2 - عندما كان النور حيًا

**تم إجراء بعض التعديلات على الفصل الأول يرجى تفقدها أولا ، نعتذر عن هذا ولكنها اخطاء البدايات . . لن تتكرر**

كانت السماء تمطر بخفوتٍ تلك الليلة،

قطرات المطر تعانق زجاج النوافذ،

وفي الداخل، حيث النار تشتعل في الموقد،

كانت تجلس زوجة “ويلدريد”، إلينور، تضحك بخفةٍ وهي تحيك قميصًا صغيرًا.

جلس ويلدريد أمامها، متكئًا على الكرسي الخشبي،

يراقب عينيها وهي تحيك القميص بإتقانٍ وبطء،

ويقول بابتسامةٍ لم يعرفها أحدٌ من بعد تلك الأيام:

"هل تصدقين يا إلينور؟ لم أعد أخاف المستقبل بعد اليوم."

رفعت عينيها نحوه وقالت بنبرةٍ يملؤها الدفء:

"طالما بقي قلبك كما هو الآن، فلن تهزمك الدنيا، يا ويلدريد."

ضحك بصوتٍ خافت، ثم مدّ يده ولمس بطنها الذي بدأ ينتفخ قليلًا:

"أتظنين أنه سيكون صبيًّا أم فتاة؟"

"لا يهم… يكفيني أن يرث قلبك، لا بندقيتك."

قالتها مازحة، لكنها لم تكن تعلم أنها تنبأت بمستقبله.

سألها ويلدريد وهو يبتسم:

"لو كان صبيًّا، ماذا تريدين أن تسميه؟"

ضحكت إلينور ضحكةً بريئة وقالت له:

"ما رأيك بـ آرثر؟"

ابتسم ويلدريد وقال بلطف:

"جميل يا عزيزتي."

تتسلل نغمةٌ موسيقيةٌ خافتة من صندوقٍ صغيرٍ في الزاوية،

يعلو صوت المطر، ويغمر المشهد دفءٌ إنسانيّ لا يشبه الحرب في شيء.

ثم تمر الأيام،

وتأتي الولادة قبل أوانها.

الليل يعوي خلف النوافذ،

والممرضة تصرخ:

"إنها تنزف! لا أمل بنجاتها إلا بمعجزة!"

كان ويلدريد يقف عند الباب، عاجزًا،

لا يملك سوى الدعاء لزوجته بالسلامة.

وحين سمع الصرخة الأخيرة،

لم يعرف أكانت صرخة حياةٍ أم موت.

ثم خرجت الممرضة…

تحمل بين يديها طفلًا صغيرًا،

وعيناها تتهربان من النظر إليه.

"الطفل بخير…" قالتها بصوتٍ مرتجف،

"لكن أمَّه… لم تصمد."

سقطت الكلمات كالرصاص في صدره،

كأن أحدهم انتزع منه قلبه وألقى به في الظلام.

اقترب من السرير،

رأى جسدها المسجّى على الملاءة البيضاء،

وشعر للحظة أن العالم توقّف عن التنفس.

جلس بجانبها، أمسك يدها الباردة،

وتمتم بصوتٍ مبحوح:

"وعدتِني… أن تبقي ما دام قلبي حيًّا."

لكن قلبه هو الذي مات تلك الليلة.

في الصباح التالي،

حين أشرقت الشمس على القرية،

كان “ويلدريد” يخرج من البيت،

والطفل في يديه، لكن عينيه لا تشي بالحياة.

وقف أمام المقبرة،

ووضع الزهور على قبرها بهدوءٍ يشبه الموت نفسه وكلم نفسهُ قائلا :

"كنتِ تقولين إن الحرب تسرق الأرواح وتترك القلوب خاوية…

لكن يبدو أنها سرقت قلبي وتركَتني أنا."

بقي صامتًا لفترةٍ أطول ،

ثم أدار ظهره ليجد الجنرال ماريوس واقفًا خلفه،

وجهه صارم وصوته كالفولاذ:

"سمعت أنك صياد ماهر، هل هذا صحيح ؟."

لم يردّ، فتابع الجنرال:

"أعرف قيمة ما فقدته، لكن الحزن لا يغيّر شيئًا.

الحرب وحدها تمنح الرجل معنى.

ومن لا يقاتل… يُدفن قبل أن يموت."

قال ويلدريد بنبرةٍ مبحوحة:

"إلى ماذا ترمي يا ماريوس؟"

ابتسم الجنرال ابتسامةً باهتة:

" أطلب منك أن تدفن نفسك هناك.

من يعيش بعد فقدٍ كهذا لم يعد له مكان بين الأحياء،

الحرب هي مكان كل شخص فقد أغلى ما يملك ."

صمت “ويلدريد” طويلًا،

نظر إلى قبر زوجته ثم إلى طفله بين ذراعيه.

"ربما أنت على حق، سيدي…"

سلّم الطفل إلى الممرضة الواقفة قرب البوابة،

ثم سار بخطواتٍ ثقيلة نحو الطريق المؤدي للثكنة برفقة الجنرال ماريوس.

ومنذ ذلك اليوم، لم يُعرف “ويلدريد الأب”، ولم يرى طفلة ثانية ،

بل وُلد جنديٌّ لا يعرف الرحمة.

ومن رحم فقدٍ واحدٍ، وُلِد ألفُ موت.

لم تقتله الحرب، بل أختارها كي يقتل نفسه مرارًا.

حين استيقظ من ذكرى قديمةٍ لا تزول،

أدرك أن قلبه ما زال في تلك الليلة التي فقد فيها كل شيء.

رؤيته لـ“سانو” أيقظت تلك الأيام التي كان يكره فيها الحروب،

أيامًا كان يعيش فيها بدفءٍ وسلام، بقلبٍ مزدهرٍ بالحنية ووجهٍ بشوش.

لكن موقفًا واحدًا غيّره لوحشٍ لا يُهزم… إلا بماضيه.

يحدث ويلدريد نفسه قائلًا، بينما “سانو” لا يزال نائمًا:

"قتلتُ العديد من الناس، وها أنا أحمي طفلًا لا يمدّ لي بصلة.

عشتُ الحروب كي لا أتذكر الماضي، ظنًّا أن مشاعري وأحاسيسي ستتلاشى،

لكنني كنت مخطئًا."

"لم أكن أفعل شيئًا سوى الهروب من واقعي.

بدلًا من حماية طفلي — وهو آخر ما أملك من “إلينور” —

تركتة وحيدًا ، مبررًا فعلتي بأنه سبب موتها. بأنني لم أعد أصلح ﻷكون ابًا

يا لي من ساذج… يا لي من متناقض."

"فما أضعفَ العقلَ والقلبَ عندما يريدان النسيان.

ربما لم أنسَ… ربما أكذب على نفسي"

[ المشاعر شيءٌ لا يمكنك نسيانه أو التخلي عنه،

ومهما مررتَ بظروفٍ وعوائقَ وتغيّرات،

ستأتي مشاعرك يومًا لتقضي عليك ]

مدّ “ويلدريد” يده ليلمس شعر “سانو” وهو نائم،

لكن أصابعه توقفت في منتصف الطريق، كأنها خافت أن تلوّث البراءة بدمٍ قديم.

ارتجف صوته حين همس:

"كل حربٍ تبدأ حين يموت الحبّ في القلب."

ثم نهض ببطء، أطفأ بقايا النار، وعاد للنوم.

وقبل بزوغ الفجر بلحظات،

استيقظ ويلدريد على صوت غريب...

كان صوت ذعر “سانو” وهو نائم،

يرتجف كعصفورٍ تحت المطر.

كانت تراوده كوابيس عن المجزرة التي حصلت بحق والديه،

تلك الليلة التي وُلد فيها الألم من جديد.

نظر إليه “ويلدريد” طويلًا،

رأى في ذعره انعكاسَ ذنوبه،

وشيئًا في داخله بدأ يتصدّع ببطء.

استلقى على ظهره ينظر إلى السماء الرمادية من نافذةٍ محطّمة،

وقال لنفسه بهدوءٍ مثقلٍ بالتعب:

"هل أستطيع العودة من نقطة البداية كما كنت بالماضي؟

لا… فهذا مستحيل.

إذن لماذا أكلف نفسي حماية هذا الصبي؟

لقد قررت بالفعل، إن لم أستطع العودة لسابق عهدي،

فسأُصلح نهايتي… وأختتمها بشيءٍ جيد."

لاحظ بداية طلوع الشمس، فقرر عدم العودة للنوم.

خرج إلى الغابة، فصاد طائرًا بريًا صغيرًا.

وحين عاد، وجد “سانو” قد استيقظ للتو.

جلس بجانبه بصمتٍ، أشعل النار، وشوى الطائر حتى امتلأ المكان برائحةٍ تشبه الدفء.

ناول “سانو” قطعةً من اللحم،

لكن الطفل لم يتكلم، اكتفى بالنظر إلى الأرض.

تنهّد “ويلدريد” وقال بصوتٍ خشنٍ لكنه أكثر لينًا من قبل:

"هيه، يا فتى… من اليوم وصاعدًا ستعيش معي.

أبواك رحلا، ولا مكان آخر لك.

لن أتركك، لكن عليك أن تتقبل ما حدث…

البكاء لا يعيد الأموات."

لم يفهم “سانو” المعنى،فهو لا يزال صغيرًا ، لكنه شعر أن شيئًا في صوت ويلدريد يشبه الحزن،

فمدّ يده بترددٍ وأمسك بطرف معطفه.

لم يتكلم أحدهما،

لكن النار بينهما كانت كأنها وُقدت من جديد ،

نار حياةٍ لا حرب.

وقف ويلدريد،

ومسك بيد الصبي،

وسارا بين الضباب نحو طريقٍ لا يعرفان نهايته.

كانت خطواتهما الأولى نحو المجهول…

في مكانٍ بعيد، على تلةٍ تطلّ على الغابة،

كان هنالك أحد يقف بزيّه العسكري،

يتأمل آثار الدخان المتصاعد من مكان صغيرٍ في الوادي.

قال هذا الرجل لأحد الجنود بجانبه:

"لقد وجد طريقًا جديدًا… كما كنت أتوقع."

ثم أشعل سيجارة، ونفث دخانها نحو السماء الرمادية، وأكمل كلامه قائلًا :

"لكن الماضي لا يرحم،

وسيعرف قريبًا… أن من يهرب من الحرب، تُعاد إليه الحرب بوجهٍ آخر."

انصرف الرجل وأتباعه بخطواتٍ ثابتة،

بينما كانت الريح تُطفئ آخر خيوط النار في مكان ويلدريد .

نهاية الفصل الثاني

الفصل القادم يوم اﻷحد 🌟

2025/11/07 · 7 مشاهدة · 1044 كلمة
KANECKT
نادي الروايات - 2025