1 - المُتوحشون—الفصل الأول

الفصل الأول

الليل ملكه. لبس ظلاله، وتذوق روائحه. استمتع بأصواته وصمته. قفز كاو من سطح إلى آخر؛ ولد تشهد عليه فقط العين البيضاء للقمر والغربان الثلاثة التي تحلّق في السماء المظلمة فوقه.

انبسطت بلاكستون مثل تمدد جرثومي في كل الجهات. تأمل كاو الأضواء الوامضة في المدينة؛ ناطحات السحاب ارتفعت صوب الشرق، وإلى الغرب امتد المشهد اللامتناهي للسقوف المائلة للأحياء الفقيرة والمداخن العاملة في المنطقة الصناعية. في الشمال، لاحت المباني المهجورة. أمّا نهر «بلاك واتر» فموجود في مكان ما إلى الجنوب، وهو عبارة عن نهر موحل كدر يحمل الأوساخ بعيداً عن المدينة؛ ولكن من دون أن يجعلها أكثر نظافة على الإطلاق. استطاع كاو شمّ رائحته النتنة والكريهة.

انزلق على اللوح الزجاجي المتسخ لكوّة في سطح بيت، ووضع يديه بنعومة على الزجاج، وحدّق عبر بريقه الناعم. ثمة عامل تنظيف محدّب يمرر ممسحة ودلواً عبر الممر في الأسفل، تائهاً في عالمه الخاص. لم ينظر إلى الأعلى. إنهم لا يفعلون ذلك أبداً.

انطلق كاو مجدداً، مروِّعاً حمامة مكتنزة، وواثباً فوق لوحة إعلانات قديمة، وهو على يقين من لحاق غربانه به. اثنان من الغربان لا يمكن رؤيتهما بوضوح؛ إذ كانا مثل ظلين أسودين كالقطران. أما الثالث فكان أبيض اللون، وجعله ريشه الشاحب يسطع مثل الشبح في العتمة.

أنا أتضوّر جوعاً. تمتم سكريتش، أصغر الغربان. كان صوته عالياً وحاداً.

أنت دائماً تتضوّر جوعاً. قال غلام، وهو يخفق بجناحيه ببطء وثبات. الصغار شرهون جداً.

ابتسم كاو. بالنسبة إلى أي شخص آخر، يعتبر نعيق الغربان مجرد صيحات طيور عادية. لكن كاو يسمع أكثر؛ أكثر بكثير.

ما زلت أنمو! قال سكريتش، وهو يخفق بجناحيه بسخط.

المؤسف أن دماغك لا ينمو! قال غلام ضاحكاً.

حلّق ميلكي، الغراب الأبيض العجوز الأعمى فوقهما. كالعادة، لم يقل أي شيء على الإطلاق.

أبطأ كاو سرعته ليلتقط أنفاسه؛ سامحاً للهواء البارد بملء رئتيه. أصغى إلى أصوات الليل؛ إلى حفيف إطارات سيارة على الزفت الناعم، وخفقان موسيقى بعيدة. وفي البعيد البعيد، ثمة صفارة ورجل يصرخ، لكن كلماته غير واضحة. لا يبالي كاو إذا ارتفع صوته بسبب الغضب أو السعادة. فهناك في الأسفل، يعيش السكان العاديون في بلاكستون. أما هنا في الأعلى، بين سحب الأفق، فالمكان له ولغربانه.

اجتاز دفق الهواء الساخن المنبعث من فتحة مكيّف هواء، ثم توقف وفتح منخريه جيداً.

طعام. شيء مالح.

قفز كاو إلى حافة سطح مبنى وحدّق من الأعلى. في الأسفل، وجد باباً يؤدي إلى ممرّ مليء بأكياس النفايات. إنها الجهة الخلفية لمطعم وجبات سريعة يفتح 24 ساعة يومياً. عرف كاو أنهم يرمون غالباً طعاماً جيداً تماماً؛ بقايا ربما، لكنه ليس صعب الإرضاء. جعل نظره يركّز على كل زاوية معتمة. لم يرَ أي شيء يقلقه، لكن الأمر محفوف دوماً بالمخاطر على مستوى الأرض. إنه مكانهم، وليس مكانه.

حطّ غلام قرب كاو وحنى رأسه، فلمع منقاره القصير والعريض باللون الذهبي، عاكساً ضوء مصباح الشارع. سأل: هل تعتقد أن هذا آمن؟

إلا أن حركة مفاجئة لفتت انتباه كاو. إنه جرذ يفتش في أكياس النفايات في الأسفل. رفع رأسه ونظر إليه من دون خوف. قال كاو: «أعتقد ذلك. ابقَ يقظاً».

عرف أن غربانه لا تحتاج إلى إنذار، فقد أمضوا ثمانية أعوام معاً، ويستطيع الوثوق فيها أكثر مما يثق في نفسه.

أرجح كاو ساقاً فوق حافة السطح، وهبط بنعومة على أرضية منفذ الحريق. هبط سكريتش صوب الأسفل، وحطّ على جانب سلّة نفايات، فيما انزلق غلام على زاوية السطح، مشرفاً على الشارع الرئيس. هبط ميلكي على درابزون منفذ الحريق، وخربشت مخالبه على المعدن. الجميع في وضعية مراقبة.

زحف كاو لنزول الدرج. جلس القرفصاء هنيهة، مثبتاً عينيه على الباب الخلفي لمطعم الوجبات السريعة. رائحة الطعام جعلت معدته تقرقر بعنف. بيتزا، فكّر في سرّه. برغر أيضاً.

تسلل كاو إلى أقرب كومة نفايات، وعثر على علبة بوليستيرين صفراء لا تزال فاترة. فتحها، فرأى رقاقات بطاطا مقلية! وضع كمية كبيرة منها في فمه. كانت دهنية، ومالحة، ومحروقة قليلاً عند الحواف. إنها لذيذة. علق الخلّ الحمضي في حنجرته، لكنه لم يهتم؛ فهو لم يتناول الطعام منذ يومين. ابتلع من دون مضغ، وكاد أن يختنق. ثم وضع المزيد في فمه. وقعت رقاقة بطاطا من يده، فحضر سكريتش خلال ثانية، وانقضّ على الفتات بمنقاره.

صراخ أجشّ من غلام.

جفل كاو واختبأ خلف سلة النفايات، فيما فتّشت عيناه في العتمة. خفق قلبه بقوة فيما ظهر أربعة أشخاص في طرف الممر.

قال الأطول: «هاي! ابتعد عن مخبئنا!».

تراجع كاو إلى الخلف، ممسكاً بالعلبة قرب صدره. طار سكريتش، وخفق بجناحيه في الهواء.

اقترب الأشخاص أكثر فأكثر، ولمع قوس من ضوء الشارع على وجوههم. إنهم صبيان، أكبر منه ربما بسنتين. وهم مشرّدون؛ وفقاً لملابسهم الرثة.

قال كاو وهو يومئ صوب مكبّ النفايات: «هناك ما يكفي». شعر بالغرابة وهو يتحدث إلى أشخاص آخرين. فهذا يحصل نادراً جداً. كرّر: «هناك ما يكفي لنا جميعاً».

قال صبي يضع حلقتين في شفته العلوية: «لا، لا يكفي». وتقدم الآخرين، وبرم كتفيه بطريقة متباهية. «هناك ما يكفي لنا نحن فقط. كنت تسرق».

قال سكريتش: «هل ننقضّ عليهم؟».

هزّ كاو رأسه. لا جدوى من التعرض للأذى بسبب بضع رقاقات بطاطا مقلية.

قال الصبي الطويل: «لا تهزّ رأسك أمامي أيها السارق الصغير الحقير. أنت كاذب!».

قال صبي أصغر سنًّا بنبرة ساخرة: «إنّه فظّ، ورائحته نتنة أيضاً».

شعر كاو بسخونة كبيرة في وجهه، وتراجع خطوة إلى الخلف.

سأل الصبي الذي يضع الحلقتين في شفته: «إلى أين ستذهب برأيك؟ لماذا لا تبقى قليلاً؟». تقدّم صوب كاو وضربه بقوة على صدره.

الهجوم المفاجئ أذهل كاو فوقع أرضاً، مستلقياً على ظهره. طارت العلبة من يديه، وتناثرت رقاقات البطاطا المقلية على الأرض.

طوّقه الصبيان على الفور.

«ها هو الآن يرميها على الأرض!».

«سوف تجمعها؟».

وقف كاو بسرعة على قدميه. لقد أوقعوه في شركهم. «يمكنك الحصول عليها».

قال الزعيم: «لقد فات الأوان على ذلك». ومرّر لسانه على الحلقتين في شفته، فيما مدّ يده إلى جيبه. «والآن، سوف تدفع ثمن ذلك. كم تملك من المال؟».

قلب كاو جيبيه، فيما خفق قلبه بقوة. «لا شيء».

لمع نصل السكين وهو يخرج من جيب الصبي. «في هذه الحالة، سوف نأخذ أصابعك السارقة عوضاً عن ذلك».

تقدم الصبي إلى الأمام، فأمسك كاو بحافة سلة النفايات وقفز على سطحها.

قال الصبي: «إنه سريع، أليس كذلك؟ اقبضوا عليه».

طوّق الصبيان الثلاثة سلة النفايات. ضرب أحدهم كاحل كاو، فيما بدأ آخر بهزّ سلة النفايات. كافح كاو للحفاظ على توازنه، فيما كانوا جميعاً يضحكون.

شاهد كاو أنبوب تصريف على مسافة ثلاثة أمتار إلى يساره، فقفز إليه. لكن، فيما أمسكت أصابعه بالمعدن، انفصل الأنبوب عن الجدار وتطاير غبار الحجارة. سقط وارتطم بالزفت على جانبه، وانفجر الهواء من رئتيه. اقتربت منه أربعة وجوه مبتسمة.

قال الزعيم: «ثبتوه في مكانه. أمسكوه جيداً».

«أرجوكم... لا...». قاوم كاو، لكن الصبيان جلسوا على ساقيه وشدّوا ذراعيه. كان ممدد الذراعين والساقين، فيما الصبي صاحب السكين فوقه. «أي جهة أختار أيها الرفاق؟». وجّه طرف نصل السكين صوب يدي كاو بالتناوب. «اليسار أم اليمين؟».

لم يلمح كاو غربانه، ودبّ الذعر في عروقه.

جلس الصبي القرفصاء، واضعاً ركبته على صدر كاو. «إيني ميني سيني تحت البساتيني...». تمايل طرف السكين من جانب إلى آخر.

انتبه كاو! نادى غلام. نظروا جميعاً إلى الأعلى في اتجاه النعيق القوي الصادر عن الغراب، ثم امتدّت يد من الأعلى وأمسكت بحامل السكين من الجهة الخلفية لياقته. صرخ الصبي فيما تم إبعاده بقوة عن كاو.

صدر صوت احتكاك بشرة ببشرة، فيما وقعت السكين على الأرض.

من أين جاء؟ قال سكريتش.

نهض كاو. ثمة رجل طويل ونحيل يمسك بالصبي من الجهة الخلفية لعنقه. نتأ شعر بني مجعد من تحت قبعة الرجل المليئة بالبقع. كان يرتدي طبقات عدة من الملابس المتسخة، ومعطفاً بنياً قديماً مثبتاً حول خصره بواسطة حزام على شكل حبل أزرق مهترئ. ثمة لحية صغيرة غطت فكه على شكل رقع غير متساوية. خمّن كاو أنه في منتصف العقد الثاني من عمره، ومشرّد.

قال الرجل بصوت خشن: «اتركوه وشأنه». في شبه العتمة، بدا فمه مثل فتحة سوداء.

قال الصبي الممسك بذراع كاو اليسرى: «ما علاقتك به؟».

دفع الرجل الصبي صاحب الحلقتين بقوة على سلة النفايات.

فقال الصبي الممسك بساقي كاو: «هذا الرجل مجنون! فلنذهب».

حمل الزعيم سكينه ووجهها صوب الرجل المشرّد، وصرخ قائلاً: «من حسن حظك أنك قذر جداً؛ فأنا لا أريد أن تتسخ سكيني. هيا أيها الرفاق».

زمجر الرجل بصوت عال: «اذهبوا من هنا».

استدار المهاجمون الأربعة، وخرجوا مسرعين من الممرّ. وقف كاو على قدميه، وأصبح نفسه قوياً. نظر إلى الأعلى، ورأى غربانه متحلقة مع بعضها على درابزون منفذ الحريق، وهي تراقبه بصمت.

بعد أن اختفى أفراد العصابة، خرج شخص آخر صغير من عتمة الممرّ للوقوف قرب الرجل. إنه صبي في السابعة أو الثامنة من عمره، باعتقاد كاو. كان وجهه الضيق شاحباً، وانتصب شعره الأشقر المتسخ على رأسه. «نعم، ولا تعودوا إلى هنا». صرخ وهو يحكم قبضة يده.

انقضّ كاو على رقاقات البطاطا المقلية المبعثرة على الأرض، وبدأ يعيدها إلى العلبة. لا داعي لتبديد وجبة جيدة. طوال الوقت، شعر بنظرات منقذه والصبي تحدّق في ظهره.

بعدما انتهى، وضع العلبة داخل الجيب العميق في معطفه، وأسرع صوب منفذ الحريق.

قال الرجل المشرّد: «انتظر. من أنت؟».

استدار كاو صوبه، وإنما أبقى عينيه على الأرض وهزّ رأسه. «أنا لست أحداً».

شخر الرجل بازدراء. «حقاً؟! أين أهلك؟ أليس لديك أحد؟».

هزّ كاو رأسه مجدداً، ولم يعرف ماذا يقول.

قال الرجل: «يجدر بك توخي الحذر».

«أستطيع الاهتمام بنفسي».

قال الصبي وهو يرفع ذقنه صوب الأعلى: «لا يبدو لنا الأمر هكذا».

سمع كاو صوت مخالب الغربان على الدرابزون فوقه، فارتفعت عينا الرجل صوبها لتأملها، ورسمت شفتاه شبه ابتسامة، وسأله: «أهذه الغربان صديقة لك؟».

قال غلام: حان وقت العودة.

تسلّق كاو السلم الفولاذي من دون النظر خلفه. تسلّق بسرعة، يداً فوق يد، وبالكاد أصدرت قدماه صوتاً في منفذ الحريق. وعندما وصل إلى السطح، ألقى نظرة سريعة أخيرة، وشاهد الرجل يراقبه، فيما الصبي الصغير منهمك بالبحث في سلة النفايات.

قال الرجل: «ثمة شيء سيّئ سيحصل. شيء سيّئ جداً. ستقع في ورطة. تحدث إلى طيور الحمام».

طيور الحمام! يستطيع كاو التحدث إلى الغربان فقط.

طيور الحمام! قال سكريتش كما لو أنه سمع فكرة كاو. يمكنك الحصول على منطق أكبر من الصخرة!

قال غلام: إنه غريب الأطوار. الكثير من البشر هكذا.

اندفع كاو صوب السطح وباشر في الركض. لكن فيما كان يركض، لم يستطع تجاهل الكلمات الواضحة للرجل. فهو لا يبدو مجنوناً في النهاية. كان وجهه قاسياً وعيناه واضحتين؛ وليس مثل أولئك الذين يتسكعون في الشوارع أو يطرقون على الأبواب متوسلين المال.

بالإضافة إلى ذلك، لقد ساعد كاو وعرّض نفسه للخطر من دون سبب.

حلّقت غربان كاو فوقه، وحامت حول المباني، ودارت حولها فيما شقت طريقها صوب عشها الآمن؛ منزلها.

بدأ خفقان قلبه يتباطأ، فيما عانقه الليل بجناح ظلامه.

2020/03/05 · 461 مشاهدة · 1621 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024