و كما قال دانسن ، لم يكن بوريس قد انضم رسميًّا بعد إلى جماعة المرتحلين، إذ لا يمكن أداء مراسم الانضمام إلا في الجُزر ذاتها.
ومن الناحية العملية، كان إدخال الغرباء إلى الجُزر أمرًا محرّمًا يُعاقب عليه بشدة، ومع ذلك، لم تُسجَّل أي حالة عقاب في التاريخ قط، إذ إن تهريب شخص إلى الجُزر كان شبه مستحيل.
قال دانسن: "هناك مدخل واحد فقط للجُزر، لا بدّ للجميع أن يعبروا منه، ومن المستحيل أن يتسلل أحد دون أن يُكتشف".
كانت هناك طريقة واحدة فقط لإدخال غريب إلى الجُزر: يجب أن يشهد اثنان من سكانها على هويته، وأن يُعبّر هو طوعًا عن رغبته في الانضمام كمتدرّب، وأن يخضع لمراسم انضمام بسيطة. ✶
وكان ذلك ممكنًا فقط إن كان الغريب طفلًا لم يتجاوز الخامسة عشرة، ثم، عندما يبلغ المتدرّب الخامسة عشرة، يقوم بأداء عملية الغَسل الأولى ويقرّ برغبته في الانضمام رسميًّا، ويتعهّد بالالتزام بواجبات الجماعة. ✶
وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة ليصبح الغريب عضوًا رسميًّا، وإن رفض أي جزء من هذه الإجراءات، يُمنع من الانضمام ويُطرد من الجُزر نهائيًّا، ويُسمح للمنفي أن يعيش خارج الجُزر، لكن العودة تعني المخاطر الشديدة.
قال دانسن: "هم أيضًا ليسوا أحرارًا تمامًا، إذ يجب عليهم ترك خصلة من شعرهم في حوض خاص، وأن يلتزموا بالصمت".
"لماذا خصلة الشعر؟"
"في حال كشفوا أسرار الجُزر لأي كان، تشتعل الخصلة تلقائيًّا، ويشعر صاحبها بألم شديد، قد يصل إلى حد الموت".
"حتى وإن كانوا بعيدين؟"
"لا يهم مكانهم".
'هل في الأمر أمر توقعي؟' تساءل بوريس، لكنه لم يملك جوابًا واضحًا.
"الحوض هو الذي يحدّد شدة العقاب، وليس لدينا طريقة لمعرفة الأسرار التي كشفوها".
ثم شرح دانسن معالم الجُزر: كانت أرخبيلًا مكوّنًا من أربع جزر كبيرة، بحجم يقارب جزيرة إلبه وأرخبيل الندى معًا، لكن الأراضي الزراعية قليلة بسبب كثرة الجبال والفوهات البركانية.
أكبر جزيرة تُدعى "الذاكرة"، تليها "الصمت"، وبينهما جزيرتان صغيرتان: "الفقد" في الجنوب، و"النداء" في الشمال. ✶
يعيش معظم السكان في جزيرة "الذاكرة"، أما الجزر الأخرى فتحتوي على حصون ومواقع حراسة يديرها المكلّفون بحماية الجُزر.
وكانت الجُزر تُعرف باسم "جُزر الجَزر".
قال دانسن، وهو يرفع يده في الهواء: "الريح تهبّ".
نظر بوريس إلى السماء، لكنه لم يفهم ما عليه مراقبته: "أليست الريح تهبّ دائمًا؟"
"هذه ليست ريحًا عادية، بل تحذير من عاصفة قادمة".
لم يفهم بوريس المغزى، لكنه لم يشكك، هل كان يقصد عاصفة تقترب؟
"أيقظ أخي"، أمره دانسن.
هزّ بوريس إيسيلدر، الذي كان قد غفا منذ نحو ثلاث ساعات، تأوّه ثم نهض فجأة ونظر حوله: "ريح تحذيرية تهبّ".
بدأت تموّجات الماء، التي كانت متكررة، تتّحد وتتصاعد.
حاول بوريس التمسّك بالشراع لكنه تركه بعد سماع ضحك إيسيلدر."هل بدأ فزعك يظهر؟"
لم يكن من الطبيعي أن يخلو الإنسان من الخوف.
شعر بوريس بالخوف، وهو يراقب الأمواج تضرب زورقهم الصغير، الذي يشبه صدفة بلح بحر صغيرة في عمق المحيط، هل سيبقى لهم أثر إن انقلب القارب؟
لاحظ بوريس أن سكان الجُزر كانوا مختلفين؛ لم يظهر عليهم الاستهانة بالعاصفة، بل كانت عيونهم تتلألأ بالثقة، وكأنهم مستعدون لمواجهة العاصفة بشجاعة، كأن البحر خصم يجب مجابهته.
لم يكن أهل ليمي كذلك، فهم بحّارة يعيشون وفقًا لتقلبات البحر، وليس بتحدّيه.
قال بوريس: "ما رأيك؟"
رد دانسن: "هل نبدأ؟"
بدأ دانسن، ضمّ يديه إلى صدره، ونظر أمامه، كانت السفينة قد اجتازت موجتين كبيرتين، وقاد إيسيلدر الزورق بحرفية فوق الموجة الثالثة.
أما بوريس، فكان يرتجف وعاجزًا عن التماسك، الكاد استطاع الحفاظ على توازنه مع تحرّك الأرض تحت قدميه، ناهيك عن استقرار ذهنه.
ثم بدأ دانسن يرتّل: "امرأة شاحبة، بشعرٍ داكنٍ متشابك كأنّه نباتٌ متسلّق، تُحدّق من الأعلى، وتُعلّق بأن المسافة بين اليابسة والبحر واسعة، كما هي المسافة بين أحوال البشر وقُدراتهم، تنظر إلى الأمواج، الهائجة كأنّها وحوش البحر، فتبتسم وتقول إنها تتقلب كما تتقافز الحملان. تصغي لصوت الأرض وهي تهتز،فتقول إنّها تشبه الحصى حين تتدحرج في رقصةٍ عشوائية." ✶
كاد بوريس أن يضيع وسط صوت الرياح العاتية، وتلاطم الموج، ونبرة دانسن العميقة.
دوّى صدى قوي في الأرجاء، أشبه برنين جرس معدني ثقيل، حين بدأ دانسن بأداء حركات بيديه تُشبه الرموز.
لم يسمعها بأذنيه، بل شعر بها تسري في جلده، وفي كيانه كله.
قال إيسيلدر، وهو يكدّ بكلّ ما أوتي من قوة كي يُبقي القارب عائمًا بمفرده: "كان ذلك نداءً خاصًا. يولد دائمًا عدد قليل من الناس بهذه القدرة في كل جيل"، وكان صوتُه بالكاد يُسمع، إذ كان بوريس قد التصق بأرضية القارب من شدّة الرعب. ✶
لكنّ الوضع لم يَدم طويلاً، بعد لحظة، أدرك بوريس أن القارب توقّف عن الاهتزاز، فنهض ببطء ينظر إلى البحر والسماء بدهشة.
وقبل أن يتفوه بشيء، قال دانسن بتبسم: "كما توقّعت من ’الملاح‘، مهاراتك في قيادة القارب تُخجل المجدّفين يا أخي".
ضحك إيسيلدر بصوت مرتفع، وأجاب: "يقولون إن بعض الناس يعيشون حياة تليق بأسمائهم".
لم يستطع بوريس منع نفسه من الشعور أن إيسيلدر كان يقصده هو أيضًا، وإنْ كان ذلك ربما لم يكن إلا تأثير نجاتهم من خطر حقيقي.
مرّ أسبوعان منذ بداية رحلتهم، نزلوا للاستراحة في جزيرة صغيرة غير مأهولة صادفوها.
كانت الجزيرة صغيرة إلى حدٍّ يمكنهم التجوّل حولها بالكامل في ساعة واحدة.
وكان في أرضها الصخرية ثقوب محفورة، وداخلها أشياء مفيدة ملفوفة بجلدٍ مدهون بالزيت لحمايتها، مثل قماش احتياطي للشراع، ومادة لاصقة لسدّ الشقوق، ولحم وفاكهة مجففة قاسية كأنها حجارة، وماء صالح للشرب.
ثم غادروا الجزيرة، وواصلوا الإبحار تجاه الجنوب الشرقي حتى يومٍ آخر.
وفي صباح اليوم التالي، وجدوا ما كانوا يبحثون عنه: التيّار.
كان التيار قويًّا، وسرعان ما بدأ يدفع القارب شمالًا، أدهش بوريس مدى سرعته، وكانت نسائم هذا التيار لطيفة، جعلت الرحلة أكثر راحة أخيرًا.
كان الشراع يتمدّد كجناحي نورس أبيض، ولم يخفت طوال ساعات.
انبهر بوريس بسرعة القارب لدرجة أنه نسي البرد، وكان ذلك أيضًا لأن الطقس بدأ يدفأ فعلًا، فقد بلغ شهر مارس نهايته.
لقد دخلوا شهر أبريل، وكان الوقت في منتصف الليل حين استيقظ بوريس فجأة لشعوره بأن هناك أمرًا غير طبيعي.
بقي مستيقظًا نصف ساعة، حتى أدرك أن القارب يتحرك بشكل غريب… كأنهم يَدُورون في دوائر واسعة.
"استيقظت؟" سأله إيسيلدر وهو جالس عند مؤخّرة القارب يحدّق في الظلام.
"كيف عرفت؟"
"سمعتك تفتح عينيك".
جلس بوريس وهو يفكّر في سخرية يردّ بها، لكن إيسيلدر قال بهدوء:"كن حذرًا".
"ممّن؟"
كان إيسيلدر يُمعن النظر في الظلام، ولا يبدو أنه يبحث عن شيءٍ منظور. بل ربما كان ما ينتظره غير ملموس.
قال: "لقد دخلنا حدود الجُزر الآن، وستقابل أول سكانها، المرتحلين، بعدي أنا ودانسن، حين نصل إلى اليابسة".
أومأ بوريس وسأل: "لكن ممَّ عليّ أن أحذر بالضبط؟"
رد إيسيلدر دون أن يشيح ببصره: "من الناس… فالناس هم دائمًا الأخطر".
قال بوريس متنهدًا: "في الحقيقة، أنت أكثر من يُخيفني".
رد إيسيلدر: "ماذا؟ أنا من أهدأ الناس الذين قد تقابلهم يومًا، أيها المشاكس الصغير".
لكن بوريس هزّ رأسه وقال: "أنت السبب في أنني تبعتك إلى هذا المكان. لم أكن أنوي العودة إلى وطني في الوقت القريب، لكنني لم أكن أبحث عن موطن جديد أيضًا. ومع ذلك، أنت جعلتني أُسلّم بهذا المصير، وأرضى بأن أعيش بين قوم لم أعرفهم قط".
تابع الصبي، مبتسمًا من جانب فمه: "كلما فكرت في الأمر، ازددتُ رهبة منك، جعلتني أتخلى عن جزء من حريتي لأبقى إلى جانبك. لا أقول إنني ألومك على ذلك... لكنّك جعلتني أفعله برغبتي".
كان بوريس يحمل هذه الكلمات في قلبه منذ زمن، لكنها خرجت منه بسهولة تحت غطاء الظلام.
لم يردّ إيسيلدر فورًا، إذ لم يكن يتوقّع هذا الاعتراف، فباغته وأربكه. بل جعله يشعر كأن شبابه قد عاد إليه.
وبعد صمت، قال إيسيلدر أخيرًا: "لا أحد يعرف إن كان هذا القرار صائبًا. لكن سأقول لك شيئًا... أكمل ما بدأته. ماذا لو فتحت قلبك لأناس غرباء فقابلوك بالصدّ؟ هل ستنهار؟"
أجاب بوريس: "ربما. سأسقط لفترة... ثم أنهض من جديد، أليس كذلك؟"
قال إيسيلدر: "وماذا لو تزعزعت عزيمتك، وبدأت تَكْنّ لي شيئًا من الغضب؟"
رد بوريس بسخرية: "هل هذا ما تخشاه؟ لا داعي للخوف، الحياة لا تزيد عن لحظة واحدة. فما الذي يُخيف فيها؟"
عجز إيسيلدر عن الردّ من غرابة الجواب، رفع قبضته كأنّه يهمّ بضرب رأس الصبي—لكنه كان بعيدًا عن متناوله—وقال: "أصبحتَ تسرق كلماتي وتلقي بها عليّ، أيها الوقح".
ضحك بوريس وتجاهل الإيماءة، قائلًا: "أنا في السنّ حيث يبدأ الأولاد بتقليد من حولهم، أليس كذلك؟ الأمر طبيعي تمامًا".
رد إيسيلدر: "والآن تبرّر لنفسك أيضًا. يا لك من فتى صعب المراس".
قال بوريس مبتسمًا: "لطالما كنت كذلك. ماذا لو قرروا أن يجعلوني وتدًا في الجُزر؟"
قال إيسيلدر وهو يهز رأسه: "ستحتاج إلى بعض الدفء قبل أن تُدق في الأرض. تقول هذا الكلام لأنك لا تعرف مدى برودة المكان هناك".
قال بوريس بمرح: "في الواقع، لطالما كان حلمي أن أصبح وتدًا، ألن يكون ذلك رائعًا؟ أن يُغرس المرء في الأرض المتجمّدة حتى لا يعود قادرًا على الحركة؟"
أجابه إيسيلدر: "هل تنوي حقًا أن تُكيّف نفسك مع الجُزر؟ وأنت لا تعرف حتى طبيعتها؟"
رفع بوريس ذقنه، وعبس بوجهٍ لم يكن ليُظهره لأحدٍ سوي إيسيلدر، وقال: "تقصد أنني قد أتقيّد، أليس كذلك؟ لهذا السبب بالضبط أريد أن أثبّت نفسي. كالوَتِد. حتى لا أفرّ دون أن أشعر".
لم يردّ إيسيلدر، في العادة، كان سيقرص خدّي الصبي قائلًا، "انظر لنفسك، أيها الشقي". لكنه بدلًا من ذلك، نظر إليه مطوّلًا.
وكان بوريس يتحدث بخفة أكثر من المعتاد، كأنما يحاول أن يملأ الصمت.
قال إيسيلدر أخيرًا: "ليته يدوم إلى الأبد".
لم يفهم بوريس المقصود فورًا، حتى واصل إيسيلدر بنبرة هادئة:"لا، بل سأجعله يدوم، سواء أكان أملًا بلا أساس أم شجاعة لا سند لها. نصف ما أوصلنا إلى هذا الموضع يعود إلى حماقتك، أما النصف الآخر فطمعي، نحن مسؤولان سويًّا. فلنرَ إن كنا سننجح في تحطيم الصخر الذي أمامنا. سأبقى إلى جانبك حتى النهاية، لذا..."
مدّ يده وأمسك بيد بوريس اليمنى بإحكام، أكمل قائلاً: "لا تتركني أنت أيضًا".
لم يكن إيسيلدر يحاول أن يبث الأمل فحسب، لقد نطق وعدًا.
لم يفهم بوريس عمق ذلك تمامًا، لكنّ إيسيلدر عاهد نفسه في تلك اللحظة على أن يحميه حتى النهاية، لم يكن مهمًّا كيف وصلت الأمور إلى هذه النقطة؛ ما كان يريده الآن هو أن يصنع له مكانًا يتنفّس فيه، ويبقيه قريبًا منه.
ولهذا، قد حان وقت حمايته.
قال إيسيلدر فجأة بصوت أعلى: "ننتظر انحسار المدّ، المدّ سينحسر في النهاية".
تابع قائلاً: "سنتمكن من المشي حين تبتعد المياه، البحر واسع، لكنّه لا يرعبني".
تبادل الاثنان النظرات وابتسما، ثم، بعد لحظة، همس إيسيلدر: "أهلاً بك في جُزر الجَزر" ¹.
—
⊹¹ : كلمة "Ebb" تعني انحسار البحر عند انخفاض المدّ و هو "الجَزر"، وتُستخدم أيضًا للدلالة على التراجع بعد الامتلاء أو الارتفاع، سواء في الطبيعة أو الأحوال العامة.
⊹² : وجود الرمز ✶ في الترجمة يعني أنني قمت بالتعديل على النص بما يتناسب مع ثوابت العقيدة الإسلامية، للحفاظ على سلامة النص من أي مخالفات دينية، هذه الترجمة ملتزمة بثوابتي الدينية أولًا وأخيرًا، ومن لم يَرُق له ذلك، فليبحث عن ترجمة أخرى تعجبه.