في وسط بحر لا نهائي من الرمال القذرة، الشمس كانت تغرق في الأفق، ملطخة السماء بحمرة تشبه الدم المسفوك. كأن العالم نفسه يحتضر.
هوب فتح عينيه. نفس الإحساس اللعين، نفس الألم الذي صار جزءًا منه. بطنه كانت تعوي مثل وحش مسعور، تمزقه من الداخل.
«الجوع»
ليس مجرد شعور عابر، بل لعنة. شيء يلتصق بك مثل الظل، يذكّرك كل ثانية بأنك لا شيء سوى كومة عظام تنتظر أن تتحطم.
وإذا لم يجد شيئًا يرميه في هذا الجحيم الذي يسميه معدته قريبًا؟ حسنًا، لن يكون هنا ليرى شروق الشمس القادم.
زحف خارج جحره، جسده النحيل يرتجف. أشبه بحيوان جريح يبحث عن أي شيء… أي قشة يتشبث بها قبل أن يسقط للأبد.
قدماه لامستا الأرض، فدارت الدنيا من حوله. الدوار ضربه بقوة، لكنه لم يسقط. تنفس ببطء، شد قبضتيه، وأجبر نفسه على التماسك.
نظر حوله. نفس المشهد القذر.
جدران متهالكة تحيط به، بقايا مدينة لم تعد مدينة. مجرد أطلال منسية، دفنتها الرمال، ونسيتها الحياة.
كان صغيرًا جدًا في هذا الخراب الواسع.
هزيل، بالكاد 13 أو 14 عامًا، ملفوف بخرق بالكاد تصلح لتنظيف الأرض. ليس شخصًا، بل شبح شخص.
من هو؟ من أين أتى؟ هذه الأسئلة تطفو في ذهنه أحيانًا، لكنه لا يملك إجابات. حتى اسمه—"هوب"—لم يكن متأكدًا ما إذا كان اسمه الحقيقي، أو مجرد كلمة التقطها من مكان ما. لكنه الشيء الوحيد الذي يمتلكه.
أما الماضي؟ مجرد ضباب كثيف.
أما الحاضر؟ فهو يعرفه جيدًا.
العالم هنا قاسٍ، محطم، متعفن حتى العظم.
وقد تعلم ذلك بالطريقة الصعبة.
في هذا المكان، لا يوجد "صح" أو "خطأ". لا يوجد "خير" أو "شر".
يوجد فقط قاعدة واحدة في الأراضي المنسية:
إن لم تأكل، ستُؤكل.
نظرت إلى الشمس، التي كانت تغرب في الأفق، وشعاعها الأحمر يمر عبر السماء الملبدة بالغيوم. تمتمت لنفسي:
"العالم مدمر، لكن عندما أخطو عليه، سأزيد من معاناته حتى يتذكر اسمي."
قلتها بصوت خافت، لكن عزيمتي كانت قوية، وكأن كل كلمة كانت تشعل شعلة أمل جديدة في قلبي، حتى في أقسى لحظات الألم.
ثم زحفت بين الأنقاض كثعبان، جسدي يتمايل، يكاد ينهار في أي لحظة.
لكنه استمر… فقط استمر.
"لم تنتهِ الأمور بعد."
كانت هذه الكلمات تشغل ذهني دائمًا، كشمعة صغيرة في ظلام عزيمتي المتآكلة.
فجأة—
وقع خطوات ثقيلة، بعيدة… لكنها تقترب.
توقفت أنفاسي.
غريزة البقاء اشتعلت كجمرة تحت الرماد، تلاشت كل الأفكار عدا واحدة—"من يكون؟!"
قفزتُ من مكاني كحيوانٍ مذعور، قلبي يطرق ضلوعي بجنون. كانت يداي ترتعشان، لكنني قبضت على السكين بقوة، عيناي مسمرتان على الأفق.
ثم… ظهر.
مخلوق أسود.
حجمه يقارب الكلب البري، لكن تلك العيون القرمزية المتوحشة؟ لا شيء فيها يشبه الكلاب. لم يكن ينظر إليّ… بل كان يحدّق في فريسته.
تبًا… كيف لجسدٍ بالكاد تحمله الرياح أن يواجه وحشًا كهذا؟
"اللعنة… اللعنة!"
همستُ بها، رغم أنني كنت أصرخ في داخلي.
'يا لا حظي الرائع البائس'
خطوة للخلف. ثم أخرى. حذر، بطيء… لكن فات الأوان.
التقت أعيننا.
وفي لمح البصر—
انقضّ!
"خطر! خطر!"
جسدي تحرك قبل أن أدرك، ألقيت بنفسي على الأرض، وشعرت بشيء يخترق الهواء فوقي. خطوطٌ من البرق الأسود مرّت من حيث كنتُ أقف قبل لحظة.
الوقت تباطأ. جسدي تجمّد. أنفاسي توقفت.
لكن فكرة واحدة اخترقت كل شيء—
"اهرب!"
لم ألتفت. لم أتوقف. ركضت بكل ما أملك، رغم أن جسدي الهزيل كان يصرخ من الإرهاق.
خلفي، صوت الحفيف يقترب—الوحش لن يفرّط في فريسته بهذه السهولة.
الرائحة الكريهة أخبرتني أنه قريب جدًا… قريب حدّ الموت.
ثم—
جدار.
وقفت مصدومًا للحظة محاصرًا من كل جانب. لا مفر. لا طريق للهروب.
زئير وحشي دوّى خلفه.
في تلك اللحظة، اجتاحني اليأس.
لا طريق للهرب. لا فرصة للنجاة.
"هل هذه هي النهاية؟"
داخل عقلي، دوى صوت آخر—أضعف، لكنه لا يزال يقاوم:
'مستحيل… لا ليس بعد!'
إلى متى ستظل تركض أيها الضعيف؟
إلى متى ستبقى ضعيفًا؟
إلى متى ستعيش كحشرةٍ تنتظر أن تُسحق؟
'تبا... لم أستطع حتى قتل كلبٍ، فكيف سأخطو على هذا العالم؟ يا لها من إهانة...'
قبضت على السكين بين أصابعي بقوة.
الهروب لم يعد خيارًا.
كان علي أن أقاتل... أو أموت.
صرخت ثم استدرت فجأة، مغروسًا سلاحي بكل قوتي—مستهدفًا عيني الوحش.
وبطريقة أشبه بالمعجزة... أصبت هدفي.
أطلق المخلوق عواءا مؤلما عندما أرتطم مباشرة بي
تركت مخالبه الحادة عدة حفر دموية غزيرة على جسدي.
صرخت من الألم، لكني لم استسلم. بكل قوتي المتبقية، دفعته نحو الجدار، حيث اصطدم الوحش بالحجر بقوة.
سمع صوت عواء ألم مزّق الهواء، لكني لم أكن واثقًا… هل انتهى الأمر؟
لم أخاطر. ألتقطت حجرًا ثقيلًا، وانهلت به على رأس الوحش بجنون. "مُت! مُت!" الدم الأسود تناثر، والرائحة النتنة ملأت المكان، لكن المخلوق لم يستسلم.
بعيون مشتعلة بالجنون، انقض مرة أخرى! مخالبه مزقت الهواء، كادت تمزق جسدي أيضًا. الألم كان حارقًا، الدم يتسرب مني سريعًا، لكن شيئًا ما بداخلي رفض السقوط.
بكل قوتي المتبقية، دفعت السكين في عنق الوحش. صرخة أخيرة… ثم ارتخى الجسد بلا حراك.
وقفت ألهث، مغطى بالدماء. لقد فزت…
بعد تلك الطفرة الهائلة من الطاقة، آلمني جسدي مرة أخرى بسبب الارهاق و الضعف.
تجاهلت إرهاق جسدي السابق، وطالبني الآن ببذل عشرة أضعاف ما استنزفه منه للتو.
و للمرة الأولى، رأى الوحش أمامه بوضوح.
فرو أسود كثيف، يلمع كزيت محترق. مخالب طويلة، كافية لتمزيق العظام. عينان حمراوان، فارغتان من الحياة.
لكن كل هذا لم يهم.
ما يهم هو أنه طعام.
لم اتردد، قبضت على سكيني، وغرتسها في جسد الوحش، ممزقًا جلده القاسي بجنون. لم يكن الأمر سهلاً، لكن الجوع كان أسوأ.
بعد جهد، انتزعت قطعة لحم دامية، ودفعتها في فمي دون تفكير.
مذاق مقزز. حامض، لاذع، كريه. لكن جسدي لم يهتم. كل مضغة كانت تشعل شرارة حياة داخله. متى كانت آخر مرة أكل فيها لحما؟ لا يذكر. لا يهم.
قطعة تلو الأخرى، حتى امتلأت معدتي بالألم، حتى اختفت تلك الحفرة السوداء التي تمتص قوته يومًا بعد يوم.
مسحت فمي بكُمّي الممزق، وزفرت ببطء.
للمرة الأولى منذ زمن، لم يكن الموت يلوح في الأفق.
فكرت للحظة، ثم—بتردد واضح—مدّدت يدي ولمست الجثة. في تلك اللحظة، ناديت بصمت:
"مسح."
رنّ في رأسي صوت بارد، معدني، بلا أي انفعال:
[ببيب... جاري المسح...]
انتظرت قليلاً، ثم عاد الصوت مجددًا:
[لا يوجد في قاعدة البيانات.]
[بعد تحليل البقايا، تبين أنه مزيج من عدة حيوانات تشكل بفعل طفرة جينية. تم تصنيفه كمفترس لاحم...]
[الخصائص: مخالب حادة، عواء استغاثة، أسنان شرسة.]
[تحذير: الوحش يمتلك قدرة "عواء استغاثة".]
عند قراءة "عواء الاستغاثة"، انتشر البرد في جسده كأنه سقط في بحيرة متجمدة.
"اللعنة..."
اليوم… كان محظوظًا. لكن إن عاد القطيع؟ لن يكون سوى جثة هامدة قبل أن يتمكن حتى من الهرب.
أما عن الرقاقة (AI) في رأسه؟
------
كل شيء بدأ قبل اسبوع، عندما اجتاحت عقله ذكريات غريبة، وكأنها خرجت من العدم. لم تكن مجرد هلوسات، بل أحلام متكررة عن عالم آخر—عالم مختلف تمامًا عن الخراب الذي أعيش فيه.
رأى طفلًا يُدعى "زيلين" يعيش على كوكب يسمى "الأرض".
مدينة عملاقة، تمتد بارتفاع السماء. مبانٍ فولاذية ضخمة، شاشات نيون ثلاثية الأبعاد، مركبات طائرة تحلق بانسيابية. التكنولوجيا هناك كانت متقدمة… أكثر مئة مرة على الأقل مما يعرفه.
في البداية، ظن أنه يفقد عقله. لكن مع استمرار الأحلام، بدأ يشك.
لم يكن مجرد مراقب—بل عاش حياة زيلين كما لو كانت حياته.
شعر بدفء العائلة، بالأمان، بالرفاهية التي لم يكن يدرك حتى وجودها—طعام، شراب نقي، سقف آمن. مدرسة؟ تعليم؟ مفاهيم لم يكن ليحلم بها.
وفي كل ليلة، كان يغرق في ذلك الحلم، ينسى تمامًا من يكون، ويعيش كأنه زيلين.
الأعوام مرت بسرعة في الحلم. رأى "زيلين" يكبر حتى بلغ العاشرة… ثم فجأة—
انتهى الحلم.
استيقظت على الواقع الملعون مجددا.
كان هناك أسئلة كثيرة، لكن الأهم بينها: هل هذا العالم حقيقي؟
من أنا؟
رغم ذلك، حصل على شيء لا يقدر بثمن: المعرفة. القراءة، الكتابة، وحتى العلوم… ثم جاء الذكاء الاصطناعي (AI) ليغير كل شيء.
------
لكن الآن، هناك عمل يجب إنجازه.
فكرت للحظة قبل أن ابدأ فورًا.
'أولًا، تقطيع رجليه لبيعها لاحقًا. أما الجلد؟ سيكون لباسًا رائعًا… أو مصدر ربح إضافي.'
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا. بمجرد انتهائي، حفرت حفرة في الرمال، دفنت البقايا بعناية، وغطيتها جيدًا استعدادًا للعودة لاحقًا.
أما الآن؟ حان وقت نقل مكاسبي إلى الجحر.
لم أستطع منع نفسي من الابتسام و أنا أتخيل مذاق اللحم.
ما إن جرَّرت الجثة خلفي، حتى دوّى صوتٌ خشن، كزمجرة وحشٍ يوشك على الانقضاض:
"اترك اللحم، أيها الجرذ!"
'بهذه السرعة؟! رغم أنني توقعت… هذا الموقف لقدحدث بسرعة. هل كانوا يراقبونني طوال الوقت؟'
رفعت رأسي—
أربعة… خمسة رجال، وجوههم محفورة بالجوع والطمع، يحيطون به كذئاب وجدت فريسةً جريحة.
جامعو الجثث.
قائدهم كان ضخمًا، وجهه مشوه بندوبٍ عميقة، وكأن أحدًا حاول سلخه ولم يكمل عمله. عيناه؟ جمرتان متقدتان بالجشع.
كانوا يبحثون عن بقايا متعفنة… لكنهم وجدوا طفلًا هزيلًا يحتضن كنزًا من اللحم الطازج.
"قلتُ، اترك اللحم!"
هوب لم يرد.
عيناي المتوحشتان كانت مسمرّة على خصومي الان. جسدي ممزق، مترنح، لاكني لم أنحني. لم استسلم.
الهواء المشحون بالتوتر جعل حتى الرمال تحبس أنفاسها.
يأخذونه؟
قاتل حتى نزف دمه. مزّق الوحش حتى سالت أحشاؤه.
والآن يريدون اللحم؟
يريدونه أن يترك ثمن حياته لهم؟
…لا.
تبًا لهم. تبًا لهذا العالم.
لم يتحدث. لم يحذر. لم يتردد. كان جائعًا، متعبًا، يائسًا—لكن روحه؟ لم تكن مستعدة للموت بعد.
بغضبٍ جامح، اندفعت للأمام، وقذفت قبضتا مباشرة نحو وجه صاحب الندوب.
لم يكن هناك أوهام بشأن النتيجة.
طفلٌ جائعٌ ممزقٌ ضد مجموعة من المفترسين؟
النتيجة الوحيدة كانت هزيمتة مخيبة للأمال.
راقبت غنيمتي تُسلب من بعيد حتى تلاشت عن ناظري.
كان هذا أمرا طبيعيا في الضواحي المنسية حيث تتكلم القبضاة عوض اللسان، بالنسبة لي فقد رأية ما هو أسوء.
"هاه، يا لها من خيبة أمل..." تمتمت لنفسي، لكني سرعان ما تذكرت غنائمي المخفية.
"يبدو أن عليّ زيارة ذلك العجوز."
تألقت عيناي بهدوء، مترقبًا المكافأة التي تنتظرني.
------
أتمنى أن يعجبك الفصل و ان تترك تعليقا عن رأيك.
هذه أول مرة اكتب فيها رواية ويب
وشكرا.
وهل الفصل طويل؟ ام علي تقصيره؟