حبس توفي أنفاسه بينما كانت الفأس تندفع نحو ذلك الغريب. الشاب لم يرمش حتى، وتحققت أسوأ مخاوفهم حين أمسك بالنصل وهوا في الهواء بيديه العاريتين، وأوقفه دون أن يتحرك قيد أنملة. ورغم أن فوتو كان أكبر حجمًا منه بعدة مرات، إلا أن الغريب لم يتحرك قط.

اهتز الفأس بين يديه، ثم بدأ يتشقق حتى تحطم، وتطايرت شظاياه. رمق الغريب القطع المتناثرة بدهشة صادقة وهو يتمتم:

"أوه؟ ما هذا؟ لم أظن أنني قوي بما يكفي لتحطيم الحديد بيدي. على الأقل، الكتب لم تشر إلى ذلك. هل البشر في هذا العالم أقوى من المتوسط؟ باستثناء تفوقهم الجسدي الناتج عن العمل البدني، مما يمنحهم بعض القوة الإضافية... لكن لا أظن أن ذلك كافٍ لإحداث فرق كهذا."

فرك الفتى ذقنه بتفكير، ثم انحنى والتقط قطعة من الفأس المكسور عن الأرض، وتأملها كما لو كان في عالم آخر. أما فوتو، فقد بقي متجمدًا في مكانه، يحدق بشرود في بقايا المقبض بين يديه.

لكن الرجل لم يبدِ أي اهتمام بهم بعد. سرعان ما عاد ينظر إليهم وابتسم قائلاً بلطف:

"عذرًا، لست عادةً بهذا الغرور أو قلة الذوق حتى أتجاهل أحدهم، لكن ما حدث صدمني حقًا. من أين تحصلون على أسلحتكم؟ ربما المعدن الذي صنعت منه رديء للغاية؟"

كان يتحدث بلطف وابتسامة دافئة تجعلك تظنه ابن الجيران المهذب وليس شخصًا على وشك إنهاء حياتك.

أسقطوا أسلحتهم في الحال، أو ما تبقى منها، في حالة فوتو. وعقل توفي كان يعمل بسرعة جنونية، حتى أن سقوط القوس بدا له وكأنه يحدث ببطء شديد.

هل هذه هي النهاية؟ من سيهتم بأمه؟ من سيهتم بالقرية؟

لم يكن هناك جواب.

ركع الإخوة الثلاثة، وجباههم لامست الأرض. لم يجرؤ توفي على رفع رأسه.

"أرجوك... ارحمنا." قالها، وتبعه شقيقاه.

رد الغريب بصوت هادئ، كأنما يلقي فكرة لا نصًا:

"لماذا يظن الناس أن الركوع سيغير مصيرهم؟"

كانت كلماته كدلو ماءٍ مثلج على رؤوسهم. في تلك اللحظة، أدرك توفي أن فرص نجاتهم تلاشت.

تساءل للحظة: هل يمكنهم الهرب؟ لكنه عرف الجواب. لا أحد يهرب من شخص كهذا.

لم يكن لهم من حل، مصيرهم صار في يد هذا الغريب، ولا شيء يمكنهم فعله.

قال الرجل، بنبرة لا تخلو من الأسف، لكن عينيه الباردتين كانتا تنطقان بالحقيقة:

"أنتم مجرد حثالة لا تستحقون الشفقة. جزء مني يفكر في استخدامكم كأول تجربة لشعور القتل . عاجلًا أم آجلًا، سأضطر لذلك على اي حال ، فهذا العالم من هذا النوع. ومن أفضل من قطاع طرق قتلة، لن يفتقدهم أحد."

هذه هي النهاية. كان توفي يعلم أنهم سيموتون.

عرف توفي حينها أن موتهم مسألة وقت. لم يكن خائفًا بقدر ما كان حزينًا. الحياة لم تكن سهلة، ولم يملك فيها الكثير، لكنه لم يكن يتمنى أن تنتهي هكذا.

ألمه الحقيقي لم يكن موته، بل أنه جر شقيقيه إلى هذا الطريق. كان عليه حمايتهما، لا أن يضعهم في هذا الموقف.

حتى لو ضحى بنفسه، فلن يمنحهم فرصة. خصمهم لم يكن شخصًا عاديًا. ربما لم يكن بشرًا أصلًا.

تمتم:

"لم نقتل أحدًا قط."

قالها بصوت خافت، لا للدفاع، بل كاعتراف أخير. نعم، سرقوا، لكنهم لم يؤذوا أحدً قط عن عمد. ربما لم تكن حياتهم شريفة، لكنها لم تكن شريرة أيضا.

نظر إليه الغريب وقال بتفكير:

"لم تقتلوا؟ هذا يغير المعادلة. حتى أنا لا أرى القتل بسبب السرقة أمرًا مبررًا. لكن شقيقك هاجمني دون تردد. لو كنت إنسانًا عاديًا، لكنت ميتًا. ما تفسيرك لذالك ؟"

توفي لم يكن يعرف إن كان الرجل جادًا أم يسخر، لكنه تشبث بأي أمل وقال:

"أخي تصرف بدافع الخوف. لطالما كان متهورًا حين يشعر أن هناك خطرًا علينا. حاول حمايتنا فقط."

قال الغريب:

"لا داعي لأن تناديني بـ'سيدي'، الأمر يربكني." ثم التفت إلى فوتو وسأله: "هل كنت تحاول حمايتهم فعلًا؟"

أومأ فوتو بصمت.

تابع الغريب:

"هل يفقد أعصابه بسهولة؟"

"لا، أبدًا!" رد توفي بسرعة، ثم عض على شفتيه نادمًا.

عبس الغريب قليلًا، ثم تنهد وقال:

"يبدو أنني تسرعت. سقطت في فخ الحكم السريع، وكأن اعتبار أحدهم عدوًا يعني بالضرورة شيطنته."

لم يجد توفي ما يقوله. واختار الصمت. وحين رأى شقيقيه يهمان بالكلام، أشار لهما بالتوقف. تعلم أخيرًا أن بعض اللحظات، ينقذ فيها الصمت ما لا ينقذه الكلام.

همهم الشاب، وكان صوته أشبه بوقع حاصد الأرواح وهوا يقترب منهم: "هل هناك من سيفتقدكم إن اختفيتم؟ احذروا الكذب علي. لدي تقنية تكشف الكذب. وإن كشف كذب واحد، فسأقتلكم جميعًا."

أجاب توفي بحذر: "ن..نعم."

هل كانت هناك حقًا تقنية تكشف الكذب؟ لم يكن يعلم. لكن لم يجد سببًا يجعل هذا الرجل يكذب بشأن أمر كهذا.

وقبل أن يفتح فمه ليضيف شيئًا، اختفى الشاب من مكانه، ولم ير توفي سوى ظلًا باهتًا. ثم شعر بضربة خفيفة في جبهته، تلتها ومضة خلفه.

مد يده إلى موضع الألم الخفيف، ليكتشف أنه قد تعرض لصفعة مؤلمة، وتبعه شقيقاه بذات الحركة، ما يعني أن الأمر ذاته حدث لهما. لقد لمسهم جميعًا قبل أن يتمكن أحد منهم من الحركة.

قال الرجل، وهو يبتسم ابتسامة خفيفة لا تطمئن: "لقد وضعت عليكم للتو لعنة. واحدة ستؤدي إلى نهايتكم بأساليب مرعبة إن قمتم بأي فعل شرير."

ثم تابع، وقد ازدادت ابتسامته عمقًا: "صدقوني، الموت لن يكون سريعًا. لست شخصًا ساديًا، لكن من ابتكر هذه التقنية كان كذلك بامتياز. تخيلوا؟ لقد كان يعرف بالقديس في زمانه!"

تلعثم توفي، وقد أدرك فجأة ضخامة ما يواجهونه: "ماذا… ماذا تريد منا؟"

لم يكن قد تخيل وجود تقنيات كهذه من قبل. ومع أنه نشأ في قرية معزولة، بدأ لتوه يفهم كم هذا العالم أوسع وأعقد مما كان يظن.

لكن… ما خياره؟ لا يملك سوى الثقة بهذا الغريب. شخص قادر على قتلهم قبل أن يرمشوا، فلماذا يكذب عليهم؟

أجاب الشاب، بصوت لا يقبل الجدل: "أريد أن ترشدوني إلى قريتكم."

وقف توفي بسرعة، قائلًا: "نعم، سيدي أعني، من هذا الطريق ."

وقف شقيقاه خلفه، وساروا معًا مبتعدين عن الطريق الرئيسي نحو عمق الغابة، يتنقلون بين الأشجار والأدغال ومسارات خفية لا يراها سوى من نشأ في هذا المكان.

لقد جابوا هذه الغابات منذ صغرهم، يعرفونها ككف أيديهم. كانوا يعلمون أماكن الخطر، حيث تقطن الوحوش والكائنات الغريبة. وفي لحظة، خطرت في ذهن توفي فكرة… ماذا لو قاد هذا الشاب إلى أحد تلك الأماكن المميتة؟

لكن... أيا كان ما سيفعله، فالنهاية واحدة. إن تغلب الوحش على الغريب، فسيكون دورهم التالي. وإن انتصر الغريب، فلن يتركهم أحياء على الأرجح.

كان عليه أن يواجه الحقيقة كما هي. ما رآه بعينيه لا يمكن إنكاره. الرجل لا يبدو متوحشًا، ولا ساديًا، رغم تهديده الصريح. بدا مثلهم، شخص مجبر على اتخاذ قرارات قاسية في عالم لا يرحم.

قال الرجل بصوت هادئ، وكأنه يسرد واقعة لا تخصه:

"أنتم محظوظون فعلًا. لو صادفتم مزارعين آخرين، لما كنتم هنا الآن. أعرف من يذبحون عائلات بأكملها لأسباب تافهة. معظم من يعبر هذا الطريق في نفس قوتي وأعلى ... وكان حظكم أن التقيتم بي أنا."

تردد توفي قليلًا قبل أن يجيب بحذر: "نحن… لم نبدأ إلا منذ أقل من شهر. وأنت سادس شخص نحاول سرقته."

رد الشاب بإيماءة متفهمة: "إذن أنتم محظوظون أكثر مما تظنون. ما زالت هناك فرصة ألا تكونوا قد أغضبتم عائلة أحدهم أو شيئًا من هذا القبيل."

ثم تنهد، كمن يتذكر أيامه: "أفهم جيدًا كيف تكون الحياة صعبة. قبل أن أصبح مزارعًا، كنت مجرد عامل عادي. ربما يشبه عملي السابق عمل الكاتب، لذا أتصور أن العمل في الحقول كان أشد صعوبة."

أومأ توفي، وتوقف فجأة في مكانه، متمتمًا: "لم يكن أمامنا خيار بعد شتاء قاسٍ كهذا وذالك الوباء اللعين …"

ثم اتسعت عيناه. ماذا قال للتو؟ لماذا يتحدث إلى هذا الرجل كما لو كان صديقًا؟ الرجل هددهم بالموت قبل دقائق معدودة فقط!

ابتلع ريقه ونظر إلى الشاب، يدعو كل أسلافه ألا يغضب.

ولحسن حظه، استمر الشاب في المشي كأن شيئًا لم يحدث.

بعد مسافة ساعات من المشي ، وصلوا إلى القرية.

كانت بيوت القرية البسيطة، المبنية من الطين والقش، مبعثرة على سفح الجبل، تلتف حول نهر صغير كأنها تتمسك بالحياة بأطراف أصابعها. عدد سكانها لم يتجاوز المئة، وكل عام يأخذ شيئًا منهم—إما بأنياب الوحوش التي تهاجم في الظلام، أو بخطوات الشباب المغادرين إلى مدنٍ بعيدة بحثًا عن حياة لم يجدوها هنا.

حاول توفي الهجرة ، والاستقرار في المدينة لكن الرحيل يحتاج مالًا، والمال يحتاج مهارة، وهو لا يملك هذا ولا ذاك. كل باب طرقه في وجده موصدًا. وفي النهاية ، عاد خائبًا محطمًا. المدينة لم تر فيه سوى فلاح جاهل لا يصلح حتى لحمل الأحجار في الورش.

كانت القرية تموت ببطء، وتوفي لم يكن سوى واحدًا من أبنائها العالقين بين رغبة في الهرب وواقع لا يرحم.

وهم يقتربون من بيتهم، نظر توفي إلى وجوه أهل القرية. كل ما تمناه هو ألا ينزل هذا المزارع غضبه على الأبرياء.

نادى أوفتو، وهو لا يزال ممسكًا برمحه: "أمي، لقد عدنا!"

خرجت أمهما العجوز من الكوخ، تستند إلى عصاها الخشبية، وابتسامتها المألوفة تنير وجهها المتعب: "كيف كانت رحلتكم؟ هل اصطدتم شيئًا؟"

ثم وقعت عيناها على الشاب، فسألت ببساطة أمومية: "وهذا؟ أحد أصدقائكم الجدد؟"

شعر توفي بعقدة في حلقه، وقطرة عرق دافئة سالت على خده. علق في مأزق لا يحسد عليه. والدتهم لا تعرف شيئًا عن أعمالهم المشبوهة، كانت تظن أنهم يذهبون للصيد، ويبيعون الغنائم لتجار عابرين ثم يعودون ببعض المال.

"أمي… نحن…" بدأ توفي، وقلبه مثقل بالذنب.

كيف سيخبرها أنهم، رغم كل تضحياتها في إنشائهم كرجال ، قد لجؤوا إلى قطع الطريق؟

لكن قبل أن يتمكن من قول المزيد، تقدم المزارع الشاب خطوة للأمام.

_________________________

شكرًا لقراءتك روايتي، وأتمنى أن تنال إعجابك. أكتب بشكل مرتجل إلى حد ما، لذا أرجو تنبهي إذا لاحظتم أي خطأ إملائي أو تناقض في النص او جملة ناقصة.....

AMON

2025/04/10 · 112 مشاهدة · 1470 كلمة
AMON
نادي الروايات - 2025