لم تزعجني إصاباتي كثيرًا في الطريق إلى بلدة "العشب الأخضر"، مما أظهر مدى قدرة جسد المزارع على التحمل والتكيف . لكن مجرد رؤية العبوس على وجه "ماو تشي" أعاد الألم من جديد.

قال وهو يزداد عبوسًا:

"لقد سرق شيء من دار المزاد في بلدة العشب الأخضر."

ثم أضاف، وكأن الأمر لم يكن سيئًا بما فيه الكفاية:

"أتريد أن تعرف ما هو الأسوأ من ذلك؟"

كان هذا وحده كافيًا لأجد عذرًا للرحيل فورًا.

"ليس حقا."

"سأخبرك على أية حال ." قالها وهو يهز كتفيه. "طائفة الشمس الملتهبة هي من ترعى المزاد، وهم الآن يضغطون علينا بشدة. أحد شيوخ الطائفة من القسم الداخلي موجود حاليًا في قصر الحاكم، ويقال إنه من مزارعي مرحلة تشكيل النواة ."

كما هو متوقع من حدسي الذي تغذى على قراءة الكثير من روايات الزراعة. كان علي أن أغادر هذا المكان حالًا. آخر شيء أريده هو أن تحوم الشبهات حولي.

لكن قبل أن أستدير وأرحل، أمسك "ماو تشي" بمعصمي، ونظر إلى رفاقه الحراس، ثم قال:

"هل يمكننا الحديث على انفراد؟ لدي رسالة لك من أحد التجار الذين اشتريت منهم شيئًا."

كان بإمكاني بسهولة أن أحرر نفسي منه وأهرب، لكن نظراته الجادة منعتني من ذلك. لم يكن "ماو تشي" من النوع الذي يفعل أمرًا كهذا من دون سبب وجيه. لذا، قررت أن أتبعه.

ابتعدنا قرابة عشرة أمتار عن بقية الحراس، واتكأ على الجدار، ثم تنهد وتلفت حوله ليتأكد من أن لا أحد يسمعنا.

حين صرنا خارج نطاق السمع، قال بصوت خافت:

"حسنًا، ما قلته عن التاجر كان كذبًا. لكن كان لدي ما أريد إبلاغك به."

"وما هو؟"

"صديق مقرب لي يعمل في قصر الحاكم أخبرني أن شيخ طائفة الشمس الملتهبة لم يأت فقط بسبب السرقة من دار المزاد، بل لأنه جاء أيضًا ليحصل على شيء سيساعد حفيده الأكبر في طريق الزراعة."

خفض صوته أكثر وهمس:

"لقد تم اكتشاف منبع تشي في مكان قريب، والعشائر هنا على وشك القتال من أجل امتلاكه. يُقال إن هناك ما يكفي منه ليستحم المرء فيه!"

كان نبع التشي ظاهرة طبيعية يتجمع فيها الـ"تشي" النقي ويتكاثف حتى يتحول إلى سائل. الاستحمام به أو حتى شربه يمنح فوائد عظيمة، خاصة في مرحلة تجميع التشي، ولكنه يفيد كذلك مزارعي مرحلة صقل الجسد بتنقية الشوائب وتعزيز البنية الجسدية، كما يسهل الانتقال إلى مرحلة تجمع التشي.

أحسست بالإغراء، ولكن ذلك كان طمعي يتحدث. الأمر أشبه بمعرفة أن هناك ثروة في خزينة بنك، ولكن لا عجب أن الأمور تسوء دومًا لمن يحاول سرقتها.

كان سيكون الأمر فرصة ذهبية لو كنت بطلًا من أبطال روايات الزراعة الكليشيهية، محصنًا بدرع المؤامرة (الحبكة) . لكن فرصتي في سرقة شيء كهذا من مزارعين في مرحلة تجميع التشي أو ربما حتى تأسيس الأساس تكاد تكون معدومة. ومن ناحية أخرى، فرصتي في الموت مرتفعة بالفعل، وتكاد تكون مؤكدة مع وجود مزارع من مرحلة تشكيل النواة قريبًا.

أستطيع رؤية الإشارات: فتى غريب يكلم الهواء ،جمال يشبه اليشم، كنز سري ظهر فجأة، وعشائر تتوافد من كل حدب وصوب... لا يوجد إلا أمر واحد يمكنني فعله: أن أبتعد عن هنا بأسرع ما يمكن. بدا كل هذا وكأنه قنبلة موقوتة تنتظر الانفجار.

قد يظن البعض أن هذا تفكير جبان أو حتى خرافي مهووس بنظرية المؤامرة ، لكني لم أكن أملك أدنى رغبة في تحدي القدر.

وضعت يدي على كتفه، ونظرت إليه بعينين جادتين:

"شكرًا لك. أنت تعرض نفسك للخطر بإخباري هذه المعلومات، ويعني لي الكثير أنك تبذل جهدك لمساعدتي في سعيي. أنت صديق حقيقي."

لم أكن أكذب، رغم أنني لم أعرف "ماو تشي" لوقت طويل. لكن هذه كانت عالم الزراعة. ربما تتطور الصداقات فيه بسرعة؟

أخرجت كل ما تبقى لي من نقود بعد أن استبدلت العملة الذهبية، ووضعتها في جيبه خفية:

"تأكد أن لا يرى الحراس الآخرون هذا المال، فقد تراودهم أفكار سيئة. ولا تنفقه دفعة واحدة. الناس قد يظنون أنك حصلت عليه من طرق غير مشروعة."

ثم استدرت ولوحت له بيدي قائلًا بصوت عالٍ:

"هاها، ذلك العجوز دائمًا يحاول أن يزوجني بإحدى حفيداته!"

قلت ذلك كي يسمعه الآخرون، وأتبعت جملتي بكلمات لا علاقة لها بما دار بيننا، ثم غادرت بلدة العشب الأخضر.

وأثناء سيري مبتعدًا، خيم على شعور بالقلق. كان الأمر أشبه بوزن غير مرئي جثم على كتفي، كأنك تعمل على مشروع في مكتب لثماني ساعات متواصلة، وتتبعها بساعتين إضافيتين من العمل الانك متأخر عن المستهدف (target ) . جسدي لم يكن منهكًا لتلك الدرجة ، لكن عقلي كان مرهقًا بشدة.

خلافًا للمرة السابقة، لم أسلك الطريق المباشر المؤدي إلى طائفة الشمس الملتهبة، بل اخترت طريقًا دائريًا، متجنبًا مكان الانفجار.

من يدري؟ ربما لا يزال أحدهم يراقب المكان. لا يمكنني المجازفة بالتعرض لهجوم ثالث، خاصة عندما لم أعد أملك أي أوراق مخفية يمكنني الاعتماد عليها.

لحسن الحظ، بدا الطريق الذي سلكته خالياً من المتاعب. كنت أتنقل بخفة من شجرة إلى أخرى، حريصًا على تقليل أي ضجة تصدر عني. وأخيرًا، ظهرت الجدران البيضاء التي تحيط بالجبل العملاق من بعيد.

توقفت وأطلقت زفرة ارتياح.

كانت الريح ناعمة ومنعشة، تداعب وجهي وتحمل معها عبير الأعشاب والأشجار. ومع كل نفس أتنشقه، كانت رئتاي تمتلئان بنقاء هواء الليل، فيبعث النشاط في روحي.

لقد تعلمت درسًا عميقًا خلال هذه الرحلة. الانخراط في المعارك المشحونة بقوى خارقة للطبيعة يحمل سحرًا من نوع ما. ففي النهاية، سحق الأشجار والأجساد بقبضتي له جاذبية خاصة. ومع ذلك، لم يكن أمرًا أستمتع به أو أحبه. ففي كل قتال، كانت قبضة الموت تحوم فوق عنقي كسيف مقصلة، لا يمنعه من السقوط إلا شعرة.

من يدري متى قد يظهر مزارع يفوقني بمرحلتين كاملتين؟ لا يهم مدى قوتي أو مهارتي إو مكري ،سيسحقني بضربة واحدة، ويحولني إلى صلصة دموية .

فجأة، حدثت حركة في العشب، وخرج أرنب وقد انتصبت أذناه. غيرت مساري بسرعة واندفعت نحو ذلك المخلوق الغافل. ورغم أن حواسه التقطت اقترابي، أمسكت به من أذنيه.

بحركة سريعة وحاسمة، لويت عنقه 380 درجة ، فخرجة روحه في لحظة. بالكاد كنت قد أكلت شيئًا أثناء تواجدي خارج الطائفة، والآن وقد سنحت الفرصة، لم أشأ أن أدخل الطائفة ومعدتي خاوية.

فمن يدري ما الذي ينتظرني هناك؟ بعد كل شيء...

كنت ضعيف المعدة عادةً عندما يتعلق الأمر بالدماء والمشاهد المقززة. لكن بعدما قتلت إنسانًا بلكمة اخترقت صدره، بدا قتل الأرنب وسلخه بيدي أمرًا تافهًا. حتى إشعال النار لم يكن صعبًا، مجرد فرك عنيف للعشب الجاف والأغصان حتى انبعث منها لهب صغير.

وبينما كنت أراقب لحم الأرنب المشوي والمغروز على أعواد، أمسكت بقطعة منه والتهمتها في قضمة واحدة. أما القطعة الثانية، الأصغر حجمًا، فقد قدمتها لصديقي الصغير ،السلحفاة التي أخرجت رأسها من جيبي.

"مرحبًا أيها الصغير، هل أنت جائع؟" سألته.

بعكس مزارع مثلي، لم يكن يملك القوة الروحية التي تُمكنه من البقاء نشيطًا لأيام بلا طعام. ومع ذلك، راودني تساؤل مزعج ،هل تأكل السلاحف اللحم أصلًا؟

ولحسن الحظ، التهم الرفيق الصغير قطع اللحم بنهم وكأنها طعام نادر.

هل تأكل السلاحف اللحم؟ لم يكن سؤالًا خطر لي أن أبحث عنه في حياتي السابقة. فعندما أفكر في السلاحف، أتخيلها وهي تقضم الأعشاب أو الجزر أو قشور الأشجار. ولكن الآن، وقد انقطعت عن عالم الإنترنت الشاسع، أدركت كم كانت مثل هذه الأسئلة سهلة في الماضي.

على أي حال، ربما كان أكل السلاحف للحوم ظاهرة فريدة في عالم الزراعة.

بعد تلك الوجبة الخفيفة والطبيعية، ظهرت أخيرًا أسوار طائفة الشمس الملتهبة المهيبة في الأفق. كانت مبانٍ رخامية شامخة، تفوق في صلابتها أي حصون في البلدات المجاورة.

استخرجت شارة الخشب خاصتي، وقبضت عليها بإحكام في راحتي. فبالرغم من عدم ارتدائي الزي الرسمي، كانت الشارة دليلي الوحيد على انتمائي، وحاجزًا يحول دون اتهامي بالتجسس. كان إظهارها للعلن مسألة حياة أو موت، خاصة لو قرر الحراس اتباع مبدأ "اضرب أولًا، واسأل لاحقًا".

في عالم لا تعد فيه وحشية الحراس تصرف لا أخلاقي بل عرفًا مقبولًا، لم يكن بوسعي أن أخاطر.

كلما اقتربت، ازداد وضوح التغيير الذي طرأ منذ آخر مرة رأيت فيها البوابة. في السابق، كان الحراس شبانًا ،ربما تلاميذ في مرحلة جمع التشي من القسم الداخلي للطائفة.

أما الآن، فقد استقبلني شيخين، شاخت رؤوسهما حتى كادت تخلو من الشعر، ما عدا بضع خصلات بيضاء متناثرة. أحدهما كان ذا لحية كثة، والآخر كانت ذقنه مزينة بخصلة طويلة شبيهة بلحية الماعز.

وبحسب معايير عالم الزراعة، كلما بدا الشيخ أكبر وأضعف، كان غالبًا الأقوى.

ركزا نظريهما علي كصقور تترصد فريسة، فوقفت أمامهما وأطبقت قبضتي اليسرى داخل راحتي اليمنى تحيةً.

"أيها الشيوخ المحترمون، أنا التلميذ الخارجي ليو فنغ، أعود الآن من رحلة خارج الطائفة،" أعلنت.

راحا يدققان النظر فيّ بصمت، وكأنهما يدرسان روحي، حتى تكلم الشيخ ذو اللحية الكثة بصوت أجش:

"هل وجدت ما كنت تبحث عنه في الخارج؟"

أي نوع من الأسئلة هذا؟ هل يقصد هدف الرحلة.

"أ-أجل؟" أجبت بتردد، منحنياً باحترام.

تنحنح الشيخ ثم قال بلهجة آمرة ومباغتة:

"حسنًا، أمسكوا به واصحبوه إلى الزنزانات."

ماذا؟!

وقبل أن أستوعب ما يحدث، كان أربعة تلاميذ يرتدون أردية زرقاء قد أحاطوا بي، وسيوفهم موجهة إلى عنقي. لم تلمسني شفراتهم، لكن الهواء وحده حولها كان كافيًا ليصيبني بالقشعريرة.

"أيها الشيوخ المحرمون!" صرخت وأنا ألوح بشارة الخشب خاصتي. بدا الأمر وقحًا، لكن كان علي أن أوضح سوء الفهم . "هذه الشارة تثبت أني مصرح لي بالخروج.... "

لكن الشيخ ذو اللحية لوح بيده بازدراء وقال:

"خذوه."

غمد اثنان من الحراس سيوفهم وأمسكا بذراعي، وانقلب العالم من حولي رأسًا على عقب بينما كنت أُسحب فوق الأسوار، ثم على الطريق نحو وجهة مجهولة، غالبًا زنزانة.

"أيها السادة، من فضلكم، انتظروا لحظة!" احتججت، لكن قبضاتهم كانت كالسلاسل الحديدية، تغوص في جلدي. "لا علاقة لي بأي أمر يحدث! أنا ليو فنغ، تلميذ خارجي في طائفة الشمس الملتهبة! لدي أبناء عم من عشيرة ليو، وهم تلاميذ في القسم الداخلي! يمكنهم تأكيد هويتي!"

"اصمت! الشيوخ يمكنهم سماعنا، حتى من هذا الجانب من الجدار،" قال أحد التلاميذ بحدة، وهو يحدق بي بنظرة باردة كالثلج.

كنت أود الاحتجاج أكثر، لكن النظرة الوحيدة من التلميذين اللذين أبقيا سيوفهما مشرعة كانت كافية لتخرسني.

اللعنة... ما الذي فعلته لأتورط في هذه المعمعة؟!.

--------------------

----------------

AMON: شكرًا لقرأت روايتي. لا تتردد في مشاركة رأيك عن الفصل سواء بنقد او نصيحة، أو "هممم" غامضة ،أنا أقرأ كل التعليقات وأتفاعل معها.

2025/04/13 · 40 مشاهدة · 1557 كلمة
AMON
نادي الروايات - 2025