الفصل 2 : نقطة تحول

وقف ريو أمام الباب الخشبي الطويل-مكتب والده.

تردد للحظة واستقرت يده على مقبض الباب.

"هذا المكان…نفس هذا الصمت."

فتحه ببطء

الإضاءة الخافتة, رائحة الجلد القديم و الثقل في الهواء. كل شيء كان كما كان في ذلك اليوم.

قبل شهرين وقف ريو في هذا المكان بالذات واتخذ أول قرار حاسم في حياته.

"هل تريد مغادرة المدرسة الخاصة؟"

كان صوت والده يتردد من الماضي الى مسامعه.

"لماذا؟"

تذكر مدى ثقل وصعوبة الاجابة على هذا السؤال البسيط في ذلك الوقت.

كان واقفا هناك وعيناه ثابتتين لكن صوته كان يرتجف.

"لأنني متعب, متعب من كل شيء."

أضاف بصوت اعلى وهو يقبض على يده بشدة

"لا احد يعاملني كانسان هناك, طالما لست جيدا في الدراسة فأنا مجرد فاشل غير مرغوب فيه…حتى انت, تراني كذلك!"

" ماذا تقصد بكلامك؟" رد تاكاهاشي ماكوتو بصوت حاد ومباشر

"في كل يوم أعود فيه إلى المنزل, كنت تجبرني على القدوم الى هنا…حتى قبل التفكير في أي شيء."

أضاف وهو يشد على فكه.

"وأقف في هذا المكان اللعين بالظبط أمامك. اسرد عليك ماحدث في يومي بتفاصيله, وتعاتبني وان تأخرت لبضع دقائق فقط…"

"احقا تعتبرني ابنا لك! ام انني…بمثابة خادم أو موظف عندك!"

قال ريو بصوت متقطع خافت وهو يذرف الدموع."انا لست كذلك, ولن أفعل ذلك بعد الآن"

"ريو!!"ضرب ماكوتو على المكتب ونهض من كرسيه, ثم أضاف بصوت أكثر حدة

"لقد تماديت كثيرا ايها الفتى."

"انت, محال عليك أن تفهم ما اشعر به." قال ريو وهو يمسح دموعه, ثم أضاف بصوت اكثر اتزانا يحدق في عيني والده مباشرتا.

"لنعقد اتفاقا".

"اتفاق؟".

"امنحني سنتي الأخيرة من المرحلة الثانوية, اكون حرا فيها. وأنجز الأمور بطريقتي…"

"وأصبح واحدا من الأوائل في المدرسة الجديدة".

"ان نجحت, فلن يحق لك التدخل في حياتي بعد ذلك."

"وإن لم تفعل؟"

شد ريو فكه لبضع ثوان وحول نظره إلى الأرض.

"حين إذن يمكنك أن تفعل بي ماتشاء…"

تابع وهو يعيد نظره نحو والده بكل ثقة.

"ولن أناقشك في أي شيء"

كان هذا هو الاتفاق. اتفاق احمق و قرار جريء, أول قرار يتخذه ريو لنفسه.

و الان بعد شهرين, ها هو ذا واقف في نفس المكان مجددا ولا يزال هذا الاتفاق قائما.

دخل ريو الغرفة بكل قوته واغلق الباب خلفه بنقرة هادئة.

جلس والده, تاكاهاشي ماكوتو خلف مكتب ضخم من خشب اسود وضعت عليه في الجانب ساعة خشبية من طراز قديم وبضعة ملفات وأوراق متناثرة كان يوقعها بقلم اسود عليه نقوش ذهبية.

لم يرفع السيد تاكاهاشي نظره عن الورقة التي في يده.

"لقد تاخرت." قال بهدوء

كانت عيناه رماديتان مائلتان إلى الزرقة, باردتين كأنما تخلو منها أية مشاعر.

"اجلس."

أطاع ريو الأمر وجلس على الكرسي الجلدي أمام والده ولم ينطق بكلمة بعد.

"اخبرني", تابع والده."ماذا تعلمت اليوم."

تردد ريو للحظة ثم قال

"انها مدرسة جيدة, وطلابها عاديون. والنظام هناك…اعتقد, يمكنني مواكبته."

"تعتقد؟" رد تاكاهاشي ماكوتو وهو ينقر على الطاولة.

بدأ ريو يتصبب عرقا و الهواء من حوله يصبح أكثر ضيقا.

"سأبذل جهدا أكبر من أي وقت مضى, لكي أنجح بطريقتي. لأن هذا ما اريده."

نهض السيد تاكاهاشي من على كرسيه ووقف عند النافذة الواسعة في مكتبه, يتأمل مشهدا رائع للعاصمة طوكيو ليلا. عيناه الحادتين بدا عليهما نوع من الحزن.

"هذا العالم لا يكترث لما تريده يا ريو."

"أتظن أن الحرية حق تمتلكه؟ انها ليست كذلك…"

نظر ريو مباشرة في اتجاه والده.

"الحرية لا تمتلك, بل تكتسب…بالعمل الدؤوب…بالتضحيات."

"وان اكتسبت حريتك يوما ما…"

استدار إلى مكتبه, ثم أكمل.

"فقد تفقدها في أي لحظة. لدى لا تتشبث بأمور كهذه, اتفهم؟"

شد ريو قبضتيه, وأومأ برأسه امائة خفيفة.

"اِخْتَرْتَ هذا الطريق وتركت لك أن تسلكه. بعد أن تخليت عن كل مابنيته لك, وكل فرصة مصممة خصيصا لمستقبلك."

"لا تخيب ظني بك."

"مفهوم."

صمت قصير ساد المكان, بعدها انحنى تاكاهاشي ماكوتو الى الخلف على كرسيه, وأطلق تنهيدة. كأن المناقشة قد انتهت.

"حسنا, يمكنك الذهاب."

استدار ريو ليغادر, وعندما وضع يده على مقبض الباب تحدة والده مرة أخرى.

"يمكنك ان تكتفي بالقدوم الى هنا أيام الخميس فقط ."

لم يرد ريو وإنما أومأ برأسه موافقا, ثم خرج و اغلق الباب خلفه برفق وأطلق انفاسه التي كان يحبسها طوال الوقت.

ساكنا للحظة, وعيناه منخفضتان. وقف خارجا بينما ساد الصمت الردهة بشكل غريب بعد ثقل الحديث الذي خاضه.

ثم سمع صوتها الناعم الدافئ

"هل انتهيت؟"

نظر الى الأعلى

وقفت مياكو عند النافذة في نهاية الممر, يداها معقودتان برفق أمامها, كانت محاطة بضوء ذهبي خافت يتسلل عبر الزجاج وشعرها البني الناعم يتدلى على فستانها الأزرق الطويل, بينما تعلو محياها ابتسامة مشرقة.

أومأ ريو ببطء "اجل, اعتقد."

اقتربت منه بخطوات خفيفة, و دون أن تنطق بكلمة مدة يدها وضمته اليها, ثم استقرت يدها برفق على كتفه.

"ما رأيك أن نتناول الطعام بالخارج…اتأتي معي."

لم يجب ريو فورا, لكن تعابيره بدأت تتغير و نوع من الارتياح بدا ظاهرا على وجهه, ثم ببساطة قال

"حسنا."

انزلقت السيارة عبر وهج المدينة المسائي, في الداخل جلس ريو صامتا وعيناه غارقتين في ضبابية الأضواء العابرة, ولايزال صدى حديثه مع والده يتردد في ذهنه.

بجانبه جلست والدته مياكو تاكاهاشي, تنظر اليه وتلاحظ تصلب كتفيه.

"لقد قمت بعمل جيد." قالت بهدوء

"لا أشعر بذلك." تمتم وهو يتنفس بصعوبة

ابتسمت مياكو ابتسامة هادئة.

"لكنك تحدثت بصراحة و هذا يكفي, اليس كذالك."

"لا ادري, لكن اشعر انه لا يفهمني…"

"مع أني أخبرته بصراحة بما اريده, هو لا يزال غير مقتنع."

"لماذا لا يحاول أن يفهمني؟"

"اتعلم؟ وجهك الان يذكرني بك و انت صغير, عندما كنت تبكي لانه تم اجبارك على شيء لا تود القيام به."

ابتسم بمرارة و امال راسه للاسفل

"أكنت عنيدا حتى في ذلك الوقت؟"

امالت الام راسها هي الأخرى بلطف, واجابت

"وما زلت. لكن عنادك هو ما يجعلني أؤمن أنك ستصل إلى ما تريد، حتى إن لم يبدُ والدك مقتنعًا الآن."

ظل ريو صامتا للحظة, موجها نظره الى الأسفل وعيناه تكاد تذرفان الدموع . ثم قال بصوت منخفض:

"انا مجرد فاشل, لا أجيد القيام بشيء…"

"ومع ذلك, انا عنيد و أرفض القيام بالأمور بالطريقة التي ترغبون بها "

"لطالما اوهمت نفسي بأنني على صواب, و انتم المخطئون…"

"فقط لاني ظننت ان لا احد يفهمني".

"اسف, انا اسف"...

"لكوني مجرد ازعاج للجميع".

مدة مياكو يدها وقامت بضمه برفق, ودفئها كان كفيلًا بأن يذيب جزءًا من حزنه.

"انت لست كذلك, ولا احد يراك بتلك الطريقة".

"منذ اللحظة التي ولدتك فيها وانا فخورة بك, لانك ابني…"

"و كنزي الوحيد يا ريو, سأحبك دوما مهما حدث".

لم يستطع ريو حبس دموعه بعد سماع كلماتها الدافئة, وأجهش بالبكاء في صمت

بعد ان ارتسمت على وجهه ابتسامة صافية و غمره شعور دافئ, كأن الثقل الذي كان في صدره قد زال إلى الأبد.

في صباح اليوم التالي، كان ريو يقف أمام المرآة في غرفته، مرتديا زيه المدرسي الانيق و يربط ربطة عنقه ببطء،

بينما لا يزال صدى كلمات والدته يرافقه.

هذه المرة خرج من المنزل مبكرا خلاف المرة الماضية, واستقل السيارة مع يامازاكي

"ها نحن ذا, سيدي الشاب".قال يامازاكي بابتسامة خفيفة بعد ان توقفت السيارة قرب بوابة المدرسة.

أومأ ريو برأسه, و امسك حقيبته."شكرا, يامازاكي".

كانت ساحة المدرسة خالية, و الشمس بدأت تشرق بالفعل.

دخل ريو وقام بتحية حارس البوابة بابتسامة واسعة وأكمل طريقه إلى داخل المدرسة.

انعكس ضوء الصباح الباكر على الممر وتردد صدى حذائه بهدوء وهو يشق طريقه إلى الفصل.

عندما فتح الباب كان الفصل خاليا تماما.

توقف عند المدخل.

"انه امر مختلف عندما لا يكون هناك احد". قال بهدوء وهو يتأمل المكان.

توجه الى مقعده ووضع عليه حقيبته, سحب كرسيه ثم جلس ببطء و عيناه تتجهان نحو النافذة في الخارج يتأمل السماء الصافية في صباح يوم مبكر.

اتكأ على يده واصابعه على خده و عيناه نصف مغلقتين.

ثم-

انفتح باب الفصل

حرك ريو راسه قليلا

لقد كان هارو

راقبه ريو وهو يدخل بهدوء, كان تعبيره غير مبال وبارد كالعادة.

نظر اليه هارو لبرهة ثم تجاهله, وببساطة اتجه الى مقعده وسحب كرسيه ليجلس دون أن ينطق بكلمة.

"ربما الآن هو الوقت المناسب ". فكر ريو

"صباح الخير-" كاد أن يقول, لكن الكلمات علقت في لسانه.

"لا… ليس بعد".قال وهو يعيد نظره الى النافذة من جديد.

رنّ الجرس الأول معلناً بداية اليوم الدراسي.

في حصة الرياضيات، كان المعلّم يشرح معادلات طويلة على اللوح

همس ناكاجيما كايتو "يا رجل، هل تفهم شيئًا من هذا؟"

ضحك ريو بخفّة وهو يكتب في دفتره دون أن يرفع رأسه "أنا أفهم شيئًا واحدًا… أنني سأحتاج من ينقذني إذا جاءت الاختبارات قريبًا."

انفجر كايتو بالضحك، فالتفت بعض الطلاب نحوهما بابتسامات، وبدأ الحاجز بين ريو والبقية يذوب شيئًا فشيئًا.

انتقلت الحصة التالية إلى الأدب الياباني. فتح المعلّم كتابًا وطلب من الطلاب القراءة بصوت مرتفع.

عندما جاء دور ريو، قرأ بلهجة جدية أكثر مما ينبغي، ما جعل صوته يبدو مسرحيًا. عمّت القاعة ضحكة صغيرة،

لكنه ابتسم بخفة وقال: "آسف."

ضحك الجميع أكثر، حتى المعلّم ابتسم نصف ابتسامة قبل أن يطلب منه المتابعة.

في حصة العلوم جلس يستمع بانتباه، يحاول لأول مرة أن يثبت لنفسه أنّه قادر على التركيز. ومع ذلك، في لحظة شرود قصيرة، كتب على زاوية دفتره بخط صغير:

"الوقت يمر ببطء شديد"

وأخيرًا، عندما رنّ الجرس معلنًا نهاية الحصة الأخيرة قبل الغداء، تنفّس ريو بارتياح، ومدّد ذراعيه للأعلى.

امتلأ الممر بأصوات الطلاب, خرج ريو من الفصل الدراسي وبجانبه ناكاجيما كايتو

"هيا بنا, سأخذك في جولة سريعة حول المدرسة". قال كايتو وهو يعدل نظارته

كانت الممرات نظيفة ومشرقة, تصطف على جانبيها خزائن ولوحات اعلانات مرتبة بعناية.

بدأ كايتو بالإشارة إلى بعض الاشياء.

"نحن الآن في جناح العلوم,غرفة المختبر من هنا, في آخر هذا الرواق ستجد المكتبة, أما الصالة الرياضة ففي الطرف الآخر من المبنى…وهذا الدرج ياخد الى السطح-"

مروا بمجموعة من الطلاب يتحدثون, بعضهم متكئ على النوافد و البعض الاخر جالس على مقاعد بمحاذاة الجدران.

لاحظ ريو النظرات الثاقبة نحوه, ذلك النوع من الفضول الذي يخصص للوافدين الجدد.

"حسنا, ما رايك ان اعرفك على المصنفين الأوائل في المدرسة …" قال كايتو

"بما انك طالب هنا الان, فمن واجبك أن تسعى نحو المراتب الأولى." وتابع

"معرفة منافسيك ستكون خطوة جيدة".

"اجل من فضلك." قال ريو بشغف

الفصل B-3 ذلك الفتى ذو الشعر المصفف بعناية, الذي يقرأ كتابا مدرسيا,"هذا تاناكا اجي, الثاني في تصنيف المدرسة".

الفصلD-3, "هيماري ساتو" فتاة ذات شعر اسود قصير وعيون حادة,"لقد حافظت على المركز الثالث لعامين متتاليين"

ذات المرتبة الرابعة…"فوجيموتو ايري" في الفصل E-3

الفصلC-3,"ساتو رينا" في المرتبة الخامسة.

واخيرا, الفصل A-3 "الفتى المعروف, ناوكي هارو. المركز الاول في مدرسة دايتشي الثانوية خلال العامين الماضيين, ومن المتوقع انه سيحافظ على مركزه هذه السنة ايضا".

تبع ريو هارو بنظراته , لم يرفع الصبي رأسه ولو للحظة, كان يدون ملاحظات في دفتره أو شيء من هذا القبيل.

"الجميع يتجنبه,هاه…ومع ذلك هو في القمة".

"انا حقا اريد معرفة ما يدور في ذهن هذا الفتى".

"حسنا…"قال كايتو

"الطريق أمامك صعب, لبلوغ المركز الثاني فحظا موفقا".

"لما المركز الثاني؟" تسائل ريو

"ألا زلت لا تفهم مالذي يجري هنا…"

"الطلاب في مدرستنا قد سأمو بالفعل محاولة الوصول إلى المرتبة الأولى, لذى فهم يتنافسون على المركز الثاني الان."

"انت تستهين بقدراتي". قال ريو

"يا اخي, أنت لا تفهم الفرق الشاسع الذي بيننا وبينه".

"سابذل قصار جه-". كاد أن يقول ريو, بينما قاطع كايتو

"لا لا لا, الأمر مستحيل".

"لكن-".

"قلت مستحححيل, اتفهم"

"حسنا, حسنا فقط اهدئ".

ابتسم كايتو ابتسامة خفيفة وقال

"ما رأيك أن نذهب للمقصف, انا جائع بعض الشيء".

"انا بخير يمكنك الذهاب لوحدك".

"سأعرفك طلاب فصلنا واحدا واحدا فيما بعد, اراك لاحقا اذن".

ابتسم كلاهما في وجه الآخر قبل أن يفترقا.

بقي ريو لبرهة اطول يراقب هارو الذي نهض بالفعل من كرسيه وتوجه خارج الفصل.

بشكل تلقائي تبعه ريو متسللا خلفه.

كان هارو يشق طريقه عبر الممرات بهدوء و ثبات , حتى وصل إلى الدرج المؤدي الى السطح.

"السطح!؟" فكر ريو بينما يختبئ كي لا يلمحه هارو.

بقي يختبئ لبضع ثوان ثم اكمل ملاحقته , في حين سمح صوت صرير فتح الباب

"لقد وصل بالفعل".

صعد ريو الدرج بهدوء حتى انتهى بباب فولاذي مد يده ثم فتحه مصدرا صوت صرير خافت.

استقبلته رياح منعشة وباردة , تداعب شعره البني الداكن.

متكئا الى السور وجالسا على الارض بجانب الباب مباشرة

كان هارو.

وقف ريو في المدخل مترددا للحظة

لكن-

شيئا ما قد تغير هذه المرة

ما جعله يتقدم إلى الأمام.

2025/10/10 · 6 مشاهدة · 1892 كلمة
mossa3id
نادي الروايات - 2025