في النهاية، لم يكن أمامي الكثير من الخيارات سوى أن أسمح لهم باصطحابي إلى سجن الطائفة وكان ذلك مفاجئًا بعض الشيء، إذ لم أكن أعلم أصلًا بوجود مثل هذا المرفق داخل الطائفة. من الناحية التقنية، لا وجود له، فقد قادوني إلى قارب صغير. وليس على سطح الماء، بل على العشب.

"اصعد." أمرني أحدهم، فامتثلت وانضممت إليهم داخل القارب.

كان المشهد يبدو ساخرًا بعض الشيء؛ خمسة رجال يجلسون في قارب على اليابسة، بوجوههم الجادة. لكن الوضع تغير سريعًا حين ارتجف القارب وانبعث منه هالة شبيهة بالبخار. رويدًا رويدًا، بدأنا نرتفع ونعلو نحو جانب الجبل العملاق الذي يحتضن طائفة الشمس الملتهبة .

نظرت من حافة القارب، فاجتاحني قشعريرة. كان الأمر أشبه بركوب طائرة في رحلة خطيرة، اللعنة لماذا ليس لديهم احزمة أمان ؟. لحسن الحظ، كنا نتحرك ببطء كافٍ لتجنب الوقع بسبب قوة الرياح.

راقبت وجوه مرافقي الكئيبة وسألت، "هل يعرف أحدكم كيف يبدو السجن ؟"

"من الخارج فقط." أجاب أحدهم.

"ويي أخرس، لا يسمح لنا بالكلام مع السجناء." حذره آخر.

ويي اكتفى بهز كتفيه والتنهد، "ليست قاعدة رسمية، بل مجرد لياقة عندما يكون الشيوخ حاضرون. وبصراحة، من حقه أن يعرف. لا نريد تكرار ما حدث مع العشرة السابقين الذين قاوموا، أحدهم حتى حاول القفز من قارب الإبحار السحابي."

"لابد أنهم كانوا يخفون شيئًا." قال آخر بعبوس. "ما من بريء يقاوم حراس الطائفة بهذه الشراسة. الطائفة لا تعاقب الأبرياء!"

يبدو أن هذا الفتى كان ذا طبع حاد، يؤمن إيمانًا مطلقًا بعصمة الطائفة وسلطتها التي لا تخطئ. في الواقع هذا النمط من التفكير شائع، ويشبه ما يقال لنا في عالمي منذ الصغر في المدارس والإعلام والأفلام : "الكبار دائمًا على حق، سعادة الضابط دائمًا على حق، القضاء النزيه لا يخطئ، وفشاخة الرئيس محبوب الجماهير نبي معصوم". ولكن بمرور الوقت، يبدأ المرئ في إدراك أن كل ذلك ليس سوى بروبغاندا ممنهجة، وغسيل أدمغة يغلف بالوطنية الزائفة، هدفه تكريس الطاعة والانقياد. فالعمر أو المنصب لا يعنيان بالضرورة امتلاك الحكمة أو التمتع العدالة بل نادرًا ما يحصل العكس.

ومع ذلك عكس عالمي حيث يستحيل إخفاء المعلومات مع وجود الانترنت، ونظرًا إلى البيئة المعزولة التي يعيش فيها أفراد الطائفة، فقد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا كي يخرج أحدهم من هذا القالب وربما يكون مستحيل.

"عذرًا على المقاطعة، أيها السادة المحترمون،" وجهت حديثي إليهم مجددًا، "لكن هل لي أن أعرف سبب احتجازي؟ لا أعتقد أنني ارتكبت أي مخالفة، وإن كنت قد فعلت، أرجو أن تخبروني حتى لا أكررها."

"لا تقلق، الأمر ليس خطيرًا جدًا." طمأنني ويي . "نظرًا للأحداث الأخيرة خارج الطائفة، وضعنا بروتوكولًا جديدًا للتحقيق مع كل من كان خارج الطائفة خلال تلك الفترة، واستجوابهم حول ما يعرفونه."

نبرته أوحت بأن هذا قد يعني فترة احتجاز غير محددة. لم يكن ذلك مثاليًا، لكنه ليس بيدي، كما أنني أشك أنهم سيحتجزوننا لفترة طويلة ،ربما شهر على الأكثر، إذ أن حبس التلاميذ لا يرسل رسالة طيبة للآخرين ولا يعكس صورة جيدة عن الطائفة.

إن كان هناك شيء واحد يمكن الاعتماد عليه في عالم الزراعة، فهو أن الأقوياء دومًا يحرصون على حفظ ماء وجههم أمام الآخرين ،بالطبع هناك إستثنائت لكنها حالات شاذة تؤكد القاعدة .

وبما أن الهروب لم يعد خيارًا، قررت أن أستغل الوضع بأفضل شكل ممكن. "هل يسمح لي بالتدريب في الزنزانة ؟"

"بالطبع." أجاب ويي زيمين. "بل وستحصل على مخصصاتك الشهرية أيضًا. فقط للتوضيح، أنت لست سجينًا حقيقيًا. نحن فقط بحاجة لاستجواب كل التلاميذ الذين كانوا خارجًا، والتأكد مما إذا كان أي جاسوس قد تسلل باستخدام أقنعة الجلد، مثلًا. ستحافظ أيضًا على أغراضك."

"لا مجال للهروب من الزنزانات المصممة لاحتواء مزارعين بأطوار أعلى بكثير منك." تدخل الفتى المتحمس .

يا له من شعلة نشاط! بدا في أواخر مراهقته أو أوائل عشريناته، لا يزال صغيرًا نسبيًا. آمل ألا يتحول إلى شاب مغرور لاحقًا، ويساهم في بناء مجتمع أفضل ...

...ههه على من أضحك. ؟ في هذا العالم، سيبدأ على الأرجح في ترديد جمل مثل: "أنت تغازل الموت؟!"

بعد لحظات من الصمت المزعج لم يقطعه سوى هدير الرياح، لم أتمالك نفسي وقطعت التوتر، "ما الذي حدث تحديدًا ليستدعي هذه الإجراءات الأمنية المشددة؟"

"ما الذي حدث؟" تنهد ويي ، "سيكون أسهل أن أخبرك بما لم يحدث."

"احذر!" حذره الفتى احاد الطباع، مزموم الحاجبين. "ممنوع علينا الإفصاح عن أي شيء يتعلق بالحادثة، قد يؤثر على مجريات التحقيق."

"اهدأ، لم أكن أنوي كشف أي شيء." رد ويي بيده، كأنه يبعد ذبابة. "سيعرف الجميع عاجلًا أم آجلًا، بطريقة أو بأخرى."

وبينما يتحدثون، اقتربنا من جزء صخري من الجبل ،أرض وعرة منحدرة، تكسوها الصخور الحادة والمنحدرات العمودية، ولم يكن هناك أي شيء يبعث على الراحة سوى فتحة كالكهف. شكلها المستدير بدقة أوحى بأنها من صنع البشر، أو بالأحرى من عمل مزارع ضجر في زمن مضى.

كلما اقترب القارب من الكهف، اشتدت الرياح. وعلى عكس الآخرين، تخليت عن أي محاولة للتظاهر بالشجاعة، وتمسكت بالقارب بكل ما أوتيت. لم أكن أنوي المخاطرة بحياتي من أجل مظهر أو كبرياء أجوف .

غالبًا كان هؤلاء المرافقون في طور تجميع التشي ، ولا يستطيعون الطيران بالسيوف بعد. فبدون تمسك قوي بالقارب، فإن الرياح لن ترحم أحدًا، حتى إن كان يملك تشي .

رغم أن الرياح القارسة بدت كأنها شفرات جليدية تمزق جلدي، إلا أن القارب دخل الكهف بسلاسة، واختفت الرياح فجأة كأنها لم تكن موجودة.

نظرت خلفي نحو المدخل، ولاحظت نقوشًا محفورة في ظلال الكهف، غالبًا ما كانت جزءًا من حاجز يحجب الرياح.

داخل الكهف، كانت الأنوار مشتعلة من مشاعل وامضة، آمل أن تكون مشتعلة بفضل أثر سحري يحافظ على لهبها دائمًا، وإلا فإن هذا المكان سيتحول إلى سجن مظلمة أشبه بالعزلة الانفرادية.

في الزاوية كان هناك مكتب يجلس خلفه رجل ممتلئ في منتصف العمر، يرتدي زيا داكنًا ويتكى على كرسي خشبي يئن تحت ثقله. رغم أن هيئته أقرب إلى أب لأربعة أطفال يشرف على حفلة شواء، إلا أن هذا الشيخ الداخلي كان يشع بهالة مهيبة ،من المرجح أنه في منتصف مرحلة تأسيس الأساس على الأقل.

بتكاسل واضح، وقال:

"واحد آخر؟ مجرد أولاد علقوا في الخارج وقت الزوبعة. لماذا يتصرف الجميع وكأن السماء ستسقط؟ هؤلاء المساكين مرعوبون حتى الموت، رغم أني طمأنتهم مرات عديدة."

كان الارتباك بادياً على وجوه التلاميذ الداخليين عند كلماته. تجاهل شيخ يعد قلة احترام، لكن الموافقة عليه تعني توجيه إهانة للشيخ آخر ،جريمة عواقبها وخيمة. سواء كنت تلميذًا داخليًا أم لا، فالمشي فوق هذا الحبل الرفيع لم يكن بالأمر الذي يحسد عليه أحد.

"نعتذر يا شيخنا المحترم. لدينا مهام أخرى ننجزها." قال الشاب المتحمس وهو ينحني، قابضًا قبضته إلى كفه الأخرى، وتبعه الآخر . وبعد انحناءة طويلة تظهر الاحترام، غادروا بالقارب، تاركين الشيخ وأنا وحدنا.

توقفت عيناه عندي، ولم أتمالك نفسي من البلع. من المرجح أنه أقوى شخص التقيت به حتى الآن .

"كم عمرك يا فتى؟" سأل بلامبالاة واضحة، وكأنه لا يهتم أصلًا بالإجابة.

"ستة عشر عامًا، سيدي." أجبته.

نظر إلى الورقة في يده وتنهد:

"ما هذه الأسئلة السخيفة؟ من يكتب هذه التفاهات؟" قال وهو يرمي الورقة بعيدًا، ثم وضع مرفقيه على المكتب وأسند رأسه إلى كفيه. "على أي حال، هل تواعد فتاة ما؟ كيف ترئ الفتيات في عمرك؟هل تحب المراهقات؟"

"...عذرًا؟"

عن ماذا نتحدث هنا بحق الجحيم؟ لماذا يسأل عن ذالك، أليس من المفترض أن يحقق معي بخصوص ما يحصل في الخارج؟

"لا، ولا أملك رأيًا في الفتيات ." حاولت أن أبدو هادئًا قدر الإمكان.

"لماذا؟ هل انت مخصي؟" رفع الشيخ احد حاجبيه وهوا ينظر بشك إلأ تنيني.

إلى ماذا تنظر أيها العجوز المنحرف، أراهن ان خاصتي أكبر من خاصتك، لكن بالطبع لم أتفوه بذلك. بدلاً من ذلك،تضاهرت كأني لم اسمع الجزء الأخير وأجبت بهدوء:

"لم أختبر هذا الأمر بنفسي، ولم يكن يشغلني كثيرًا. في مثل هذا السن، تركيزي المرئ يجب أن يكون منصبًا بالكامل على التدريب والتعمق في مسار الزراعة، لا على أمور تافهة مثل المواعدة."

أوضحت له الأمر بنبرة توحي بعدم اكتراثي لموضوع المواعدة . ورغم أنني لست أبًا، فإنني شاهدت ما يكفي من الأفلام والمسلسلات لأفهم المشاعر التي قد تعتريه.

"مجتهد ومكرس لزراعة ... جيد." ابتسم الرجل بحرارة. "إجابة تستحق الثناء. هل تعلم أن لدي ابنة في مثل عمرك؟"

بالطبع لا أعلم أيها العجوز . ليس وكأننا جيران ؟ هذه أول مرة نلتقي فيها!

لكني كتمت أفكاري. هذا ليس الإنترنت ولست خلف شاشة وvpn كي أقول ما أشاء دون عواقب.

رغم تحفظي، بدا وكأنه لا يهتم بردي أصلًا، فقد تغيرت تعابير وجهه إلى الحزن.

"رغم أنها ولدت بموهبة عادية، إلا أن كوني شيخًا داخليًا سمح لي ببدء مسيرتها كتلميذة داخلية."

ماذا ؟ هل اعترف لتو بالفساد؟ رغم أن الأمر معروف ضمنيًا، إلا أن الشيوخ عادة ما يفضلون إبقاءه خلف الأبواب.

"هل تعلم ماذا قالت عندما عرضت عليها ذلك؟، قالت إنها تريد أن تبدأ من نفس النقطة مثل الجميع، وأنها لا تحتاج لتلك الامتيازات. أرادت إثبات جدارتها لنفسها."

وأثناء حديثه، أخرج زجاجة خزفية من تحت الطاولة، وقد وصلت رائحتها النفاذة إلي من مكان جلوسي. ارتشف منها، وانهمرت دموعه على خديه.

"من جهة، شعرت بالفخر الشديد... ومن جهة أخرى، كنت أرغب في أن أشرح لها مدى غباء قرارها ذاك. فأنا، كشخص جاء من خلفية عادية، أعلم تمامًا ما ينتظرها من مشاق."

شعرت فجأة بشفقة نحوه. كان واضحًا أنه مخمور، مما يفسر تصرفاته الغريبة. وأي أب لا يبحث عن العزاء في الكحول إن كانت ابنته قد واجهت مصيرًا مأساويًا بسبب قرارات اتخذتها بحسن نية إو جهل وغباء؟

بغض النظر عن مدى قوة الزراعة، فالقلب البشري لا يصقل مثل الحجر. حتى بعد قرون من الخبرة، يظل حب الأبناء لا يتغير.

"أعتقد أنها نزلت إلى الأسفل لتقابل أحدهم! لا بد أن لديها عشيقًا!" صرخ فجأة وهو يضرب الطاولة بيده، فاهتز الكهف من حولنا، لكن الطاولة المهترئة بقيت صامدة بطريقة غريبة.

"هذا هو التفسير الوحيد! هل سمعت أي إشاعات عنها؟! هل تحب أحدًا؟! سأعلق ذلك الوغد من خصيتيه على أبواب الظائفة وسأجتث خمسة أجيال من أسرته ليعرف الجميع عواقب خداع ابنتي الجميلة، الرقيقة، الذكية، الظريفة، والحنونة!"

نظر إلى بنظرة تطلق شرار ، ولأول مرة منذ قدومي إلى هذا العالم، شعرت برغبة جارفة في توجيه لكمة إلى شخص ما.

حقًا؟! كنت للتو أشعر بالشفقة عليك، أيها الوغد ، وأنت تقلق بشأن إن كانت ابنتك تواعد شخصًا أم لا؟

وما علاقتي أنا بالأمر ؟ لا أعرف اسمها حتى!

لكن، طبعًا، لم أجرؤ على قول ذلك بصوتٍ عالٍ. هذا الرجل يستطيع مسحي من الوجود ببصقة.

"أنا..." تلعثمت. "لا أعرف شيئًا في هذا الشأن. لا أختلط اجتماعيًا كثيرًا، ولا أتابع الشائعات. لم أسمع شيئًا عن ابنتك الجميلة، الرقيقة، الذكية، الظريفة، والحنونة!"

خفت حدة نظراته، ومسح دموعه.

"أنت على حق. ابنتي الجميلة، الرقيقة، الذكية، الظريفة، والحنونة لن تخدعني أبدًا. ستفي دومًا بوعدها الذي قطعته حين كانت في الرابعة، أنها لن ترى أي صبي حتى تبلغ الأربعين ! قلبي العجوز لا يحتمل رؤية صغيرتي تكبر بهذه السرعة."

... ما هذا الذي أراه بحق السماء؟ ومن العبقري الذي قرر أن يضع هذا الشخص مسؤولًا عن السجن؟

_________________________

AMON: شكرًا لقرأت روايتي. لا تتردد في مشاركة رأيك عن الفصل سواء بنقد او نصيحة، أو "هممم" غامضة ،أنا أقرأ كل التعليقات وأتفاعل معها.

2025/04/14 · 25 مشاهدة · 1707 كلمة
AMON
نادي الروايات - 2025