1 - ما تراه عيناي

في صباحٍ هادئ من مدينة أرمانديل القديمة، فتحت إلينا نافذتها الخشبية المعتقة وتراءت لها شوارع البلدة المرصوفة بالحصى التي تنبض بحكايات الماضي. كانت هناك رائحة الخبز الطازج تتسرب من المخابز الصغيرة، وأصوات بعض الطيور تتداخل مع همسات الرياح، كأن الطبيعة تروي قصة عشقٍ خفي.

إلينا، الفتاة الهادئة التي طالما احتفظت بأسرار قلبها داخل عيونها الرماديتين، كانت ترتدي فستانًا بسيطًا من لون العاج ووشاحًا رماديًا يلفّ عنقها برقة. شعرها البني الطويل كان يتمايل كأنه لوحة فنية في نسيم الصباح. لم تكن مجرد فتاة عادية؛ فقد كانت ترى ما لا يُرى. منذ نعومة أظفارها، بدأت تتسلل إليها رؤى هالات ملونة تحيط بكل من يلتقيه، فكل شعور يحمل لوناً مختلفاً: الأحمر للغضب، الأزرق للحزن، الأخضر للفرح، والذهبي للحب. كان هذا السر العاطفي الذي حملته سنين طوال وما زال يكاد يحكم حياتها دون أن يُفهَم من قِبل أحد.

في ذلك اليوم، انطلقت إلينا في رحلتها اليومية متجهة إلى مكتب البريد الراقي في قلب المدينة. لم يكن عملها مجرد وظيفة، بل كان مهمة سامية؛ إذ كانت تكتب الرسائل بدلًا من أن يكتبها الزبائن. تخطت إلينا حدود كونها مجرد كاتبة رسائل، بل صارت بمثابة مرآة لقلوب الناس. فقد كانت تجلس بهدوء في مكتبها الصغير، تتفقد أوراقها المبعثرة وتقرأ إلى ما وراء الكلمات، حاسةً بالأحاسيس المختبئة في كل حرف.

دخل رجل مسن يرتدي معطفًا داكنًا من خلفية الماضي إلى مكتب البريد. كان وجهه يحمل خطوط الزمن والعذاب، وعيناه كانتا موجّرتين بالدموع قبل أن تختبئ خلف هالة زرقاء مختلطة بالرمادي، لغة لا يعرفها إلا من عاش الفقد والندم. جلس الرجل أمام إلينا بهدوء وهو ينطق بصوت مرتجف:

"أريد رسالة… رسالة لابني، فهو سيغادر قريبًا، وقد يكون هذا الفراق آخر لقاء بيننا."

لم ترد إلينا بسؤال زائد، بل سمت نظرتها نحو عينيه، كما لو كانت تقرأ ما خلف تلك الهالة. رفعت يدها التي تغلفها القفازات الناعمة، واستخرجت من دفترها الجلدي قلمها الذي اعتادت أن يكتب به القصص الخفية. بدأت كلماتها تنساب بسلاسة إلى الورقة:

> "إبني العزيز،

كنتَ ولا زلتَ النور الذي أضاء عتمتي. لم أستطع أن أعبر عن مشاعري يومًا، لكن قلبي كان دومًا مليئًا بك.

منذ طفولتك، كنتَ أملي ورحيق أيامي، واليوم وأنتَ على أعتاب رحيلٍ قد لا يعود، أكتبُ إليك هذه الكلمات كهمسٍ أخفيه في زوايا قلبي.

إن لم نلتقِ مجددًا، فاعلم أن حبي لك سيظلّ رفيق دربك، يحميك حين تضيق

الحياة.

والدك."

انحنى الرجل بعد قراءة الرسالة، والدموع تكسو وجنتيه، وكأنها تُطفئ بريق الألم الذي كانت تُحاول الكلمات تخفيفه. في تلك اللحظة، أدركت إلينا أن الكلمات ليست مجرد حروف على ورق؛ بل هي جسر يربط بين الأرواح المتحطّمة، وسراجًا ينير دروب من ضاعت في ظلمات الأيام.

خرج الرجل من المكتب وترك خلفه صمتًا ثقيلًا، بينما جلست إلينا تتأمل في الهالات التي عكست مشاعر الزبائن. أدركت أن لكل رسالة قصة، ولكل قصة لون يُعبّر عن معاناة أو فرح غير معلن. وهكذا، استمرت كل صباحاتها تمريرةً بين الكلمات والهالات، باحثةً عن معنى جديد يحول الحزن إلى طاقة وإلى أملٍ مستتر في أعماق القلوب.

كانت إلينا تعلم أن قدرها مختلف؛ فليس كلٌ يرى ما تراه عيناها. أسرارها كانت سلاحًا وعبئًا في آنٍ واحد، لكنها اختارت أن تستخدمها في خدمة الآخرين، لتكون مرآة صادقة تعكس ما يختبئ خلف كل كلمة لم تُكتب بعد.

وهكذا كان صمت الألوان، صمت يحمل بين طياته قصة عشقٍ معقدة، وذكرى لا تنسى لكل من التحق بهم ال

قدر.

2025/04/16 · 12 مشاهدة · 524 كلمة
Dasnov
نادي الروايات - 2025