الشعور الحارق الذي يبدأ برقبته مروراً بكفه، ذلك الشعور بأن جميع خلاياك التي تم إتلافها يتم إعادة وصلها. اللحم ينمو ويرتبط ببعضه البعض ثم يعود الجلد المفقود ليغطي منطقته.
"هااا.."
اخرج كاسبر أنفاسه الساخنه. شعر بالسخونه وكأنها تلتهم جسده، أخذ نفساً عميقاً وأخرجه عدت مرات.
كان يلهث.
اخير وبعد مرور فترة من الوقت هدأ تنفيه.
انهار كاسبر و استلقي علي الارض.
بعد أن أرتدي ملابس جديدة وتخلص من القديمة (هذه المرة ولأنه كان حريص لم يرمها من الشباك وتخلص منها في سلة المهملات) بدأ في البحث عن ضمادات لتضميد جروحه، ولكن وفي منتصف عملية البحث اكتشف أن الجروح الموجودة في كفه أعمق من أن تحتاج للتضميد فقط.
لذلك وبعد تفكير عميق قرر استعمال قوته(والتي لا يعرف ما هي ولم يسمع عنها من قبل في الرواية) لشفاء جروحه.
في الحقيقة لقد كان هذا قرارا صعبا بالنسبة لكاسبر الذي يعلم عواقب استخدام هذه القوة، خصوصاً الألم الحارق الذي ينتج عن عملية الشفاء والذي يؤلم أكثر من الجرح نفسه.
"هااا"
تنهد كاسبر أثناء نظره نحو السقف كانت عيناه فارغه وكان عقله يغرق من حين لآخر في احداث اليوم...لا ربما اسوأ ربما كان يغرق في أحداث من ماضي أبعد..
في ذلك العالم والذي بالكاد كان قد بلغ السادسه فيه...
تذكر وقوفه عاري القدمين علي أرضية الرصيف الباردة لم يكن هناك من يحميه من برد الشتاء الا يدي شقيقه...لا. ربما اسوأ كانت تلك اليد التي تحتجزه بقوة خلف ظهره تحميه من شيء اسوأ.
كل ما كان يتذكره في ذلك الوقت هو البرد القارس واليد التي كانت تغطي عينيه وتسحبه للخلف ثم بعد ذلك سمع صوت حاد....ثم هل كان هناك صوت شخص ما يصرخ؟
ثم مره اخري ومره اخر...
تردد ذلك الصوت الحاد والذي يصم الاذنين حتي اختفت صرخات ذلك الشخص.
عندها حل الصمت..
كل ما استطاع رايلين سماعه والشعور به في ذلك الوقت هو انفاس شقيقه الخشنة والارتعاش في اليد التي كانت تغطي عينيه.
في ذلك الوقت همس له شقيقه بشئ ما...ما كان؟ لم يكن يتذكر. لا...ربما لم يسمعها حتي...
اخيرا وببطء انزل شقيقه اليد التي كانت تحجب رؤيته.. تماماً، بدأت الرؤية تتضح لرايلين.
ليله بيضاء حيث تتساقط الثلوج، المدينه الرمادية المدمرة التي ارهقتها الحرب.
أشخاص يحدقون فيهم بمشاعر غريبة ثم يتجنبون الجثة..
جثة..؟
'اه..'
هناك رقد الرجل الذي كان يضايقهما ويهددهما منذ بضعة دقائق في بركة من الدماء.
أنه عالم قاسي. عالم حيث يمكنك أن تري الجثث والاشلاء البشرية ملقاة في الطرقات بشكل عشوائي، عالم حيث يفترض عليك أن تسرق لتعيش أنه عالم حيث سلبت الحروب الإنسانية من البشر وجردت الاطفال من برائتهم.
لذلك لم يكن من الغريب أن يحمل المدنيون السلاح للدفاع عن أنفسهم، ولم يكن من الغريب أن أن ينتشل الاطفال السلاح من الجثث لنفس الغرض.
بالنسبة لرايلين الذي بلغ شتائه السادس هذا العام. لم يكن الموت شيئا غير مألوف. لا لرايلين ولا حتي للأشخاص الذين يسيرون في الطرقات..
ثم لماذا..لماذا يثير الناس كل هذه الضجة لان هناك شخصاً قد مات؟
"آه!"
رايلين الذي أمعن النظر في ملابس الجثة شهق.
لقد كانت ملابس تنتمي الي الفصيل المحايد...في ذلك السن لم يكن رايلين يعرف الفرق..من العدو ومن الحليف من تسبب في هذه المأساة ومن المستفيد منها... إلا أنه وبشكل طفيف علمه شقيقه من الأشخاص الذين لا يجب العبث معهم...وكان الفصيل المحايد أحد هؤلاء الأشخاص.
ثم لماذا ؟ لماذا قتل شقيقه واحداً منهم؟
"....!"
وقبل أن يفهم رايلين شيئا قام شفيقه بحشو السلاح داخل ملابسه بخشونه ولف زراعيه حول رايلين وحمله وركض.
علي الطرقات الذلقه و الارضيه الخشنه ركض شقيقه حافي القدمين أثناء حمله بين الازقه .
ومع استمرار شقيقه في الركض استطاع رايلين سماع أصوات لمطاردين خلفهم.
"اخي انت تنزف."
همس رايلين بهدوء لشقيقه.
هل كان يدرك هذه الحقيقة ؟ عض شقيقه شفتيه وضاقت الازرع التي كانت تلتف حول رايلين وكأنها تتشبث به وتحميه. كانت بالفعل باطن قدمين شقيق رايلين ممزقة من الركض حافي القدمين والاحتكاك بخشونة بالأرض الخشنه و المتجمدة .
ربما لهذا السبب استطاع المطاردون اللحاق بهم علي الرغم من بعد المسافة وتجول شقيقه المستمر بين الأزقة في محاولة لتضييعهم.
ثم...لقد كانت هذه هي اخر ذكرى يتذكرها رايلين، ذكرى حيث كانت آثار أقدام شقيقه تصبغ الجليد باللون الاحمر.
***
الذكرى التي اعتقد رايلين انها انقطعت عادت مرة أخري.
تذكر الرائحة الكريهة التي كانت تحيطه هو وشقيقه، تذكر أنه كان مستلقي في مساحة ضيقة تكتم الأنفاس..ثم تذكر صوت الخطوات الثابت الذي كان يتقدم نحوهما.
ربما كانوا يختبئون في سلة مهملات في ذلك الوقت؟ صحيح. هذا يفسر الرائحة الكريهة والضيق الذي شعروا به.
لم يكن من الصعب على رايلين وهو طفل في السادسة فقط، وشقيقه الذي يكبره بخمس سنوات أن يختبئوا في سلة المهملات، خصوصاً أن كليهما قد عانى من سنوات من سوء التغذية في الميتم لذلك لم يكن من الصعب لاجسامهم الصغيرة أن تتكيف مع صغر حجم سلة المهملات وضيقها.
في هذه المرحلة..هل نقول أنهما كانوا محظوظين لقضائهما بضعة سنوات من سوء المعاملة في الميتم؟ لا. أن تحدثنا عن الحظ فسنقول أنهما كانوا محظوظين من النجاة من انفجار الميتم بسبب صاروخ سقط بالخاطئ...رغم ذلك لم يكن هذا محظوظ حقا، فقد اضطرى للعيش في الشوارع ومشاهدة أهوال الحرب...ثم هل كان عليهم فقط الموت مع بقية الأطفال في ذلك الوقت؟
ربما كان الموت اهون من تذوق مرارة الحياة...
حدق رايلين في شقيقه الذي كان يحتضنه بقوة ويختلس النظر من حين لآخر في الخارج.
ثم... ماذا حدث بعد ذلك ؟ لم يكن رايلين يتذكر...تذكر فقط أنهم جلسوا في ذلك المكان الخانق لبضعة ساعات اخرى... آه...لقد تذكر...وكيف له أن ينسى؟
هل كان ذلك عندما سمع شقيقه صوت خطوات تقترب منهم؟ ضغط علي السلاح في يده بشكل عصبي وصرخ بشراسة.
"من انت! وما الذي تريده ؟!"
لم يستجب الشخص الآخر. ولم ايكن أمام شقيق رايلين خيار الا أن يتحقق بنفسه. اخرج رأسه ببطء من حاوية القمامة ثم تقابلت عينيه مع الرجل.
ارتعش خوفا واخرج سلاحه ووجهه نحو الرجل.
"ابتعد-!"
زمجر بغضب وهدد رغم ذلك لم يستجب الرجل.
وبعد صمت قليل اقترب الرجل من شقيق رايلين.
"توقف-!"
لم يأبه الرجل و استمر في التقدم.
"سأقوم بقتلك-!"
استمر الرجل في التقدم، ولم يستطع شقيق رايلين الا أن يرتجف من الخوف ويضغط علي الزناد...
"...."
رغم ذلك لم يحدث شيء...
آه لقد انتهت الطلقات...لقد فشل في الحفاظ عليهم...و الان كان سيفشل في الحفاظ على سلامة أخيه الأصغر.. رايلين.
ارتجف جسد الصبي كان عقله يدور بسرعة بحثاً عن طريقة للهروب..
كان الأمر صعبا لقد جلسوا في مكان ضيق لساعات طويلة لذلك كان من الصعب عليهم الوقوف ناهيك عن الركض و الهروب.
تشكلت الدموع في أعين الصبي، عندها تحدث الرجل بفتور أثناء مد يده نحو الصبي.
"انا طبيب."
قام الرجل بامساك المسدس في يد الصبي.
"اقوم بإنقاذ الناس."
نزع الرجل المسدس من يدي الصبي. صمت قليلا أثناء اللعب في المسدس بيديه.
لم تبدوا الطريقة التي يلعب بها بالمسدس باحتراف كطريقة طبيب يمسك سلاح لاول مره.
"لذلك قلها. من فضلك انقذني ايها الطبيب."
ارتجفت أكتاف الصبي من التواصل البصري مع الرجل. إلا أنه تحدث حتي وأثناء ارتجافه.
"و.. وما الثمن...انا لا املك شيء.."
ارتفعت أحدي زوايا فم الرجل.
"بالطبع لكل شيء ثمنه، لكن لا يجب عليك أن تقلق الان. لذلك قلها."
ارتجفت أكتاف الصبي و تدفقت الدموع من عينيه الا أنه سرعان ما هزم تلك الدموع بنظرة مصممة يأكلها الاستسلام.
قام بفتح يديه للرجل. مثل طفل يطلب من شخص بالغ أن يحمله.
"م..من فضلك ايها الطبيب قم بإنقاذي...من فضلك انقذني انا وأخي."
"تمام."
ابتسم الطبيب وقام بحمل الصبي بين زراعيه كان خفيفا، ولم يبدوا الطبيب منزعجًا من وزن الصبي الغير عادي.
حول الطبيب نظرة من الصبي المرتعشة بين يديه الي الطفل الذي كان ينظر إليه بهدوء من حاوية القمامة.
هل كان يتبع خطوات شقيقه الأكبر ؟
قام الطفل بفتح زراعية وكأنه يطلب منه أن يحمله...رغم ذلك وعلى عكس توقعات الرجل فقد رفض الطفل لمساته. كان يطلب من أخيه الأكبر أن يحمله، وليس الرجل.
****
بالنسبة لرايلين كانت السعادة مفهوم ملتوي...هل من المقبول قبول السعادة التي تنتج من تضحيات الآخرين ؟
في ذلك الوقت اعتقد رايلين أن الأمر صحيح، لم يكن لديه اي مشكله في احتضان السعادة التي تنتج من تضحيات الآخرين. لكل شيء ثمن وكان ثمن سعادة رايلين هي صحة شقيقه، ادوارد.
لذلك لم يكن أمام رايلين خيار سوى مشاهدة شقيقه يذبل يوما بعد يوم مرضا من العقاقير التي يعطيها له ذلك الرجل المجنون. كانت الصفقة صفقة مقابل الحياة الرغيدة التي وفرها لهم ذلك الرجل كان علي ادوارد أن يخضع لبعض التجارب وتناول العقاقير المختلفة.
مقابل صحة شقيقه استطاع رايلين أن يذهب للمدرسة عندما توقفت الحرب، تذوق العديد من الأطعمة التي لم يتناولها من قبل ولم يكن عليه أن يخاف من الشتاء أو البرد، لم يكن هناك بالغ سئ يضربه والأهم من ذلك عاش هو وشقيقه في منزل واسع ولم يكن عليه أن يخاف من فكرة التبني والافتراق عن شقيقه في يوم من الايام. والأهم من ذلك لم يمس ذلك الرجل رايلين بالسوء ابدا.
لذلك لم يكن من الصعب علي رايلين غض النظر قليلا عندما يمرض شقيقه، عندما يفقد توازنه باستمرار أو عندما يتقيء الدماء أو ينزف.
في الحقيقة لقد أعتقد رايلين أنه كان محظوظاً، فعندما يمرض شقيقه كان هو وحده من يعتني به وعندما يستعيد شقيقه وعيه كان سيثني عليه كثيراً ويعطيه الحلوي لحسن عمله.
لذلك ذات مرة رايلين ذي العشر سنوات تمني امنيه بسيطة.
-'اتمني أن يمرض اخي دائما حتي يتثنى لي الاعتناء به وتلقي الكثير من الثناء -!'
من كان يعلم أن امنية طفل بريئ سيتم ترجمتها بهذا الشكل الملتوي؟
في شتاء رايلين الثاني عشر فقد شقيقه وعيه...لقد دخل في غيبوبة.
لذلك لم يعد أمام رايلين خيار سوي طرق أبواب ذلك الرجل.
-''من فضلك-! من فضلك ساعد أخي!"
ترجاه رايلين.
رغم ذلك فقد نظر إليه الرجل في سخرية ثم وضع يديه علي كتفه وطوى عينيه بشكل هلالي وتحدث بجفاف.
"لقد حان الوقت، عليك أن تتحمل المسؤولية"
لذلك كانت قوانين اللعبه سهلة، تغير اللاعب لا يعني انتهاء اللعبة. كان علي رايلين أن يأخذ مكان شقيقه في المقابل كان الرجل سيوفر مصاريف العلاج اللازم ليستيقظ ادوارد.
أن كذب رايلين فسيقول أن الوقت مر بسرعة. لم يكن الوقت سريعا ابدا علي رايلين، عشر سنوات كانت أكثر من اللازم الطفل الذي توقفت سعادته في الثانية عشر، أصبح شاباً ذو إثنان وعشرون عاماً. وحتى الآن لم يستيقظ شقيقه...
ولم يعد يتذكر ما كان لون عيناه؟ كيف كان صوته؟ هل كانت نبرته لطيفه ام قاسية؟ آه...لم يعد رايلين يتذكر شيئا عن شقيقه، سوي تلك الصورة المريضة التي ترقد بين الحياة والموت علي سرير المشفي.
رغم ذلك كان عليه أن يستمر...كان عليه أن يقاتل للشخص الذي لم يعد يتذكره، للشخص الذي يحبه، لاثمن من في هذا العالم، لشقيقه.
لذلك أن استطاع أن يعيد الزمن الي الوراء...أن استطاع...
اه..لقد كاد أن يكذب مره اخري...لقد كان رايلين انانيًا، أن عاد الزمن الي الوراء لن يحدث فرقا، فمرة أخري كان رايلين ليمسك يد ذالك الرجل...ربما كان ليتمسك بها كحبل النجاة الأخير.
كان رايلين انانيًا، لم يكن يرغب في أن يتجمد من البرد عندما كان في السادسة من عمرة ولم يرغب في أن يموت من الجوع وكان سيخاف مرة أخرى من الشتاء، حتي الدماء والجثث الملقاة على الأرض كانت ستخيفه.
لذلك كان سيتمسك في يد الرجل التي ستمد إليه مرة أخري...رغم ذلك ربما بطريقة مختلفة...ربما كان هو من سيمسك بتلك اليد بدلاً من شقيقه..ربما كان هو من سيضحي بصحته من أجل سعادة شقيقه.
كان لكل شيء ثمن، وكان علي رايلين أن يضحي بصحته ليخلق السعادة لشقيقه.
"هههه"
خرجت ضحكه جافة من فم كاسبر.
دفع؟ سعادة ؟ العودة للماضي؟
ماذا عليه أن يقول بدل السخرية؟ والان وبدل أن تحدث له معجزه ويعود للماضي انتقل فجأة لعالم الرواية وأصبح "كاسبر"، شخصاً لم يسمع عنه قبل.
ربما كانت هذه هي عاقبة رايلين...الشخص الذي يفكر بانانية حتي النهاية..
لم يكن هناك شيء مثل العودة بالزمن والحصول على فرصة جديدة...لقد تم نفيه، حتي عالمه لم يعد يريده...لقد طرد الي عالم جديد. عالم حيث لا يوجد رايلين.
لكن ماذا عليه أن يفعل؟ حتي أن لم يرده العالم فقد كان عليه أن يعود. بعد كل شيء كان عالمه يحتضن أثمن ما له، شقيقه. والمكان الذي ينتمي إليه شقيقه كان رايلين ينتمي إليه.
تنهد كاسبر.
الآن وبعد أن اختفي رايلين لم يعد هناك من يعتني بشقيقه..ولم يكن يعلم ماذا سيفعل ذلك الرجل المجنون بشقيقه أن لم يعد رايلين...ربما يقوم بقطع مصاريف العلاج..ربما اسوأ...قد يقطع أجهزة حياة ادوارد...
لقد مر اسبوع منذ أن انتقل رايلين الي هذا العالم...ولم يعلم كم مر في عالمه..لكنه تمني..رايلين الذي لم يعد يتمني أو يطلب اي شيء منذ آخر أمنية كارثية له..تمني.
"اتمني أن يكون الوقت في عالمي قد توقف."
لضمن سلامة شقيقه وحتي يعود رايلين تمني أن يتوقف الوقت في عالمه.
قام كاسبر بفرك عيناه الواخذة.
''انا حقا...علي أن أعود..."
تردد صوته المتعب في أنحاء الغرفة الفارغة.