اقتربت ثلاث قمم جبلية، تكللت جميعها بالثلوج على رؤوسها، وكانت تقابلهم من الجهة الأخرى من الهضبة الواسعة.
لم تكن تبدو أقل وعورة من الجبال الواقعة في القارّة، وأدرك بوريس حينها أن تلك الجبال لا بد أن تكون أضخم بكثير مما تخيّل في بادئ الأمر.
وفي النهاية، بلغوا جدارًا حجريًا يلتف حول الحافة الجنوبية للهضبة.
كان ارتفاعه يعادل ارتفاع سبعة أو ثمانية رجال بالغين تقريبًا، لكنه لم يكن يوحي بأنه بُني لغرض دفاعي، فرغم ارتفاعه الشاهق، لم يكن مجهزًا بأي سلاح دفاعي؛ فلا أبراج تزيّنه، ولا شُرف تحرسه من الأعلى، بل حتى ممر للمشاة لم يكن عليه.
وعند النقطة التي التقت فيها الطريق بالجدار، كان هناك مدخلٌ على هيئة قوس، يتّسع لعبور عربتين جنبًا إلى جنب، لم يكن للمدخل بوابات.
توقف الجمع عنده، وكان أحد الرجال ذوي الأوشحة السوداء قد سبقهم وانتظرهم هناك، رفع شيئًا في يده، ورسم به إشارة + في الهواء، ثم مدّ يده إلى الأمام، فإذا بغشاء رقيق يهتزّ وينشقّ كمَن تفرقع فقاعة، فدخلوا من خلاله.
'هل كان ذلك سحرًا؟' تساءل بوريس في نفسه، أيعقل أن يُستخدم السحر في الأمور اليومية؟
لكن ما إن عبروا المدخل، حتى تجمّد في مكانه من الصدمة.
قال متلعثمًا: "م..ما هذا..."
أبصر تلالًا من الحجارة مكدّسة ومتناثرة إلى مدّ البصر، هل يعيش الناس فعلًا في هذه الأكوام؟ وبين تلك التلال، انتصبت أعمدة طويلة، سماكتها تقارب ما تتسع له ذراعان.
وقفت الأعمدة وحيدة، لا تسند شيئًا فوقها، كانت مُقامة على هيئة +، أما تحتها، فكانت بقايا أرضية رخامية متشققة ومتروكة.
تتسلّقها كروم سوداء انبثقت من بين الشقوق، تُشبه في نظر بوريس أيادي شيطانٍ يتسلّل من باطن الأرض، وكانت تلك الكروم السوداء هي الشيء الوحيد الحيّ هناك.
لكن، لم يكن هذا سبب ذهول بوريس الحقيقي.
لقد سمعها بوضوح—خطوات أقدام.
خطوات لأناسٍ كُثر يمشون على الرخام المتصدّع، ومع ذلك، لم يكن هناك أحد. ولا حتى ظلّ، ولا ضباب يحجبه، فما زال النهار في ذروته.
ومع هذا، ظلّ بوريس يسمع وقع الأقدام الهوائية، خطوات أناسٍ غير مرئيين وهم يعبرون الرخام.
طَقطَق... طق طق طق، طق طق...
طق، طق طق، طق، طق، طق.
وقبل أن يُدرك، كان بوريس قد تشبّث بذراع إيسيلدر—أو نوبليون—في صمت، وكأن حلقه قد انغلق، وبدأت حدقتا عينيه ترتجفان.
شعر نوبليون بارتجاف الفتى يتسلل إلى يده، فمدّ ذراعه الأخرى وجذب بوريس إليه بلطف، فقال بصوت هادئ: "ما الأمر؟ هل ترى شيئًا؟"
استغرق بوريس وقتًا قبل أن يتمكن من الرد ، حتى الرمش استعصى عليه.
وأخيرًا، بعد برهة، همس قائلًا: "تلك الأصوات... ألا تسمعها؟ فوق الحجارة المشققة... خَطَوات..."
سأله نوبليون وهو يحيط كتفيه بذراعه: "وماذا ترى؟ أخبرني بالتفصيل."
قال بوريس: "تلال الحجارة، الأعمدة... وتلك الكروم السوداء..."
شهق الرجال ذوو الأوشحة السوداء من الذهول، فتقدّم أحدهم إلى بوريس، وأخرج شيئًا من جيبه، وهمّ بوضعه بين يديه.
لكن نوبليون رفع يده وقال: "انتظر." ثم استدار نحو بوريس، ووضع يده على عينيه ليغطيهما، وجذبه إليه بذراعه الأخرى.
قال نوبليون: "لا بأس، خذ وقتك. أخبرني ما الذي رأيته تَوًّا؟ قل كل ما أبصرته عيناك، وحاول أن تشرحه وكأننا لم نرَ شيئًا على الإطلاق."
اختفت الخطوات التي أرعبت الصبي حين غطّى الظلام عينيه، وفي الوقت ذاته، شعر بوريس أن رأسه بدأ يبرد، وأن قلبه قد هدأ.
ثم تسلّل إليه الشك...'هل ما رأيته قبل قليل كان حقيقيًا فعلًا؟ أم أنه كان مجرد وهمًا أو هذيانًا؟'
ومع ذلك، راوده إحساس قوي بأنه إن لم يصف ما رآه، فسينساه قريبًا.
كما لو أن ما رآه لم يكن سوى حلم سرعان ما يتبدّد بعد الاستيقاظ بلحظات.
فقال بوريس: "رأيت صفّين متوازيين من الأعمدة، لا يحملان فوقهما شيئًا، يمتدان إلى مسافة بعيدة جدًا. كأنهما ممر. وكان هناك أعمدة أخرى تقطع الصفّين عرضيًا، على شكل +، بمسافات متساوية. وبين الأعمدة، تلال من الحجارة المحطّمة، وكأنها دُمّرت بمطرقة عملاقة. أظنها كانت منازل أو أسقفًا في الأصل. الأرضية كانت مرصوفة بشكل مربّع، لكنها الآن متشققة ومُحطَّمة بمعظمها. ونبتت نباتات سوداء بين الشقوق. لم يكن هناك أحد... لكنني كنت أسمع خطوات أقدام. لم أعد أسمعها الآن، لكنني متأكد أنني سمعتها. كانت خفيفة... كأنها خطوات أطفال يركضون ويلعبون فوق الرخام. كأن هناك عشرين أو ثلاثين طفلًا يلاحق بعضهم بعضًا..."
أزاح نوبليون يده ببطء عن عيني بوريس، فنظر إليه الفتى، وكان نوبليون جاثيًا على ركبة واحدة، وعيناه متسعتان في ذهول مطلق.
لم يستطع بوريس أن يعرف إن كان ذاك الذهول من الفرح، أم من الحيرة، أم من الرهبة.
قال نوبليون: "ناولوني إياها."
ومدّ يده من فوق كتف بوريس، فأُعطي شيئًا ما، وضعه بعدها بين يدي الفتى، كانت ميدالية فضية صغيرة، ناعمة تمامًا من الجانبين، لا تحمل أي نقش.
وكان فيها ثقب صغير، يُحتمل أنه مخصّص لتعليقها بخيط، لكن لم يكن معها خيط، تنهد نوبليون بقلق قبل أن ينظر مجددًا إلى بوريس.
قال بوريس مندهشًا: "هـا...؟"
لقد اختفى كل ما رآه قبل قليل، لم يعد أمامه سوى أشجار عارية من الأوراق بسبب الشتاء، ومنازل حجرية منخفضة ترتفع من مداخنها أعمدة دخان.
وكان هناك أناس يتنقلون ببساطة في يومهم، لا شيء على الأرض سوى التراب، ولا أثر للأعمدة على الإطلاق، وبالطبع، لم تكن هناك أي تلال حجرية أيضًا.
وضع نوبليون يده على كتف بوريس، بينما وقف الأخير مذهولًا.
قال نوبليون: "كل ما رأيته الآن... احرص على أن تحفظه في ذاكرتك جيدًا."
ظلّ بوريس مذهولًا مما جرى، ولم يدرك حتى أن الرجال ذوي الأوشحة السوداء أضحوا ينظرون إليه بنظرة مغايرة عمّا سبق.
تذكّر بوريس المشهد الذي أَرَاه إياه إيسيلدر عبر لونيت أثناء تجوالهما في القرية الهادئة.
كان هناك شبهٌ غامض، مع أن الجبال التي خلف القرية كانت رمادية بلون الثلج الذائب، لأن الشتاء لم يكن قد حلّ بعد بالكامل.
وفي طريقهم إلى وسط القرية، لفت انتباه بوريس مبنى مستطيل الشكل، رمش عدة مرات، إذ بدأت الريبة تتسلل إليه.
الأعمدة التي تحدّ المبنى بدت مألوفة بشكل مخيف—تشبه إلى حدٍّ كبير الأعمدة التي رآها في ذلك المشهد الغريب، سواء كان وهمًا أو هلوسة.
الفارق الأكبر ربما هو أن الأعمدة المحيطة بالمبنى كانت أقصر بنصف ارتفاع تلك التي رآها سابقًا.
وكان خلف الأعمدة جدار رُسمت عليه لوحة جدارية معقدة للغاية، إلى حد كاد أن يُدوّخ عقل بوريس، كانت تلك أول زينة حقيقية يراها في القرية، ولم تكن تُشبه أجواءها الهادئة أبدًا.
دخلوا المبنى المستطيل، فانفتحت أمامهم قاعة عريضة ما إن تجاوزوا الأبواب، لم تكن هناك أي طاولات أو مقاعد.
بل، كانت هناك سبع دوائر مرسومة على الأرض، تتكوّن كل واحدة منها من أشكال هندسية من مثلثات زرقاء وبيض بيضاوية حمراء، وقد رُتبت الدوائر معًا لتُشكّل دائرة كبرى.
وكان هناك أناس يجلسون على وسائد فوق اثنتين من تلك الدوائر.
وما إن دخل الجمع حتى رفع أولهم رأسه وقال: "ليُنعم على المرتحل بالسكينة!" ثم وقف من مكانه، وتبعه الآخر ببطء.
قال الآخر: "حتى ذبابة مايو لا بد لها من العودة إلى الورقة التي كُتب لها أن تموت فوقها، نُهنئك بعودتك، يا وصي السيف."
كان الاثنان يخاطبان نوبليون نفسه، فتقدّم إليهما واحتضنهما ثلاث مرّات لكل واحدٍ منهما، بينما بقي بوريس وبقية المجموعة ينتظرون قرب الباب.
كان الرجل الذي وقف أولًا نحيفًا في الأربعين من عمره، أصلع الرأس، غليظ الشفتين، وله ميدالية ذهبية ضخمة تتدلّى من عنقه، تفوق حجم كفّيه.
أما الثانية فكانت امرأة تبدو أكبر منه سنًا بكثير، وبجوارها عصًا طويلة تتكئ عليها، تعلوها قطعة كريستالية منحوتة على هيئة هلال، بحجم يساوي ثلاث قبضات تقريبًا.
قال نوبليون: "يغمرني السرور لرؤيتكما من جديد."
ردّت المرأة بصوت فيه حيوية تفوق ما يُفترض بمن في عمرها: "أتراك تعني ما تقول فعلًا؟" و قد تخلل كلامها القليل من المزاح و الجدّ ، فانحنى نوبليون برأسه دون أن يجيب.
تنهّد الرجل ذو الميدالية وقال: "كفى، لا أريد أن أراه يرحل من جديد. سعيد بعودتك، يا وصي السيف."
ردّ نوبليون قائلًا: "وأنت أيضاً تبدو بخير، يا وصي الميدالية." ثم التفت نحو بوريس. فتابعت الأعين الثلاثة النظر إليه.
تحدثت المرأة أولًا: "هل هذا هو الفتى؟ اقترب، يا صغيري."
فتقدّم بوريس وحده، وانحنى من خصره وقال: "أنا بوريس جِينيمان."
قال الرجل ذو الميدالية متأففًا: "أوه..."
فقالت المرأة: "يبدو أننا سنضطر لإعطائك اسمًا جديدًا، يا صغيري. فاسمك الحالي تفوح منه رائحة القارّة."
لم يكن بوريس يعرف إن كانت القارّة فعلًا تُصدر رائحة، لكنه فهم من لهجتهما أنهما لا يستسيغان الاسم كثيرًا.
تابعت المرأة: "سمعت من إينيوس أنك خضعت لتقليد تمهيدي لتصير من أهل الجُزُر. علينا أن نُعدّ لك مراسم رسمية قريبًا."
ثم أومأت برأسها، وقالت بلطف: "اسمي ديسبوينا، لكن الجميع ينادونني ديسي، ويمكنك مناداتي بذلك أيضًا."
ثم حدّقت ديسبوينا طويلًا في الرجل ذو الميدالية.
قال: "أنا تيسموفولوس، وصي الميدالية، وأحد حرّاس الدوائر السبع. سأراقب سلوكك عن كثب من الآن فصاعدًا."
أبتسمت ديسبوينا وأضافت: "نادِاه فحسب بالوصي تيسمو، اسمه طويل جدًا، ولو نطقتَه في كل مرة، ستنفد أنفاسك قبل أن تنهي عمرك."
كاد بوريس أن يضحك، رغم كل شيء، لكنه تراجع حين رأى كيف أن تيسموفولوس عبس فورًا وحرّف وجهه.
كانت ديسبوينا هي وصية العصا (هيئة الأركان)، وتيسموفولوس هو وصي الميدالية، ونوبليون—ذلك الذي عرفه بوريس طويلًا باسم إيسيلدر—هو وصي السيف.
وكان واضحًا أنهم من من علية الشأن في الجُزُر، نظر بوريس إلى نوبليون، الذي ربط شعره الطويل في ذيل حصان مرتفع، بنظرة مختلفة.
لم يتغير شكله الخارجي، لكنّ هيبته أصبحت مختلفة تمامًا.
ثم استدارت ديسبوينا إلى الصبي وكأنها اتخذت قرارًا، فقالت: "حسنًا. سأمنحك اسمًا جديدًا، يا صغيري ، لا تعرّف بنفسك لأيّ أحد حتى أخبرك به، اسمك القديم لم يعد يعني شيئًا. لا تنسَ هذا. من الآن، أنت الغافل عن نفسه أو الفتى الجاهل..".
تلك الليلة، رأى بوريس في نومه قصر جِينيمان يحترق، لقد قد مضى زمن طويل منذ رأى ذلك المشهد في حلمه آخر مرة.
في تلك الليلة، لم يحترق القصر حقًا، بل تآكل بفعل سُمّ الكريجال، ومع ذلك، لطالما احترق في أحلامه.
النوافذ، والأبواب، والجدران، كانت جميعًا سوداء محترقة، والنيران القرمزية الداكنة تغلّف المبنى بأكمله وهو على وشك السقوط.
لم يكن أحدٌ هناك سواه...وقف بوريس وحيدًا وسط خوف بدائي فطري.
لم يعلم إن كان حزينًا لأن القصر يتداعى، أم خائفًا لأنه وحيد، أم موجوعًا لفقدان شيء لا يتذكّره.
لكن المشاعر التي ملأت قلبه كانت مظلمة، كثيفة، ولزجة، كأنها شوكولاتة ذائبة.
ثم سمع صوتًا يتردد فجأة في داخله، أو لعله ناداه من الخارج، ارتطم الصوت بأذنيه، أو ربما أدقّ أن نقول، بجدران قلبه.
"يمكنك الهرب، لكنني سأطاردك أينما فررت، أينما ذهبت و مهما طالت المدة للحاق بك"
ثم تحوّل القصر إلى يدٍ هائلة مظلّلة، امتدت نحوه، و تداخلت النيران في الظلام، وغمرت الظلال كل شيء.
وظلّ بوريس واقفًا، غير قادر حتى على الهرب، يحدّق إلى بقايا القصر، الذي لم يعد سوى نقطة حمراء بعيدة.
لم يعرف إن كان من يطارده هو المسؤولية، أم الذنب، أم الحب، أم الكراهية، كل ما استطاع فعله هو أن يظل واقفًا، منتظرًا حتى يلحق به.