الجزيرة كانت على قدر اسمها، لم تكن أكثر من صخرة مدببة تبرز من المحيط عند الفجر.
لكن عند الجَزْر، يظهر شاطئٌ بعرض يسمح بخطو مئات الخطوات، يطلّ من تحت الأمواج، لا يمكن لأي قارب أن يرسو على الجزيرة حتى ينكشف الساحل، إذ إن قمتها ليست سوى صخرة حادة ضخمة.
لهذا السبب، أطلق المرتحلين عليها اسم "جزيرة الجَزْر".
وكان للجزيرة مزاياها وعيوبها، فمن جهة، يصعب على الناس تمييز أن من الممكن أصلًا الرسو فيها وقت المدّ، لأنها لا تبدو حينها سوى كصخرة كبيرة، مما جعلها نقطة تفتيش سرية مثالية.
لكن من جهة أخرى، لا يمكن للقوارب الرسو إلا لبضع ساعات فقط في اليوم، وأي قارب يطيل البقاء، سيغرق أو يتيه في البحر عند عودة المدّ.
وكان الحدّ الفاصل بين الليل والنهار ينساب في السماء بينما يقترب قاربهم من الجزيرة، تدلت السحب المتناثرة فوق الجزيرة الصخرية المظلمة، والسماء بدت كئيبة.
ظلّ الفجر المكسو بالصخور معلقًا بين السحب المزرقّة والقرمزية والقاتمة، في طيف ألوان أرجواني متدرّج.
وكأن السحب كانت أصابع الجبل الصخري وهي تزيح الستار، ما وراء الستار كان نهارًا، وما بداخله كان ليلًا بعد.
حدّق بوريس في السماء لبعض الوقت، وسيظل يتذكّر ما جرى في جزيرة الجَزْر طيلة حياته.
وعندما اقتربوا من الشاطئ، لمح بوريس قاربًا آخر قد رسا بالفعل في الجزيرة، كان من الواضح أنه رسا بعد بدء الجَزْر. بدأ قلبه يخفق بتسارع.
ترجّل الثلاثة من القارب حالما بلغوا المياه الضحلة، وأكملوا الطريق سيرًا على الأقدام نحو الجزيرة، انشغل دانسن بالبحث عن صخرة مناسبة ليربط بها القارب، بينما راح إيسيلدر يتأمل المكان وكأنه يسترجع ذكريات قديمة.
لم يكن هناك الكثير لرؤيته، فكل ما حولهم يغمره الماء وقت المدّ، ولم يكن متناثرًا حولهم سوى الأعشاب البحرية والمحار والديدان الرملية والصَدَف.
لكن كل شيء كان غريبًا وجديدًا على بوريس، لم يسبق له زيارة شاطئ كهذا من قبل، فهو في نهاية المطاف لا يزال صبيًا صغيرًا، وكان من الطبيعي أن يُثير البحر اهتمامه.
لكن إيسيلدر لم يُتِح له فرصة الاستمتاع، فلم يمض وقت طويل قبل أن يبدأ الثلاثة تسلّق الجبل الصخري.
لم يستغرق صعودهم كثيرًا حتى تجاوزوا الأرض الرطبة، لم يدرك بوريس الأمر حتى اقترب أكثر، لكن الجبل الصخري كان أكبر مما يبدو من بعيد—كان حصنًا طبيعيًا. بل وكانت هناك درجات محفورة في الصخر.
بلغوا منتصف الطريق تقريبًا حتى صادفوا بابًا فولاذيًا ضخمًا، وكان في موضع المقبض علامة بيضاوية.
وضع إيسيلدر يده على العلامة وتمتم بكلمات لم يسمعها بوريس بوضوح، فبدأ الباب يفتح بارتطام مدوٍ، دخل إيسيلدر وبوريس عبر الباب السحري.
قال بوريس: "ماذا عن السيد دانسن؟"
فأجاب إيسيلدر: "سينتظرنا عند الشاطئ"
"ألن يأتي معنا؟"
"ليس مسموحًا للجميع بدخول هذا المكان"
أمال بوريس رأسه حيرةً وهما يسيران في الممرات الرطبة—فهذا الجزء من الحصن كان تحت الماء معظم ساعات اليوم.
كان إيسيلدر ودانسن يعاملان بعضهما وكأنهما إخوة حقيقيان ، فكيف لا يُسمح لدانسن بالدخول بينما يُسمح لإيسيلدر؟ كان ذلك نذيرًا للحياة الغريبة التي تنتظره في الجُزُر.
وكانت جدران الحصن الداخلية خشنة كخارجها، وقد غطّت الأرضيات والجدران والسقف ثقوب صغيرة، تساءل بوريس إن كانت تسكنها مخلوقات ما.
وأضاءت أشعة الشمس الوليدة الممر على شكل بقع، وتشبثت الأصداف الغريبة ونجوم البحر الميتة بالجدران وكأنها زينة من الأصل.
قادهم الطريق إلى قمة الحصن، وكلما صعدوا طابقًا، ازدادت الإضاءة من حولهم.
ثم أدرك بوريس فجأة أن السقف قد اختفى، فانتفض حين لفح نسيم بارد شعره.
قال إيسيلدر: "ألقِ نظرة"
قادهم الدرج الأخير إلى مركز قمة الجزيرة، كانت بعرض عشرين قدم تقريبًا، وأرضها مائلة بعض الشيء.
وكانت هناك سبع صخور شاهقة مصطفّة في دائرة، وتحيط بها من الجوانب منحدرات حادة يستحيل على أي بشري تسلقها، وتهبط من هناك حتى الشاطئ، وما فوقهم سوى الفراغ، حيث يلتقي البحر والسماء. كان المشهد يخطف الأنفاس بقدر ما كان ساحقًا.
بعض الأشياء صغرها يجعلك تخاف أن تفقدها، وبعضها الآخر من ضخامته تشعر أنك لا تستطيع الثبات أمامه.
لم يستطع بوريس إدراك شيء سوى تلك المنحنيات العميقة الطاغية.
شعر وكأنه واقف فوق الدُنيا بأسرها ، وكأن لا شيء وُجد في الدُنيا أصلًا، فراغ لا يملك شيئًا ليمنحك إياه، ولا شيئًا لتخسره، يخلو من كل ما رآه وكل ما قد يراه.
ندعوها بالهاوية.
قال إيسيلدر وهو يشير إلى جهة الشمال الشرقي: "قاربنا هناك. وعندما نبحر مجددًا... من هناك، هذا هو المسار الذي تسلكه القوارب للوصول إلى الجُزر"
ولم يكن إيسيلدر يشير إلى شيء في الواقع، فلم يكونوا قد أبحروا بعد، ولا الزوار الآخرون.
لكن الشاطئ كان قريبًا إلى درجة جعلت بوريس يظن أنه قد يتمكن من تمييز وجوه من في القارب إن اقترب أحدهم، وكانت القمة المفتوحة أفضل مكان لمراقبة القوارب القادمة.
وكان بوريس يتأمل البحر المفتوح حين سمع فجأة صوتًا خلفه.
قال الرجل: "يا ترى، من هذا؟ أحقًا عدت؟"
استدار بوريس وإيسيلدر، وهبّت نسمة أخرى فبعثرت شعرهما الطويل، وحرّكا أيديهما بنفس اللحظة ليمسحا خصلاتهما عن وجهيهما ليروا المتحدث.
هتف إيسيلدر وهو يعانق القادم على كتفه: "هيراتسّي!"
ووضع بوريس يده على إحدى الأعمدة الصخرية وهو يراقب شعريهما المتشابهين في درجة اللون البني، يتطايران في الريح.
قال هيراتسّي: "كم مضى؟ ثلاث سنوات؟ لا، أربع ، ألم تكن في روغران العام الماضي؟ كنت في هاياكان في ذلك الوقت للقاء السيد داروماشي"
"أنا..."
لكن هيراسّي لاحظ بوريس حينها فقط، فقاطعه قائلًا: "من أنت؟ أقضي وقتًا طويلًا بعيدًا عن الجُزُر بسبب مهمتي، ولا أذكر وجهك، هل التقينا حين كنت صغيرًا؟"
ردّ بوريس بتوتر: "ل-لا، سيدي..."
"هذا جيد، إذا نحن في المركب ذاته، للحظة ظننت أنني بدأت أُصاب بالخرف لعجزي عن تمييز أطفال المرتحلين، رغم أنه ربما كنت تبدو مختلفًا تمامًا وأنت صغير"
كان هيراسّي ودودًا للغاية، وواضح أنه خجل من عدم تذكّره لبوريس.
ارتبك الصبي، لا يدري ما يقول، فاستدار نحو إيسيلدر طلبًا للمساعدة.
تابع هيراسّي قائلًا: "على أي حال، ما اسمك؟ ومن والدتك؟"
كان الحديث يتسارع إلى حد أن حتى إيسيلدر بدا عاجزًا عن مجاراته، لكنه سرعان ما استعاد تركيزه، وقاطعه قائلًا: "هذا الصبي ليس من أبناء المرتحلين" ✶
قال هيراتسّي: "ماذا؟" لم يبدُ عليه المفاجأة فقط، بل الذهول والغضب أيضًا.
تابع: "انتظر، لحظة. ليس من أبناء الجُزُر؟ إذًا من هو؟ لا، قبل ذلك—لمَ هو هنا أصلًا؟ هل أنت من أحضره؟"
تصلّب بوريس توترًا حين رأى كيف تغيّرت ملامح هيراسّي بسرعة، لم يكن قد تعرّف على بوريس، لكن نظرته تبدّلت كليًا، من ودّ حميمي إلى عداء مطلق. لمجرد أنه علم أن بوريس ليس من أبناء المرتحلين.
صرخ هيراتسّي: "اشرح!"
فأجاب إيسيلدر: "جاء ليصبح من المرتحلين"
وتغيّرت ملامح هيراتسّي مرة أخرى، اختفى الغضب، ليحل محله الارتباك التام: "هـ-هذا... أنا، لم... لا، لا بأس. كفى"
ثم تنهد وقال: "يا للعجب"
لكن واضح أنه لا يزال ينظر إلى بوريس بعين الشك.
حدّق في وجه إيسيلدر وسأله بنبرة حادة: "سأثق بك لأنه أنت، لكن هل هذا حقًا ما حدث؟ من هو الشاهد؟"
أجاب إيسيلدر بابتسامة خافتة: "دانسن، الناشِد صاحب الشعر الأبيض" ✶
قال هيراتسّي بتردد: "همم... لكن في حال لم تكن هذه هي الحقيقة..."
فقاطعه إيسيلدر بهدوء: "لست متهورًا لأُحضر غريبًا من دون سبب. حتى لو وجدت أحدهم يغرق في البحر، ما كنت لأنقذه وأحضره إلى هنا. الكل يعلم أنه لا يجب فعل ذلك، أأنا محق؟"
اتسعت عينا بوريس وهو يستمع لحديثهما، لم يعد متوترًا كما كان، لكنه بات يدرك تمامًا أنه قد دخل أرضًا غريبة.
صحيح أنه سافر إلى أنوماراد وليمي بعد مغادرة ترافاتشيس، لكنها جميعًا كانت دولًا في نفس القارّة، تعترف ببعضها رسميًا.
أما الجُزُر، فليست كذلك، لقد أتى إلى أرض تعادي الغرباء، ليطلب منهم أن يعترفوا به واحدًا منهم.
كان يدرك منذ البداية أن ذلك لن يكون سهلًا، لكن هذه كانت أول مرة يشعر بثقل ذلك الواقع.
الجُزُر لا ترحب بوجوده.
⊹
كانت التربة رطبة، هذا أول ما شعر به بوريس حين وطأت قدمه جزر المرتحلين، بدا وكأن الأرض قد ذابت حديثًا، ما أضفى عليها مظهرًا نابضًا بالحياة.
استحضر بوريس في ذهنه صورة السلام التي كانت تغمر جزر المرتحلين الأربعة، حيث ظهرت تدريجيًا على الأفق.
بدأت الجزر كشريط ذهبي طويل يمتد فوق خط الأفق، يشبه شروق الشمس، ثم تكشفت ببطء بدءًا من قممها الشامخة وصولًا إلى شواطئها المنخفضة.
لم يرفع بوريس عينيه عنها حتى غطى ذلك الأفق الواسع كل مجال رؤيته.
كان رصيف جزيرة الذكرى يقع في الجزء الجنوبي من الجزيرة، ولم يرسُّ عليه سوى قوارب شراعية صغيرة لا تفوق في حجمها القارب الذي ركب فيه بوريس و مرافقيه، خالٍ من أي سفن ضخمة.
اقترب منهم من الرصيف ثلاثة رجال يرتدون أوشحة سوداء، هنأوا إيسيلدر ودانسن بهدوء عند عودتهما، ثم سألوا عن هوية بوريس.
نظروا إليه بعيون مملوءة بالدهشة والحذر، وكأنهم يشكّون في وجوده.
لم يُبدِ هؤلاء الرجال أدنى ترحيب، ولم يلقوا عليه حتى تحية.
قال أحدهم بصوت منخفض: "سنرفع تقريرًا إلى الشيخ ذو العصا." ✶
رد آخر: "إنها حادثة نادرة، حقًا."
ابتسم إيسيلدر وهو يهز كتفيه قائلًا: "لكنها ليست نادرة لدرجة تمنع وقوعها مرة واحدة في العمر."
أجابه الرجل بنبرة متهكمة: "تقول ذلك لأنه أنت يا نوبليون."
نظر بوريس إلى إيسيلدر عندما سمع ذلك الاسم الغريب، و ابتسم إيسيلدر بسخرية رداً عليه، وكأنه يقول: "أليس هذا مفاجئًا؟"
تساءل بوريس: "هل سمعتموه جيدًا؟"
ثم استفسر: "هل هذا اسم آخر لك؟"
فُوجئ الرجال الثلاثة وارتبكوا، واستداروا بسرعة فور نطق بوريس بالسؤال.
ارتفع حاجبا بوريس بدهشة؛ لم يكن يعلم إن كان قد أساء إليهم، لكنهم لم يعيروه اهتمامًا واكتفوا بالابتعاد دون أي كلمة.
نزل دانسن من القارب بهدوء، وأخبر بوريس بصوت منخفض: "أخي ذو مكانة رفيعة في هذه المناطق، من الأفضل أن تراعي الألقاب حين تخاطبه."
ثم انطلق دانسن يلاحق الرجال ذوي الأوشحة السوداء، قائلاً إنه يحتاج لرؤية الشيخ ذو العصا أيضًا.
أما بوريس و"نوبليون" فغادرا الرصيف ببطء مع بقية الحضور، راود بوريس شعور بالتشابه بين هذا المشهد ومشهد جزيرة الجَزر، حيث كانت التدخلات البشرية محدودة قدر الإمكان، وتُركت البرية لتهيمن على المكان.
كان هناك طريق ترابي يمر بين الأشجار، نَمت عليه بعض الأعشاب هنا وهناك، يقود إلى غابة كثيفة، بدت الغابة عميقة حقًا، حتى دخلوا فيها، حينها بدأ خط الأشجار يخف تدريجيًا، ليكشف عن هضبة شاسعة.
لم يدرك بوريس ذلك السر حينها، لكن ذلك الطريق الترابي كان أطول مما ظن.
لو استدار ليرى خلفه، لوجد آلاف الأشجار المكتظة وكأنها حاجز طبيعي، بينما بدت القوارب الشراعية البيضاء الصغيرة على الماء في الأفق، وكأنها ألعاب مصغرة.
—
⊹¹ : وجود الرمز ✶ في الترجمة يعني أنني قمت بالتعديل على النص بما يتناسب مع ثوابت العقيدة الإسلامية، للحفاظ على سلامة النص من أي مخالفات دينية، هذه الترجمة ملتزمة بثوابتي الدينية أولًا وأخيرًا، ومن لم يَرُق له ذلك، فليبحث عن ترجمة أخرى تعجبه.