عندما حلّ المساء على أرمانديل، غمر نور المصابيح القديمة الزوايا المظلمة في مكتب البريد، اجترى ظلاله على الأوراق المتناثرة وعلى الوجوه الخافتة. جلست إلينا أمام مكتبها، تستعرض منشورًا قديمًا عثر عليه أحد الزملاء أثناء فرز الرسائل. في منتصف الصفحة بوضوح صورة لدمية ذكريات شهيرة، تلك التي تُدعى "فيوليت إيفرغاردن"، التي كانت ترتدي شعرًا أشقرًا وعيونًا كالسماء وتعانق آلة كاتبة تحمل معها عبق التاريخ والحنين.

تلك الصورة أسرَت إلينا؛ ترددت في خاطرتها كلماتٌ لم تسمعها من قبل. كان الحديث عنها ملأ المكان بالإعجاب الممزوج بالدهشة. لقد سمعَت قصصاً عن كيف كانت كلماتها تلامس قلوب الناس وتعيد إليهم شيئًا من روحهم، وكيف كانت تُكتب رسائلها كما لو كانت تنطق بأسرار الأرواح. بينما كانت تحدّق في صورة الدمية، تراودتها أفكارٌ عن آلتها العجيبة؛ هل السر في الآلة نفسها، أم في حسّها الفريد الذي لا يُضاهى؟

في اليوم التالي، وبعد أن امتلأت روحها بما سمعته عن "فيوليت"، توجهت إلينا إلى غرفة الصيانة بالمكتب حيث كان جوليوس، الموظف الماهر في إصلاح الآلات القديمة، ينتظرها. بصوتٍ هادئ كان فيها تحدٍ وإصرار، قالت:

"أريد آلة كاتبة."

ارتسمت على وجه جوليوس ابتسامة ساخرة محبة. "هل تودين أن تخوضي معركة مع المعدن والحديد؟" قال وهو ينظر إليها نظرة مُعجبة بخفة روحها.

ردّت إلينا بابتسامةٍ رقيقة وبصوتٍ واثق: "إنّ الكلمات العظيمة تستحق أدوات لا تقل عنها قيمة."

قادها جوليوس إلى غرفة التخزين المملوءة بالذكريات القديمة، وهناك بين صناديق الخشب والعطر القديم، وجدتها صندوقًا خشبيًا متهالكًا ظاهره الطابع الكلاسيكي. فتح جوليوس الصندوق ببطء، ليكشف عن آلة كاتبة ذات مفاتيح معدنية لامعة رغم سنها، محفوظة كما لو أنها لم تُمس منذ عقود.

حين أمسكت إلينا بيدها بتلك الآلة، شعرت كأن نبضًا خفيفًا مرّ عبر أصابعها، وكأن الآلة تحمل معها أسرارًا من زمن بعيد. هناك، في تلك اللحظة، أدركت أن الخطوة القادمة في رحلتها ليست مجرد اقتناء آلة، بل هي بداية لتحرير القصص المختبئة في أعماق قلوب الآخرين. كانت تعلم أن كل حرف يكتبه سيحول الحزن إلى شعاع أمل، وكل كلمة ستضفي قوة على الذكريات المندثرة.

عادت إلينا إلى مكتبها بعد ذلك اليوم، والآلة الكاتبة بين يديها ككنز ثمين. جلست أمامها، وبدأت التجربة، وكأنها تتحدث لغةً جديدة. كل نقرة على المفاتيح كانت تُصدر صوتاً رقيقاً ينساب في أرجاء المكان، يوقظ في قلبها أحاسيس لم تُعرف من قبل. تذكرت تلك الصورة التي شاهدتها في المنشور، وتساءلت: "هل تستطيع هذه الآلة أن تجعلني أكتب كما لم يكتب أحد من قبل؟"

وفي تلك الليلة، وبعدما هدأ الزمان، بدأت تلحي كلماتها على الورقة؛ كلمات تنبض بالحياة والحنين، كلمات تحمل قصص الأرواح التي مرت عبر مكتبها. لم تكن تلك الرسالة موجهة إلى أحد بعينه، بل كانت رسالة للنفس، رسالة تثبت أن الآلة قد استطاعت أن تفتح لها بابًا جديدًا في عالم الكتابة. وهكذا أصبح صوتها مختلفًا؛ صوتًا يمزج بين التقليد والحداثة، بين الألم والجمال.

مع كل رسالة كتبتها، كل ضغطة مفاتيح، كانت تشعر بأن الآلة تروي لها حكايات لا تُحصى عن حياة فقدت وصارت تجد في الكلمات سبيلاً للبقاء. وهكذا، في كل مساء، كان مكتب البريد يشهد تحولًا صغيرًا في حياة إلينا، حيث اختلطت الآلات القديمة بسحر الحروف الجديدة، لتصبح آلة الكلمات وسيلةً صادقةً تكشف عن مشاعر الإنسان بأدق تفاصيلها.

2025/04/16 · 5 مشاهدة · 492 كلمة
Dasnov
نادي الروايات - 2025