2 - المُتوحشون—الفصل الثاني

الفصل الثاني

إنه الكابوس نفسه. نفسه كما هي الحال دوماً.

عاد إلى منزله القديم. السرير ناعم جداً؛ حيث يشعر كما لو أنه مستلقٍ على سحابة. إنه دافئ جداً أيضاً ويتوق لأن يقلب نفسه، ويشدّ البطانية على ذقنه ويعود إلى النوم مجدداً. لكنه لا يستطيع أبداً؛ لأن الكابوس ليس مجرد كابوس عابر، بل إنه ذكرى.

خطوات أقدام مسرعة على السلالم خارج غرفته. إنهما آتيان إليه.

يؤرجح ساقيه خارج السرير وتنغرز أصابع قدميه في السجادة السميكة. غرفته معتمة، لكنه يستطيع رؤية ألعابه المصطفة فوق خزانة أدراج ورف مليء بالكتب المصوّرة.

يظهر شعاع ضوء تحت بابه، ويسمع صوتي والديه الملحّين.

يتحرك مقبض الباب ويدخلان. ترتدي أمه فستاناً أسود، ووجنتاها مغطاتان بالدموع. أما والده فيرتدي سروالاً مخملياً بنياً وقميصاً مفتوحاً عند العنق، وجبينه مبلل بالعرق.

قال كاو: «أرجوكما، لا...».

تمسك أمه يده بيدها، فيما راحة يدها مبللة، وتشدّه صوب النافذة.

يحاول كاو التراجع إلى الخلف، لكنه صغير في الكابوس، وهي قوية جداً بالنسبة إليه.

قالت: «لا تقاوم، أرجوك. هذا للأفضل. أعدك».

ركلها كاو على ساقيها وخدشها بأظافره، لكنها ضمّته إلى جسمها بقبضة حديدية، ودفعته إلى حافة النافذة. غرز كاو أسنانه في ذراعها، غير أنها لم تفلته؛ حتى عندما جرحت أسنانه بشرتها. فتح والده الستائر، ولهنيهة لمح كاو وجهه على زجاج النافذة؛ بدا قصيراً وبديناً ومذعور العينين وخائفاً.

انفتحت النافذة، ودخل هواء الليل البارد.

ها هو والده الآن يمسك به جيداً. امتلك كل من والديه ذراعاً واحدة وساقاً واحدة. ركل كاو وتلوّى وصرخ.

قالت أمه: «هشش هشش. سيكون كل شيء على ما يرام».

نهاية الكابوس تقترب، لكن معرفته ذلك لم تخفف من روعه. دفعاه وسحباه فوق حافة النافذة، حيث تدلّت ساقاه، ورأى الأرض بعيدة تحته. كان فك والده مشدوداً وقاسياً. لم ينظر إلى عين كاو مباشرة. لكن كاو لاحظ أنه كان يبكي أيضاً.

قال والده، وهو يفلت قبضته: «افعلها. هيا افعلها».

أراد كاو أن يصرخ: «لماذا؟». لكن كل ما خرج من فمه كان مجرد نحيب طفل.

قالت أمه: «أنا آسفة». وعندئذ، دفعته بعيداً عن النافذة.

لجزء من الثانية، انقلبت معدته. ثم التقطته الغربان.

غطت ذراعيه وساقيه، وانغرزت مخالبها في بشرته وبذلة نومه. سحابة داكنة ظهرت من حيث لا يدري، ورفعته إلى الأعلى.

غطى ريشها وجهه، وامتلأ أنفه برائحتها المزعجة.

إنه يطفو إلى الأعلى والأعلى، محمولاً على عيونها السوداء وأرجلها الهشة وأجنحتها الخافقة.

سلّم جسمه للطيور ولإيقاع طيرانها، واستعدّ للاستيقاظ...

لكنه الليلة لم يفعل.

هبطت الغربان ووضعته برفق على الرصيف؛ محلقة مجدداً صوب منزله، بمحاذاة ممشى شاحب ممتد بين أشجار طويلة. رأى والديه قرب نافذته التي باتت الآن مغلقة. إنهما يتعانقان ويمسكان بعضهما بعضاً.

كيف يمكنهما فعل ذلك؟!

رغم ذلك، لم يستيقظ.

ثم رأى كاو شكلاً، شيئاً يتجسّد من العتمة في الحديقة الأمامية، ويمشي بخطوات بطيئة ومتأنية صوب باب المنزل. إنه طويل، طويل بقدر الباب تقريباً، ونحيل جداً، مع أطراف طويلة جداً بالنسبة إلى جسمه.

لم يستمر الكابوس هكذا مطلقاً من قبل. لم يعد هذا جزءاً من ذكرياته؛ لأن كاو يعرف ذلك نوعاً ما؛ في أعماق نفسه.

بحيلة معينة، استطاع رؤية وجه ذلك الشيء، عن كثب. إنه رجل، وإنما بملامح لم يرها من قبل قط. أراد النظر بعيداً، لكن عينيه كانتا مشدودتين صوب القسمات الشاحبة التي بدت أكثر شحوباً بفعل اللون الأسود لشعر الرجل الذي بدا على شكل أشواك ناتئة فوق جبينه وعين واحدة. إنه رجل وسيم لولا عيناه. كانتا سوداوين بالكامل؛ قزحيتين فقط من دون بياض.

لا يعرف كاو أبداً من يكون الرجل، لكنه يعرف أنه أكثر من سيّئ. الجسم النحيل للرجل جذب العتمة صوبه. لقد جاء إلى هنا لإلحاق الأذى. شيطان. جاءت الكلمة بصورة عفوية. أراد كاو الصراخ، لكن صوته اختفى بفعل الخوف.

تاق للاستيقاظ بشدة، لكنه لم يفعل.

رسمت شفتا الزائر ابتسامة فيما رفع يداً، وبدت الأصابع مثل أرجل عنكبوتية متدلية. لاحظ كاو أنه يرتدي خاتماً ذهبياً كبيراً، فيما طوّقت أصابعه مقبض الباب مثل بتلات وردة تنغلق على نفسها. والآن، لم يعد يرى إلا الخاتم، والصورة المحفورة على سطحه البيضوي. ثمة عنكبوت محفور بخطوط قاسية، مع ثماني أرجل منتصبة. جسمه على شكل خط وحيد ملتف، مع منحنى صغير للرأس، ومنحنى أكبر للجسم. وفي خط العودة، ثمة شكل يشبه الحرف M.

يطرق الغريب على الباب مرة واحدة، ثم يبرم رأسه. إنه ينظر مباشرة إلى كاو. لبرهة، اختفت الغربان ولم يعد هناك في العالم سوى كاو والغريب. همس صوت الرجل بهدوء، مع شبه تحرك للشفتين: «أتيت من أجلك».

استيقظ كاو وهو يصرخ.

كان العرق يتصبب على جبينه، فيما شعر بقشعريرة تمتد على كلتا ذراعيه. استطاع رؤية نَفَسه حتى تحت غطاء القماش المشمّع الممدد بين الأغصان فوقه. وفيما جلس منتصباً، طقطقت الشجرة وارتج العش قليلاً، وتسلل عنكبوت بعيداً عن يده.

صدفة. مجرد صدفة.

ما الأمر؟ سأل سكريتش، وطار من حافة العش للهبوط قربه.

أغمض كاو عينيه، وصورة خاتم العنكبوت تحترق تحت أجفانه.

أجاب: «الكابوس، الكابوس الاعتيادي. عد إلى النوم».

إلا أنه لم يكن الكابوس الاعتيادي هذه الليلة. فالغريب - الرجل الواقف أمام الباب - لم يره فعلاً من قبل. هل رآه؟

قال غلام: كنا نحاول النوم. لكنك أيقظتنا بسبب انتفاضك مثل الدودة نصف المدهوسة. حتى إن المسكين ميلكي استيقظ من نومه. استطاع كاو سماع الخفقان المضطرب لريش غلام.

قال: «آسف». واستلقى على ظهره مجدداً، لكن النوم جافاه، ليس مع الكابوس الذي ألقى بتردداته في عقله. بعد أعوام من تكرر الكابوس نفسه، لماذا كان مختلفاً الليلة؟

أبعد كاو بطانيته عنه، وجعل عينيه تتكيفان مع العتمة. كان العش في أعلى الشجرة، عرضه ثلاثة أمتار، ومصنوع من الخشب والأغصان المحبوكة، مع فتحة صغيرة في أرضيته صنعها باستعمال رقاقة من البلاستيك المموج نصف الشفاف. تم حبك المزيد من الأغصان معاً حول حافة العش، مع قطع ألواح خشبية وجدها في موقع بناء، وجعلها على شكل وعاء ذي حواف منحدرة علوها قرابة المتر الواحد. وضع ممتلكاته القليلة في حقيبة عتيقة وجدها على ضفة نهر «بلاك واتر» قبل أشهر عدة. ثمة ستارة قديمة يمكن تثبيتها في الوسط إذا أراد بعض الخصوصية بعيداً عن الغربان؛ رغم أن غلام لم يفهم الفكرة مطلقاً. وفي الطرف البعيد، ثمة فتحة صغيرة في سقف القماش المشمّع توفّر مدخلاً ومخرجاً للغربان.

الجو بارد هنا، خصوصاً في الشتاء، لكنه جاف.

عندما أحضرته الغربان للمرة الأولى إلى الحديقة العامة القديمة قبل ثمانية أعوام، استقر الجميع في شجرة مهجورة؛ في التشعب السفلي من الشجرة. لكن، ما إن أصبح كبيراً كفاية للتسلق، حتى بنى عشه الخاص هنا، بعيداً عن العالم. إنه فخور به. إنه منزله.

أفلت كاو طرف القماش المشمّع وسحبه جانباً، فوقعت قطرة مطر على الجهة الخلفية لعنقه فارتعد.

القمر فوق الحديقة غير مكتمل، وباللون الفضي في سماء خالية من الغيوم. استقر ميلكي على الغصن الخارجي من دون حراك، وبدا ريشه الأبيض فضي اللون تحت ضوء القمر. برم رأسه، وبدا أن عيناً شاحبة غير مبصرة توقفت عند كاو.

دمدم غلام: هذا كثير، لا يمكنني النوم وهزّ رأسه ليعبّر عن عدم الموافقة.

قفز سكريتش على ذراع كاو، وطرفت عيناه مرتين، وقال: لا تهتم غلام. فالكبار مثله يحتاجون إلى جرعتهم من النوم.

أطلق غلام صيحة قوية وقال: أغلق فمك سكريتش.

تنشق كاو روائح المدينة: دخان السيارات، والعفن، وثمة شيء يموت في مجرى ماء. المطر يتساقط، ولكن ليس بمقدار كافٍ لجعل رائحة بلاكستون نظيفة.

قرقرت معدته، لكنه كان فرحاً بجوعه. فهذا يشحذ حواسه، ويعيد الذعر إلى خفايا عقله. احتاج إلى الهواء. احتاج إلى الهواء لتنقية رأسه. «سأذهب للعثور على شيء أتناوله».

قال غلام: الآن؟! لقد أكلت البارحة.

لمح كاو وعاء البوليستيرين الذي اشتمل على رقاقات البطاطا المقلية ليلة البارحة في الطرف البعيد من العش، بالإضافة إلى فضلات أخرى تحب الغربان جمعها والاحتفاظ بها. أشياء لامعة مثل أغطية قناني، وعلب معدنية، وحلقات معدنية، وورق ألمنيوم. كانت فضلات عشاء غلام مبعثرة أيضاً؛ بضعة عظام لفأرة، خالية تماماً من اللحم. وجمجمة صغيرة مكسورة.

قال سكريتش ممدداً جناحيه: أستطيع تناول الطعام أيضاً.

قال غلام وهو يهزّ منقاره: مثلما أقول دوماً. شره.

قال لهما كاو: «لا تقلقا. سأعود سريعاً».

فتح الكوّة، وتدلّى من الأرضية، ووصل إلى الأغصان العلوية، ثم شق طريقه نزولاً بمساعدة الدعامات التي استطاع رؤيتها. وفيما نزل إلى الأرض، قفزت ثلاثة أشكال- اثنان باللون الأسود، وواحد باللون الأبيض - على العشب.

شعر كاو بالقليل من الانزعاج وقال؛ كما فعل ألف مرة من قبل: «لا أحتاج إلى مجيئك معي». كاد يضيف: لم أعد ولداً صغيراً، لكنه عرف أن هذا سيجعله فعلاً مثل ولد صغير.

قال غلام: تحمّلنا.

هزّ كاو كتفه.

لم تُفتح بوابات الحديقة منذ أعوام، ولذلك كان المكان فارغاً كما هي الحال دوماً. وهو هادئ أيضاً، مع همس الهواء بين الأوراق. ورغم ذلك، التزم كاو بالمساحات المظللة. انفتح نعل حذائه الأيسر. عليه سرقة حذاء جديد قريباً.

مرّ أمام هيكل التسلق الصدئ الذي لا يلعب فيه الأولاد أبداً، واجتاز أحواض الأزهار التي أفسحت المجال أمام الأعشاب الضارّة منذ زمن بعيد. كان سطح بركة السمك مغطى بطبقة سميكة من الزبد. قال سكريتش إنه رأى سمكة هناك قبل شهر تقريباً، لكن غلام زعم أن هذا مجرد تخيل. لاح سجن بلاكستون خلف جدران الحديقة العامة إلى اليسار، وبرزت أبراجه الأربعة في السماء. في بعض الليالي، كان كاو يسمع أصواتاً من الداخل، تكتمها الجدران السميكة الخالية من النوافذ.

فيما توقف كاو أمام المنصة الفارغة في الهواء الطلق، المغطاة برسوم الغرافيتي، حطّ سكريتش على درجة، وخربشت مخالبه على الإسمنت.

سأل: هناك مشكلة، أليس كذلك؟

برم كاو عينيه. «أنت لا تستسلم، أليس كذلك؟».

أمال سكريتش رأسه.

اعترف كاو قائلاً: «إنه الكابوس. لم يكن هو نفسه تماماً. لم أفهم».

شقّ الكابوس طريقه مجدداً إلى عقله. الرجل صاحب العينين السوداوين، وظله الهابط على الأرض مثل شبح منتصف الليل، واليد المتمددة والعنكبوت...

قال سكريتش: ينتمي والداك إلى الماضي. انسَ أمرهما.

أومأ كاو برأسه، وشعر بالألم المألوف في صدره. كلما فكر فيهما، بدا له الألم مثل رضة قوية جرى لمسها حديثاً. لن ينسى أبداً. إنه يعيش الكابوس كل ليلة. الهواء تحت رجليه، وخفقان أجنحة الغربان ونعيقها فوقه.

منذ ذلك الحين، جاءت غربان عدة ورحلت. شاربي، بلاك، دوفر صاحب الرجل الواحدة، إينكسبوت وحبها للقهوة. وحده غراب واحد بقي إلى جانبه منذ ذلك اليوم قبل ثمانية أعوام؛ ميلكي الأخرس والأعمى وصاحب الريش الأبيض. يعيش غلام معه في العش منذ خمسة أعوام، وسكريتش منذ ثلاثة أعوام. واحد لا يملك شيئاً مفيداً لقوله، وآخر لا يملك شيئاً مرحاً لقوله، وواحد لا يملك أي شيء لقوله.

تسلّق كاو البوابة الحديدية المزخرفة، وأمسك بالحرف B المشير إلى حديقة بلاكستون العامة، ورفع نفسه إلى الحائط. وازن نفسه بسهولة، فيما وضع يديه بطريقة عفوية في جيبيه ومشى فوق الحائط. بالنسبة إلى كاو، الأمر سهل بقدر المشي في الشارع. لاحظ أن ميلكي وغلام يحومان فوق رأسه.

قال سكريتش: ظننت أننا سنحضر الطعام.

أجابه كاو: «قريباً».

توقف قبالة السجن. ثمة شجرة قديمة متدلية فوق الجدار، وكان مختبئاً تقريباً بين أوراقها الكثيفة.

صاح غلام: ليس هنا مجدداً. وجعل غصن الشجرة يرتجف فيما حطّ عليه.

قال كاو: «تحمّلني».

حدّق في المنزل الكبير في الجهة المقابلة من الطريق، المشيّد في ظلّ السجن.

يأتي كاو غالباً للنظر إلى هذا المنزل. لا يستطيع أن يفسّر السبب؛ ربما لرؤية أفراد عائلة عادية يقومون بأمور عادية. أحبّ كاو مراقبتهم وهم يتناولون العشاء معاً، أو يلعبون الألعاب معاً، أو يجلسون فقط أمام شاشة التلفزيون.

لم تفهم الغربان أبداً تصرفه هذا.

ثمة ظلّ في الحديقة أعاده فجأة إلى كابوسه؛ الابتسامة الوحشية للغريب، يد العنكبوت، الخاتم الغريب. ركّز كاو عمداً على المنزل؛ في محاولة منه لإبعاد الصور المرعبة عن عقله.

لم يكن واثقاً من الوقت، لكن نوافذ المنزل كانت معتمة، والستائر مسدلة. نادراً ما يرى كاو الأم، لكنه عرف أن الأب يعمل في السجن. لقد رآه كاو وهو يغادر بوابات السجن ويعود إلى المنزل. إنه يرتدي دوماً بذلة رسمية، ولذلك خمّن كاو أنه أكثر من مجرد حارس. ارتاحت سيارته السوداء في الممشى مثل حيوان نائم. الفتاة صاحبة الشعر الأحمر، تكون في السرير، فيما كلبها الصغير مستلقٍ تحت قدميها. اعتقد كاو أنها في مثل عمره تقريباً.

آوووووووو!

قطع صوت عويل سكون الليل، مما جعل كاو يقفز في مكانه. جلس القرفصاء على الحائط، ممسكاً بالحجر، فيما ارتفع صوت صفارة الإنذار وانخفض بصوت مرتفع نسبياً في صمت الليل.

ومضت الأضواء في الأبراج الأربعة للسجن، فألقت بأقواس من الضوء الأبيض على السجن والطريق في الخارج. تراجع كاو إلى الخلف، واختبأ تحت الأغصان؛ بعيداً عن الضوء.

قال سكريتش، وهو ينفض ريشه بعصبية: فلنذهب. سيأتي البشر إلى هنا قريباً.

قال كاو وهو يرفع يده: «انتظر».

ومض ضوء في غرفة الطابق العلوي، حيث ينام والدا الفتاة.

قال غلام: لمرة واحدة، أوافق سكريتش الرأي.

«ليس الآن».

سطعت المزيد من الأضواء وراء الستائر المسدلة، وبعد دقيقة أو دقيقتين، فُتح الباب الأمامي للمنزل. كان كاو واثقاً من أن العتمة تحميه. راقب والد الفتاة وهو يخرج من المنزل. كان رجلاً نحيلاً وإنما صارم المظهر، مع شعر فاتح اللون متراجع قليلاً نحو الوراء في الجهة الأمامية لرأسه.كان يسوّي ربطة عنقه، ويتحدث عبر هاتف مثبّت على كتفه.

قال غلام باشمئزاز: إنه الرجل الذي يتنزه مع ذلك الكلب المريع! أنصت كاو جيداً لسماع صوت الرجل رغم صفارة الإنذار.

صرخ الرجل: «سأكون هناك خلال ثلاث دقائق. أريد إقفالاً تامًّا لكل المنافذ، وجدولاً زمنياً، وخريطة لمجاري الصرف الصحي». صمت. «لا أبالي غلطة من كانت. لاقوني عند الباب الأمامي مع جميع العناصر الذين يمكن الاستغناء عنهم». صمت آخر. «نعم، طبعاً يجدر بك الاتصال بمسؤولة الشرطة. عليها أن تعلم بهذا، وبسرعة. هيا، انطلقوا الآن!».

ترك الهاتف بعيداً، وتوجَّه بخطوات كبيرة وسريعة صوب السجن.

تمتم كاو: «ما الذي يجري؟».

أجاب سكريتش: ومن يبالي؟ إنها أمور بشرية. دعنا نذهب.

فيما راقب كاو المشهد، ظهرت الفتاة عند باب المنزل والكلب قرب قدميها. كانت ترتدي قميص نوم أخضر اللون. بدا وجهها ناعماً، وأشبه بمثلث مثالي مقلوب، مع عينين واسعتين، وذقن صغير مستدق. شعرها الأحمر، الذي كان بلون شعر أمها، انسدل بطلاقة وفوضوية فوق كتفيها. نادت: «بابا».

صرخ الرجل من دون أن ينظر إلى الخلف تقريباً: «ابقي في الداخل، ليديا».

تشبث كاو بالحائط بقوة أكبر.

ركض والدها بسرعة صوب الرصيف.

قال صوت قريب من أذن كاو: العنكبوت يزحف بهذه الطريقة.

جفل كاو ونظر إلى الأعلى، فشاهد ميلكي جاثماً على غصن. برم غلام رأسه بسرعة.

قال: هل تحدثت للتو؟!

طرف ميلكي بعينيه، وحدّق كاو في الغشاء الشاحب لعيني الغراب العجوز، وقال: «ميلكي؟».

كرر الغراب الأبيض مجدداً: العنكبوت يزحف بهذه الطريقة. كان صوته مثل حفيف الأوراق اليابسة لدى ملامسة الهواء لها. ونحن لسنا سوى طريدة في شباكه.

قال سكريتش بقرقرة متقطعة: قلت لك، أيها العجوز المجنون.

جفّت حنجرة كاو، وسأله: «ماذا تقصد بكلمة عنكبوت؟».

حدّق ميلكي فيه مجدداً. لا تزال ليديا عند الباب، تراقب.

قال كاو مجدداً: «أي عنكبوت، ميلكي؟».

لكن الغراب الأبيض بقي صامتاً.

ثمة شيء يحصل، شيء كبير. وأياً كان، لن يفوّته كاو.

قال أخيراً: «هيا بنا. سوف نلحق بهذا الرجل».

2020/03/05 · 301 مشاهدة · 2249 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024