"هنا! ألا تستطيع الوصول؟ أسرع!"

شعر كأنّه يسمع زقزقة العصافير، أحسّ الفتى الجاهل بأشعة الشمس على عينيه حين استيقظ.

"أريدها! أعدها إلي!"

"سأفعل إن أمسكت بي! مع أنّك تحتاج لأن تكون عبقريًا لتقدر على ذلك!"

في البداية، ظنّ الفتى الجاهل أن أطفال الأوهام، أولئك الذين سمع خطواتهم قبل أيام، قد شرعوا بالكلام أخيرًا.

لكن حين تلاشى النعاس منه، أدرك أن الأصوات تنبع من خلف النافذة، بعضها مرح، و البعض الآخر مفعمة بالحزن.

"لا… أرجوك أعدها. لست عبقريًا…"

"لهذا السبب أنت مجرد جرذ أحمق، هههاهاها!"

سقط غطاؤه أرضًا عندما نهض من السرير، كانت النافذة بجانبه، والنور ينساب منها لأنّها كانت مواربة قليلًا.

نظر الفتى الجاهل إلى ما حوله قبل أن يتلصص من النافذة، أين هو الآن؟

كانت عوارض الخشب غير متناسقة فوق رأسه. والباب، المصنوع من الخشب كذلك، منخفضٌ بدرجة تجبره على الانحناء عند العبور، وعلى الأرض حصيرٌ من القش، وفي الزاوية جرة من الفخار.

وحينها بدأ يتذكّر شيئًا فشيئًا.

هذا بيت ديسبوينا، وصيّة العصا، لقد رافقها إلى هنا بالأمس، ومنذ ذلك الحين لم يغادر الغرفة.

تناول طعامه فيها، ونام فيها أيضًا، فقد أخبرته ديسبوينا بأن من الأفضل ألا يلتقي أحدًا قبل منحه اسمًا جديدًا.

ومن خلال النافذة، أبصر ثلاثة أولاد يفرّون من رابعٍ، لم يكونوا يفرّون حقًا، بل بدا وكأنهم يسخرون منه عمدًا.

كانوا يتقاذفون كيسًا جلديًا ممزقًا فيما بينهم كلما اقترب الفتى الرابع ليمسك بأحدهم.

وكان الفتى الرابع أقصر منهم جميعًا، أضعف بنيانًا، لا أمل له في اللحاق بهم. وكانت الدموع تلمع في عينيه المتردّدتين.

"أحمق! أيها الجرذ الأبله!"

"إنه بَكاء أيضًا! هيه، هنا!"

سمع الفتى الجاهل صفير الكيس الجلدي يخترق الهواء مجددًا.

"أمسك به!" نادى أحد الأولاد، وكان صوته يأتي من أسفل النافذة مباشرة، "هيا، تعال وامسكني!"

حاول الفتى الرابع، ذاك الذي كانوا يلقبونه بغوفر [الجرذ]، أن يمسك بالصبي الأقرب إليه، لكنه تعثّر بقطعة حطب ملقاة على الأرض، وسقط على وجهه. تدحرج قليلًا، ثم نهض من جديد، وأمسك بساق أحدهم بقوة.

"أعدها لي!"

"تِف!"

ألقى الفتى، الذي أمسك به غوفر¹، الكيس إلى أحد رفاقه، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل بدأ يركله بساقه الأخرى بلا توقف.

فتكوّر الفتى المسكين كالقنفذ، يصدر أنينًا خافتًا، لكن الركلات لم تتوقف، شعر الفتى الجاهل بأنّ ما يحدث لم يعد مجرد مزاح بين صبية. لم يكن هناك أيّ رحمة.

وحين توقفت الركلات أخيرًا، جلس غوفر مطأطئًا رأسه ، والدموع تنهمر على وجنتيه، متوسلًا: "ألم تكتفوا من السخرية؟ أرجوكم… أرجعوها إلي. أتوسل إليكم"

لم يسألهم لِمَ يضربونه، ولم يغضب منهم، لم يكونوا أصدقاءه، على الأغلب، لكنهم أيضًا لم يكونوا أعداءً لدودين.

ما طبيعة هذه العلاقة؟ تساءل الفتى الجاهل.

لكن الأولاد الآخرين لم يتوقفوا.

"لا مجال، لم أشبع من هذه اللعبة بعد" قال الفتى الذي كان يحمل الكيس وهو يبادل رفاقه النظرات والضحكات.

وما إن هزّوا رؤوسهم موافقة، حتى فتح الكيس وسكب محتوياته على الأرض.

تساقط الحصى مُحدِثًا طقطقة.

لم يكن الفتى الجاهل قريبًا بما يكفي ليرى ما انسكب، لكن الصوت كان صوت حصى تتدحرج، ثمّ اقترب أحدها من النافذة بما يكفي ليرى بريقه الشفاف يلمع تحت الشمس.

انتفض غوفر، وبدأ يركض خلف محتويات الكيس متجاهلًا ألمه، محاولاً جمع الحصى والدموع تسبق يديه.

لكن أحد الأولاد باغته وركل حجرًا بعيدًا، طار في الهواء، واستقر في الغابة، فصفّر الفتى وصفّق وهو يعود لرفاقه.

"ركلة رائعة، أليس كذلك؟"

لم يكن رفاقه بحاجة إلى دعوة، انطلقوا بدورهم يركلون الحصى الواحد تلو الآخر، والحجر تلو الآخر، و حاول غوفر جاهدًا أن يجمعها بيديه الصغيرتين، عاجزًا عن إيقافهم، بدا كجرو ضال يطارده صبيان القرية ويقذفونه بالحجارة.

امتلأ الفتى الجاهل غضبًا، وقفز من سريره، وقد أمسك بعباءته في حركة واحدة، وهمّ بالخروج… لكنه توقّف فجأة.

'هل يجوز لي أن أتدخّل؟'

فقد أوصته ديسبوينا بصرامة ألا يواجه أحدًا قبل منحه الاسم الجديد.

لكنه نسي كل ما قيل له حين سمع صرخات غوفر تتسلّل عبر النافذة، رفع يده ليحجب أشعة الشمس، وكان كل شيء واضحًا أمامه من حيث يقف.

قال غوفر: "أنتم تتمادون...! ما تفعلونه قاسٍ أكثر مما ينبغي... أترون أن تدمير ما يُعدُّ ثمينًا للغير أمرٌ مسلٍّ؟ كيف تجرؤون على إيذاء الأشياء التي تهمني؟"

فردّ أحد الفتية الآخرين: "اللوم يقع عليك لأنك لم تستطع حمايتها، من الطبيعي أن شخصًا ضعيفًا وبائسًا مثلك لا يمكنه الاحتفاظ بشيء جميل."

ثم أضاف آخر: "أما تتذكر ما قالته ملكة القمر؟ لا ينبغي أن تملك شيئًا إن لم تكن تملك القوة لحمايته."

وعقّب الثالث قائلًا: "ثم إننا ما كنا لنأخذ منك شيئًا لو لم تحاول إخفاءه منذ البداية، أليس كذلك؟ في المرة القادمة حين تحصل على شيء جميل، سلّمه لنا مباشرة، كي لا نضطر إلى التنمّر عليك."

وما إن أنهى كلامه، حتى قال الفتى الجاهل: "إذًا، من الطبيعي أن تُؤخذ منكم أشياؤكم أيضًا إن التقيتم بمن هو أقوى منكم، أليس كذلك؟"

استدار الفتية الثلاثة نحو الباب في آنٍ واحد، اثنان منهم أمالا رأسيهما باستغراب حين رأيا وجهًا غير مألوف، بينما انفجر الثالث غيظًا.

قال أحدهم: "انصرف إن لم تُرِد المتاعب!"

ثم تساءل آخر: "انتظر، من هذا؟ هل يعرفه أحد؟"

قال ثالثهم: "أنا لا. وكيف لي أن أعرفه؟"

ثم أردف الرابع بدهشة: "كيف يمكن أن يكون هناك فتى في الجزر لا نعرفه؟"

عندها بدا أن الفتى الثالث قد أدرك الحقيقة فقال: "آه، أنت إذًا. لا بد أنك الفتى الذي وصل إلى الجُزر البارحة، أليس كذلك؟ دخيل! جئت من القارّة، تلك التي لا يسكنها سوى الحمقى والضعفاء، أليس كذلك؟"

لم يردّ الفتى الجاهل، بل أخرج رباط الشعر من جيبه—وقد كان قد فكّه أثناء النوم—وربط شعره مجددًا، ثم أجاب ببطء: "لا يهم من أين أتيت. لكن ما قلته الآن يتوافق مع منطقكم، أليس كذلك؟"

تبادل الفتية النظرات مجددًا، ثم قال أحدهم متهكمًا: "يا لك من فضولي! حسنًا، معك حق! لكن إن أردت أن تثبت أنك أقوى منا، فعليك أن تواجهنا نحن الثلاثة معًا، أتعلم لما؟ لأننا نمتلك شيئًا يُدعى العمل الجماعي، وأنت لا تملكه!"

تألقت أعين الفتيين الأولين حماسة إثر كلمات رفيقهما، وقد وجدوا لهم تسلية جديدة.

صاح أحدهم: "طبعًا! هيا تقدّم إن كنت تجرؤ! سنلقّنك درسًا قاسيًا!"

كانوا قد سمعوا في صباح اليوم أن فتى من سنّهم قد وصل من القارة، ولم يتوقّعوا أن يصادفوه بهذه السرعة، لكنهم أعجبوا بفكرة أن يكونوا أول من يضعه في مكانه.

وبالرغم من أنهم لم يكونوا سذّجًا، فقد لاحظوا أن القادم الجديد وإن كان نحيفًا، إلا أن جسده متماسك ونظرته حادّة لا تخطئها العين، لكنهم كانوا ثلاثة، وهو واحد، ولا شك في أنهم رأوا النصر في صفهم.

أما الفتى الجاهل، فلم يسمح لاستفزازهم أن ينال منه، قال بهدوء و ملوحاً بطرف عباءته: "أنتم محقون."

ما من شيء اسمه العدالة في صراع القوى، وهذا ما تعلّمه عنوة على مدى السنوات القليلة الماضية.

فلا الكبار، ولا النبلاء الأقوياء، ولا المحاربون المجربون، كانوا ليرأفوا بصغير ضعيف.

وربما كان الفتية هؤلاء على حق، فوفق منطقهم، ربما كان مجرد أحمقٍ يتدخل في شجار لا يعنيه.

لكنّه لم يستطع أن يتجاهل أثر اليأس الذي انكسر في صوت ذلك الفتى المسكين—صوتٌ كان فيه صدى من ذاته قبل عامين.

لم يكن من الغريب أن يُقاسى الضعفاء تبعات ضعفهم، لكن الفتى الجاهل كان قد نال، في يوم ما، حنان مَن قاتل من أجله بكل ما أوتي من قوة.

فلِمَ لا يكون هو الآن ذلك الشخص من أجل هذا الفتى البائس الذي أمامه؟

لم يدرك الفتى الجاهل ذلك بعد، لكن هذه كانت أول مرة في حياته ينبض فيها قلبه حقًا برغبة صادقة في حماية من هو أضعف منه.

قال غوفر بتردّد: "أ-أنا... لا ينبغي لك أن تعرّض نفسك للخطر من أجل شخص مثلي..."

فردّ عليه الفتى الجاهل دون أن يلتفت إليه حتى: "هذا لا يعنيك، أسرع فحسب واستعدّ أشياءك."

كان يظن أنه لا يريد أبدًا أن يكون في موضع من يحمل مشاعر جارفة كهذه لأحد، كما كان يظنّها تجاه أخيه، ولكن...

اندفع نحوه أحد الفتيان، فتقدّم خطوة، وأمسكه من ياقة ثوبه، ودفعه نحو الآخر.

لقد أمضى الفتى الجاهل سنوات في التدريب على استخدام السيف الثقيل، وكان من القوة بما لا يُقارن مع أقرانه.

ارتطم الفتيان ببعضهما وسقطا، لكنهما سرعان ما نهضا محاولين الرد، انتظر الفتى الجاهل اندفاع الثالث، ثم سدّد له ركلة في فخذه، وأتبعها بأخرى في بطنه حين ترنّح، ثم أطاح بالاثنين الآخرين من جديد بضربات بكفيه ومرفقيه.

ما حدث لم يكن نزالًا يُذكر، إذ لم يكن لهم أدنى حظ في مجابهته، فهُم، في نهاية المطاف، لا يعدون عن كونهم أطفالًا.

لعلهم اشتبكوا سابقًا في لهو عابر، لكنهم لم يتلقّوا تدريبًا قتاليًّا حقيقيًّا، أما الفتى الجاهل، فقد تعلّم شتى فنون القتال خلال أسفاره مع الوصي نوبليون.

صحيح أنه لم يبلغ بعدُ مستوى مواجهة الكبار المَهرة، لكن أقرانه لم يقتربوا حتى من سرعة بديهته التي صقلتها التجربة.

غير أن الموقف، الذي ظنّ أنه سينتهي سريعًا، انقلب على غير ما توقّع.

إذ لاحظ الفتيان، الذين كانوا على وشك مهاجمته مجددًا، شيئًا يتدلّى عند خصره حين تمايل رداؤه مع الريح.

صرخ أحدهم: "سيف!"

وقال آخر: "إنه يحمل سيفًا!"

ساد التوتر، وتبدّلت النظرات إلى عدائية واضحة لم تكن موجودة من قبل.

هتف أحدهم: "لا يُسمح لأحد بحمل السيف في الجزر إلا بإذن من وصي السيف!" وكان جادًّا في غضبه.

تابع آخر قائلًا: "ستقع في ورطة حقيقية إن تجولت بسيف دون إذن، ألم تكن تعلم؟ لقد انتهى أمرك!"

قال الثالث: "أسرعوا، أخبروا الكبار! أخبروا الأوصياء!"

لقد وجدوا العذر المنشود...إذ جُرح كبرياؤهم حين اكتشفوا أنهم لا يقدرون على مجابهة القادم من القارّة، لكن أحدًا لم يرد أن يتراجع أولًا فيوصم بالجبن.

لذا، حين أتيحت لهم هذه الحيلة، تشبّثوا بها وبدأوا بالتراجع ببطء، ثم ما لبثوا أن فرّوا من المكان.

ولم يتبقَ سوى الفتى الذي لم يفهم ما حدث، و الحصى الصغيرة المبعثرة، و غوفر الذي كان يحدّق في صاحبه من موضعه على الأرض بذهول.

ثم نهض الفتى القارض بتردّد، يخفي خوفه قدر ما استطاع، وقال:

"أ-أنا أويزيس... ومعناه البؤس."

تفاجأ الفتى الجاهل لأمرين.

أولًا، لم يعرف بمَ يرد، لأنه ببساطة لم يكن يملك اسمًا يُعرِّف به نفسه.

وثانيًا، لأنه صُدم من المعنى الكئيب لهذا الاسم.

فليس من عادة أهل القارة أن يُطلقوا على أبنائهم أسماءً تنطوي على البؤس، كيف لأب أو أم يتمنى السعادة لولده أن يختار له اسمًا كهذا؟ هل هذا اسمه حقًا؟

غرق الفتى الجاهل في التفكير، غير مدرك أن أويزيس لم يخبره بهذا المعنى عبثًا؛ إذ إن كشف المعنى الحقيقي للاسم في اللقاء الأول في الجزر، يُعدّ دلالة على ثقة استثنائية.

سأله الفتى الجاهل، دون قصد للتطفل: "من الذي سمّاك بذلك؟"

⊹¹: كلمة "جرذ" هي "Gopher" بالانجليزية و بما أنهم ينعتونه بذلك قررت ترك الإسم كما هو في بعض السياقات كي يتناسب مع النص.

2025/07/10 · 4 مشاهدة · 1629 كلمة
Nouf
نادي الروايات - 2025