أن يعبره على متن قارب خشبي لا أكثر.
هل سيجد الراحة حقًا بعد عبور المحيط؟
هل كان هذا القرار هو الصواب فعلًا؟
قال دانسن بينما يقترب: "الجو بارد، ادخل إلى الداخل".
لم يكن بوريس يعرف الرجل الأشيب منذ زمن طويل، لكنه شعر بوجود شيء مشترك بين دانسن وإيسيلدر، ربما لأن كليهما من الجزر.
فحتى مظهرهما كان متشابهًا، إذ كانا متينَي البنية كأشجار صلبة تشق طريقها في أرض متجمدة، هل كانا فعلاً من بني البشر كبقية أهل القارة؟
"أنا على ما يُرام".
لم يُلح دانسن، بل استدار ونظر إلى البحر، ثم قال: "سمعت أنك من الجنوب. تفاجأت حين علمت أنك لم تُصب بالزكام طيلة شتائك الأول في ليمي."
"موطني ليس دافئًا كثيرًا".
فرغم أن ترافاشيس تقع في الجنوب، إلا أن صيفها كان باردًا وشتاؤها قارصًا، صحيح أن بردها لا يُقارن بشتاء ليمي، إلا أن الدفء لم يكن سِمتها.
تابع دانسن: "أنت لا تعرف حتى كيف هو ذلك المكان هناك… هل وافقت على الذهاب لأنك تثق بأخي فَحسب؟"
تأمل بوريس ملامح وجه دانسن، لم يكن متأكدًا إن كانت الإيماءة برأسه هي الرد المناسب فعلًا، صحيح أنه وافق فقط لأن إيسيلدر ارتحل معه، لكنه وعد نفسه منذ زمن ألا يتّكل عليه في كل شيء.
في النهاية، إيسيلدر لم يكن إلا واحدًا من سكان الجزر، وكان بوريس هو من قرر أن يتبعه في نهاية المطاف، لم يكن ينوي أن يُلقي بمسؤولية اختياره على أحدٍ سواه.
"أنا فقط… أريد أن أبذل ما أستطيع".
منذ صعودهم إلى السفينة، لم ينطق إيسيلدر بكلمة.
وعادةً، كان من النوع الذي يطلق دعابة حالما يعّم الصمت، لذلك بدا تصرفه مختلفًا هذه المرة، وكأن ثِقلًا جاثمًا على صدره.
بل بدا وكأنه يتعمد تجنّب بوريس بالتحديد، ولهذا لم يتظاهر بوريس بدوره بأنه في مزاج جيد.
قال دانسن: "كما ترى، لطالما أحببت أخي، لكني دائمًا ما ظننته غريبًا بعض الشيء، لا أعتقد أنني سأفهمه تمامًا في يومٍ ما، كان لديه سبب وجيه لمغادرة الجزر والتجوال في القارة، لكنني لم أستوعبه قط. فأن يرحل أحد أبناء الجزر من تلقاء نفسه… لم يكن يبدو أمرًا صائبًا. لكن بعد لقائي بك…"
كانت وجهتهم، الجزر المعنّية ، بعيدة جدًا.
وراء المياه التي يصطاد فيها الصيادون، وبعد الجزر القليلة التي تُعرف بحافة بحر الشمال، ثم بعدها عشرات الأيام من السفر المتواصل.
الجزر كانت بمثابة الحد الذي يفصل العالم عن نهايته.
وكان من المحظورات الكشف عن وجود الجزر، إذ كان أهلها حريصين دومًا على إخفاء هويتهم الحقيقية، وعلى كتمان الطريق المؤدي إليها.
فلم يكن ثمة طريق واحد يصل إليها، ولا يعرفه إلا أهلها، وسيقع على بوريس، من الآن فصاعدًا، واجب حفظ هذا السر.
قال دانسن: "أنت غريب أيضًا، تمامًا مثله".
طارت طيور الشتاء فوق رأسيهما، وتطاير شعر بوريس الأسود مع الرياح.
استأنف دانسن: "لا أجد كلمة تصفك سوى غريب، لا أعرف كيف أشرح، لكنك تشبهه فعلًا، سمعت أنك عشت الكثير رغم صِغَر سنك، ولم تكن حياة أخي سهلة بدورها، لا أقول إن كل من عانى في حياته يصبح شبيهًا بالآخر، لكن…"
ثم نظر دانسن إلى بوريس وقال: "نادراً ما يهتم بشخص إلى هذا الحد، ستدرك ذلك حين نصل إلى الجزر…"
تساءل بوريس في نفسه إن كان بياض شعر دانسن نتيجة ما قاساه من مشقة وألم، فقد كان بياض شعره أكثر وضوحًا بفضل بشرته السمراء و شفتيه المائلتين إلى اللون البنفسجي، وكأن ذلك يروي حكاية المكان الذي أتى منه.
قال دانسن: "هو ليس من النوع الذي يفتح قلبه للناس بسهولة، ومن هذه الناحية، قد تكون أنت داوءً له بالفعل."
كان الدواء شيئًا يُحتاج إليه حين يكون المرء عليلًا.
بدت سماء الشمال بالغة البُعد والبرودة.
ترجّل الثلاثي من السفينة بعد عبورهم إلى شرق جزيرة إلبه، ثم اشتروا قاربًا شراعيًا صغيرًا.
كان صغيرًا للغاية، لا سيّما أنهم ينوون الإبحار في عرض البحر لأسابيع طويلة، ومع ذلك، كان هذا هو القارب الذي سيحملهم حتى الجزر.
كان بيع القوارب الشراعية رائجًا في تلك الأنحاء، لذلك لم يهتم أحد بسؤالهم عن سبب شرائهم لواحد، وكانت الورش تواصل صنع القوارب الجاهزة بوتيرة لا تنقطع.
استغرق الأمر لحظة من بوريس حتى فهم سبب كثرة القوارب المعروضة هنا.
اشترى إيسيلدر ودانسن أيضًا بعض المواد الإضافية، وشرعا في العمل على القارب الشراعي بعناية وإتقان، واستغرق منهما يومًا كاملًا لإنهائه.
ما إن صعدوا القارب، حتى تولّى إيسيلدر إدارة الدفّة وكأنه معتاد على ذلك، بينما تولى دانسن ضبط بالشراع، أما بوريس، فجلس ساكنًا، إذ لم يكن يعرف ما يجب عليه فعله.
لم يسبق له أن ركب قاربًا من قبل، على السفينة الكبيرة لم يكن هناك ما يُفعل، أما الآن، في قارب صغير وسط أمواج لا ترحم، فقد شعر بوهن لم يختبره من قبل.
كان البرد لاذعًا، حتى جمد أنفه وأسال دموعه، لو سقط في الماء في هذا الطقس، فلربما لقي حتفه في الحال.
لكنه لم يكن في وضع يسمح له بالاتكاء على أحد وبوح قلقه، فقد كان الرجلان مشغولين تمامًا بتأمين الرحلة.
كانت وجهتهم الأولى هي الجزيرة الأولى من "أرخبيل الندى".
وكانت الصخور متناثرة في مياه الأرخبيل، غير أن قاربهم النحيف شق طريقه بينها بخفة، ومرّت بهم أحيانًا بعض القوارب الشراعية من بعيد.
حين رآها بوريس، أدرك أن القوارب الشراعية كانت الوسيلة المثلى لأولئك الذين يعتاشون على التنقيب عن الكنوز في هذه البحار.
ويبدو أن ذلك بدأ حينما عثر بعض الصيادين على تمثال رخامي قبل ثلاثين عامًا تقريبًا.
بدأ دانسن حديثه كأنه يروي حكاية مسلية: "يقال إن التمثال كان ذو عينان من الياقوت بحجم بيض الحمام، وشَعره وأظافره من الذهب الخالص"، غير أن ردة الفعل حين اكتُشف التمثال لم تكن هزلية قط.
سرت الشائعات بأن التمثال أثرٌ من مملكة سحرية قديمة، وأشعلت تلك الشائعات موجة من الهوس.
حتى إن مملكة ليمه أرسلت أسطولًا للبحث عن المزيد من تلك الآثار.
ورغم قلة ما عُثر عليه، إلا أن ما وُجد تداولته السوق السوداء، فأثار ذلك شغفًا أكبر لدى كثيرين لخوض مغامرة البحث.
قال دانسن "أنا ممتن لأنهم دومًا يشترون قوارب جديدة، هذا يسهل الأمور علينا".
لقد أصبح التنقيب عن الكنوز، المستمر منذ أربعين عامًا، سِمة محلية تستقطب شتى الأنفس المولعة بأسرار الممالك القديمة.
غير أن الوقت كان شتاء – وحتى سكان ليمي، رغم تكيفهم، لم يكونوا ليغوصون في مثل هذا الطقس.
لذلك كانت القوارب قليلة الآن، وما رآه بوريس لم يكن سوى قوارب لمراهقين متهورين أو صيادين يطاردون ما يكفيهم حتى نهاية الموسم، مستخدمين القوارب التي اقتنوها مسبقًا.
وبعد حين، بدأ بوريس يتعجّب من عدم إصابته بدوار البحر، رغم كثرة التحذيرات، كانت سفينة أتلان سيغمار أول سفينة يركبها في حياته، وكانت ضخمة.
أما هذا القارب الشراعي الصغير، فيتمايل بشدة، فهل كان قلقه حائلًا بينه وبين الإحساس بالغثيان؟
قال دانسن: "سمعت أن هناك من لا يُصابون بالدوار لأن أجسادهم تواكب حركة الأمواج بفطرة طبيعية".
هكذا قال، وأضاف أنه لم يسبق له لقاء أحد لم يُصب بالدوار إطلاقًا.
على كل حال، لم يكن البحر يُربك بوريس، كان كالنبتة الجبلية الصلبة، يزدهر حتى في أقسى البيئات.
ازداد طوله فور دخوله أنوماراد، ولم يُصب بنزلة برد طوال رحلته في برد ليمي القارس.
وبعد يومين، اجتازوا أرخبيل الندى وبلغوا البحر المفتوح، لم يتوقفوا سوى مرة واحدة في جزيرة، ليشتروا الزاد والماء والزيت والحبال وملابس الشتاء.
وكان إيسيلدر ودانسن من المَهَرة ، حيث بدا لبوريس وكأنهما أتما كل شيء في لحظة.
وبدؤوا بتقنين الطعام فور دخولهم بحر الشمال، وكان الرجلان يتناوبان على النوم، فكان بوريس أحيانًا يسهر مع دانسن، وأحيانًا مع إيسيلدر.
و مضت الأيام على هذا المنوال، و رغم أن الجو قارس، لكنهم لم يواجهوا عواصف.
سأل إيسيلدر "كيف حالك؟"، وقد مضى وقت طويل على آخر حديث له مع الفتى.
كان قد استيقظ فجرًا، وسط الضباب الكثيف، وتولّى ضبط الأشرعة بعدما غطّى دانسن ببطانيته، وارتدى قفازين جلديين.
قال بوريس، بينما لا يزال يتثاءب تحت بطانيته ويفرك عينيه: "أنا بخير".
جلس إيسيلدر في المقدمة ، فرك كفيه ، ثم قال: "حتى أهل الجزر يتجنبون الإبحار شتاءًا، لا حاجة لتتظاهر بالتماسك".
جلس بوريس ببطء، وكان تأرجح القارب لا يزال يبعث فيه التوتر، فقال: "لكن الوضع لا يُزعجني كثيرًا".
ابتسم إيسيلدر، وهو يحرّك وجهه بغرابة ليرخي عضلاته، وقال: "في لحظات كهذه يصعب عليّ تصديق أنك تنتمي إلى طبقة النبلاء".
أجابه بوريس: "ذلك لأن النبلاء غير موجودين في ترافاشيس".
كان هذا مزاحًا معتادًا بينهما أثناء ترحالهما في ليمي، أو ربما جملة محفوظة بردٍ معروف.
أستغرق الاثنان في ذكرياتهما، لم يمرّ وقت طويل على رحلتهما، فلماذا شعرا وكأنها منذ دهر؟
قال بوريس فجأة: "في الحقيقة، تبدو حالتك أسوأ من حالتي".
أنهى إيسيلدر تمرين وجهه، وعاد تعبيره لطبيعته قائلًا: "ولِمَ أرتاح؟ عليك أن تفهم أي هاوية أنا على وشك أن أزجك فيها".
رد بوريس: "أنا أفهم. إنها الهاوية التي وُلدت فيها ونشأت".
ابتسم إيسيلدر بمرارة، كان في الماضي سيعبس ويرد بلسان لاذع. لكنه اليوم، اكتفى بالقول: "إنها هاوية من جليد وثلج. شق عميق".
سأل بوريس: "وما هو الشق؟"
ابتدأ إيسيلدر شرحه مع فتحه لذراعيه: "إنه صدع هائل مرعب… يمتد في كتلة جليدية ضخمة. إن سقطت فيه، فقد انتهى أمرك، سترى الكثير منها في الجبال الثلجية، من يتعثر أو ينزلق يُبتلع تمامًا".
"يا له من أمر مخيف".
"وليس هذا فحسب، أحيانًا تنهار الثلوج في الربيع وتدفن نصف القرية، وهناك وحوش برية كثيرة، وما إن تراها حتى تدرك مدى قوتها وبأسها…"
تابع إيسيلدر الحديث مطولًا عن الأخطار الكامنة في الجزر، كان يتحدث كمغرور عليم يحذر بوريس من طريق لم يعد بالإمكان التراجع عنه.
هز بوريس رأسه وقال: "إذاً، كنت ترغب في العودة منذ البداية؟"
سكت إيسيلدر، ثم التفت نحو الضباب بتردد، وقال أخيرًا: "الناس هم الخطر الحقيقي في كل مكان، البشر وحوش، أبشع أنواع الوحوش..." واندثر صوته كما لو أن الضباب قد ابتلعه..
كان دانسن يحدّث بوريس كثيرًا عن الجُزر حين كانا يستيقظان معًا.
وقد بدا لبوريس وكأن دانسن يحاول أن يضمن ألا تتشكّل لديه انطباعات سيئة عن الجُزر في لقائه الأول بساكينها.
ومع ذلك، لم يكن الأمر يوحي بأن دانسن يتكلّف أو يبالغ في إظهار الجُزر بمظهر مبالغ فيه.
بحسب دانسن، فإن سكان الجُزر ينحدرون من جماعة من الناس كانوا قد فرّوا من كارثة قديمة في زمن غامض غير محدد. ✶
قال دانسن: "يُقال إننا كنّا في البداية لا نتجاوز المئتين، لكن أعدادنا ظلّت تتقلّب على مرّ الزمن، وقد تجاوزنا أحداثًا جسامًا، لذا فنحن الآن نحو ألف نسمة تقريبًا، نادر جدًا أن يُسمح لغرباء بدخول الجُزر، كما هو حالك الآن".
وأوضح دانسن أن كثيرًا من سكان الجُزر يشتركون في أسلاف مشتركين إذا ما تتبّعت سلالاتهم صعودًا، ومع ذلك، لم يكن الأمر إلى حدّ أن يكون الجميع أقرباء لبعضهم البعض.
"يمكن تقسيمنا نحن سكان الجُزر إلى أربع قبائل، كل قبيلة كانت في الأصل تدور حول شخصية قيادية منذ استقرارنا الأول، لكن في الوقت الحاضر لا توجد فروق كبيرة بيننا، هذا الانقسام لا يظهر إلا في مسائل الزواج أو توزيع الموارد".
وكان من الطبيعي في الجُزر أن يتزوّج الناس من قبائل مختلفة، وكان كل من إيسيلدر ودانسن ينتميان إلى "قبيلة الصقر الفضي".
وقد أخبر دانسن بوريس سابقًا أن سكان الجُزر يُعلون كثيرًا من شأن كونهم "ناجين" من الكارثة، كما أنهم يطلقون على أنفسهم لقب "المرتحلين"، إذ يرون أنفسهم متجولون لا يستطيعون العودة إلى موطنهم الحقيقي. ✶
"احرص على أن تحفظ واجبات المرتحل جيدًا: اولاً ، أن تستعيد ما فُقد، ولو بقدر يسير. ثانياً ، أن تصون ما تبقّى. و ثالثاً، أن تستعد للمملكة التي سيُعاد بناؤها يومًا ما. تلك هي واجباتنا". ✶
كانت الواجبات غامضة ومجردة إلى حدّ كبير، لكنها في الوقت ذاته تمثل نوعًا من التقاليد التي يحرصون على التمسّك بها، وكان دانسن بدوره يولي تلك الواجبات قدرًا غير قليل من الأهمية. ✶
"ستُحمّل أنت أيضًا عبء هذه الواجبات إن قررت الانضمام إلينا رسميًّا".
—
⊹¹ : وجود الرمز ✶ في الترجمة يعني أنني قمت بالتعديل على النص بما يتناسب مع ثوابت العقيدة الإسلامية، للحفاظ على سلامة النص من أي مخالفات دينية، هذه الترجمة ملتزمة بثوابتي الدينية أولًا وأخيرًا، ومن لم يَرُق له ذلك، فليبحث عن ترجمة أخرى تعجبه.