لطالما فكّرت بالأمر ، كلّ شخص يولد بموهبة ما ، سواء كان يبتغيها ، بحاجة إليها ، أو أنّها حدث ووافقت متطلّبات حياته الحميدة

لكنّي لا أستطيع وضع نفسي في أيّ من هذه المراتب أو الأوصاف ، الأمر أنّني قد أكون مجرّد شخص عادي يظهر كالشّخصيّة الثّانويّة من القصّة ، شخص يظهر في الخلفيّة الدّاعمة ، فإن كان الشّغل الشّاغل في محيطي هو التّقصي عن مجرم متسلسل قد أنتهي كضحيّة تساعد على إظهار بريق الشّخصيات الرّئيسيّة

على الأقل هذا ما يبدوا بالنّسبة لي ، مع أنّي أثق نوعا ما بمقولة

"كل شخص بطل في حياته"

قد يبدوا هذا لطيفا ، إذا لم تكن حياته رواية دراماتيكيّة، القتل هو الأمر المحمّس فيها...

.

وعلى أبواب سنة جديدة في الحادي عشر من كانون الثّاني ، كنت أسير بزيّي المدرسي ، ألفّ حول عنقي وشاحا ومعطفي يعانق جسدي ، ساقي يغطّيهما سروال البدلة الرّياضيّة البرتقالي الذي يشقّ جانبيه خطّ أبيض طولي، ويداي ورأسي مكسيّان بزوج من القفّازات الصّوفيّة وقبعة من نفس النّوع، لم يبن من بشرتي البيضاء الشّاحبة سوى وجهي بما يكتنزه من أنفي المحمرّ بردا وعيناي العسليّتان، ما فتئتا تعدمان كلّ دخيل إليهما برموشهما الطّويلة، أمّا ثغري فمندثر تحت الوشاح هو وبضع خصلات من شعري الكحليّ الذّي تلاطف خصلاته منتصف جذعي، الرّصيف الاسمنتي أمامي ملوّن بالأبيض وبعض السّواد من سير البشر عليه ، الشّتاء بارد كفاية في المدن السّفلى من كوريا، إذا ماذا عنّا نحن في القرى الجبليّة؟ طبعا سنتجمّد من البرد

بعد طول طريق استغرق منّي دقائق حسبتها ساعات ، ركنت ساقاي أمام بوّابة المدرسة أستعيد أنفاسي المنقطعة من كثرة السّير فأنا والرّياضة عدوان منذ الأزل، نفس الشّعور ، نفس التّعب ، ونفس المكان ، مهما نظرت لن تتغيّر الصّورة أمامي ، وما بيدي لتفريغ احباطي سوى إطلاق تنهيدة طويلة ككهل أثقلت الدّنيا ظهره أسقاما

النّظر للحارس وهو يراقب القلّة التّي تتجاوز الحاجز الفاصل بين العالم الخارجي والملحمة التّي بالدّاخل ، يبعث فيّ نوعا ما شعورا غريب ، أهي غيرة؟ أم مجرّد تكاسل؟ فهو ليس مرغما على الاستماع لأستاذ الأدب لمدّة ساعتين في اليوم

وما زاد الطّين بلّة أنّه يوم نهاية الأسبوع، من المفترض أن أقضيه على سريري الدّافئ لا هنا لأتجمّد، فأمس طُلب من أقسام السّنة الثّانية القدوم للحصص الصّباحيّة اليوم، هنا يوجد فقط قسمين للسّنوات الثّانية!...على كلّ حال ما الذي قد أنتظره من مدرسة في آخر العالم مثل هذه، فأغلب قاطني هذه القرية أناس منبوذون، هناك منهم ما تضمّه دار الأيتام والبقيّة صبية يُشفق على حالهم لسوء بيئة الأسر، فالفقر من طينة لا تفرّق بين الغريب والحبيب ....

صففت حقيبتي على جانب مقعدي وأخرجت ما لزم من أدوات ، ألقيت التّحيّة على هذا وذاك ، بينما عقلي غائب عن العالم الواقع ، فهو من محبّي العالم الافتراضي الذي يجول سحنتي كلّ يوم

هو الآن يجري حديث جدّي معي بصراحة .... احتمال قدوم الأستاذ أم حصولنا على حصّة دراسة ذاتيّة؟

طبعا أنا ونفسي نحبّذ الخيار الثّاني ، والدّنيا حظوظ

مرّت ربع ساعة لأرفع راية النّصر ، الحظّ اتّخذ بي جانبا لراحته على ما يبدوا ، وها أنا أسرح في النّافذة ، اليوم يبدوا أنّ سيول السّماء لم تنقطع ، على هذا الحال سينقشع البياض الأملس من الأرض ، يا للحسرة ، وعلّه سيعاود الظّهور

قطرة عبرة ، أراقب نزول تلك الحياة على الأرض ، فأساس الحياة هو التّعريف لها بذاتها صحيح؟

بينما يتجاهل البقيّة الدّراسة الذّاتية التّي كان من المفروض أن نكون في خضمها ، تعالت أصواتهم المغتاظة منها والمبتهجة ، كان لابدّ لي من سماعها ، فلست بصمّاء ، وكباقي البشر ألتفتت لأرى ما يحصل

أدرت وجهي بسرعة باتّجاه ما كنت أفعله ، من يرغب في رؤية غوريلا ينطح صوص؟ ، متنمّرون في الثّانوية ، يا للسّخف ، الفكرة بذاتها مقرفة ، شخص بائس وآخر مثير للشّفقة ، هذا يخفي ضعفه بالتكبّر على غيره ، وآخر استسلم لأنّه مصيره المحتوم

فجأة صدر صراخ... هذه المرّة لم أكن أنا من استدرت لسماع أصواتهم ، بل هم من انعطفوا لتغيير مسارهم اتّجاهي أنا من صرخت

كيف لا وأنا مجرّد انسانة ، للحظات من حياتي تناسيت معنى الخوف ، مصطلح لم أستعمله لفترة لدرجة فيها كدت أمحيه من قاموسي ، وها قد تمّ تحديث المعلومات

جسد بشري طائر من السّطح إلى الطّابق الأرضي ، كلّ ما لمحته وسط الأمطار الغزيرة صورة وجهه المرعوب ، ومزيج الأمطار والدّماء الملتصق بجبينه حتّى قبل ولوجه أرض الموتى واصطدامه بالإسمنت الصّلب بالأسفل ، بعد صرخة استغاثتي ، أصوات غيري تعالت ، لا أعلم كيف خطرت على بالي هذه الفكرة في غضون هذا الوضع المجنون لكنّ تذكّرت وضعيّة "حضن الفراشة" التّي تخفّف التّوتر

وقفت في الزّاوية مغادرة وسط الزّحام ، أخذت شهيقا وزفيرا كافيّا بحجر مساحة كافّة رئتيّ ، وضعت يدي بشكل متشابك على كتفي بينما أربّت عليهما ، إنّها معلومة صحيحة أنّ هذا يشعرك بالهدوء والأمان

كيف؟ متى؟ أين؟ لما؟ ماذا؟ ، كلّ شيء خطر في لحظة صمت ، لحظة انقشاع الظّلام وظهور النّور في مقلتي اللّتان كانتا ترتديان ستار الخوف من لحظات

ماذا حلّ بي ولما أنا أغطّ في نوم عميق بعد الذي حصل ؟ دقائق وأصبح الوضع غريبا ، كلّ شيء يسير بطريقة خاطئة، استغرق منّي بعض الوقت حتّى أتدارك بقيّة الأخطاء في الصّورة

لما أنا أرتدي زيّي الصّيفي؟ ، أين معطفي قفّازاتي قبّعتي؟ ووشاحي؟ بالأحرى لما لا أشعر بالبرد؟ ، أغراضي؟ ، بدون وعي منّي ، ولعلّها مجرّد عادة ، التفتت إلى النّافذة ، يا للعجب! أكان مقعدي دائما بجانب النّافذة؟ ، ولما الجو مشمس ؟

أتذكّر بوضوح أنّي كنت أتأمّل أرضا مثلجة غمرتها قطرات المطر ، اليوم كان منذ صباحه على أهبة الاستعداد لإغراقي في ما لا تشتهيه نفسي وتستطيبه ، كانت البداية سيّئة ، والنّهاية عقيمة

تخيّل جثّة تطير في الهواء لهو بحدّ ذاته أمر غير معقول ، إذا ما بالك بتغيّر الفصل كليّا بين ليلة وضحاها؟ لم تكن أمسية بل مجرّد ....؟

تسارع نبضات قلبي المخيف ذاك زال ، كأنّني كنت مثارة باللّحظة ، وما إن استعدت حواسي حتّى هدأت وكأنّ ما حدث جزء من روتيني الممل

بعض الطّلاب ممّن استيقظوا تظهر عليهم أمارات الخوف، الجزع والتّشوش ، والأدهى هو أنّهم لا يعلمون من هم يهابون ، البعض لا يزال في أحلامه الورديّة نائما ، يتهرّبون من الواقع

البشر وطبائعهم ، عندما تتقاطع طرقهم وكربات من مروج الأوزار تجدهم يتّخذون من الدّرب الأسهل منجا لهم ، الهرب ، التّجاهل ، وكلّ الحالات النّفسيّة آتية من الجانب الضّعيف لهم

فما كان للطبّ النّفسي وجود لو أنّ الكل يواجه مشاكله بصدر رحب ، ويتحمّل مسؤوليّة أعماله ، قلوب هشّة ضعيفة تتصارع هي والظّلام المحيط ، البسيط في الأمر أنّ ما عليك فعله هو التّعايش معه فحسب ، التّأقلم

طنين مزعج غزى الآذان ، لم تكن الأيدي جديرة بمنعه عنها ، صوت يوقظ الميت من سباته الأبدي ، بعثر زجاج أحلامهم الورديّة ، وأضاف جرعة زائدة للأحياء منهم

المكان الذي كان من المفترض أنّه أكثر ما يستفز في القسم لصوت خطّ القلم عليه ، غدى تلفزة واسعة القدّ ، تنفد منها غوغاء صداها غطّى على الطّنين المزعج

بينما تركيزي يحطّ للمرّة الأولى على اللّوح باهتمام ، دخلت صورة ما مجال بصرنا أجمع ، شاب ... بالأصح كهل تآكلت بضع خصلاته شيبا ، يجلس على كرسي مكتب دوّار واضع القدم على الأخرى ، خلقة وجهه غير ظاهرة للعلن ، يتخفّى بقناع تمثّل على شكل صورة وجه عابس حتّى الأعين منه لا تبدوا، شابك أنامله بجانب صدره وهو يسند مرفقيه على راحتي الكرسي

لبسه كان بدلة رماديّة أنيقة بها ربطة عنق زرقاء ، استدار بحركة بسيطة بالكرسيّ ناحيتنا حيث كان نصفه فقط من يناجينا

أخيرا انطلق صوته الخشن ، لم يبدوا كصوت انسان ، صوت آلي معدّل بالحاسوب ، يخفي هو نفسه عنّا ببراعة ، شكله صوته وحتّى غايته

أوّل ما اختلج سمعنا من صوته كان قهقهة مستفزّة ، لازلت لم أبارح مقعدي فقط أتأمّل بصمت ما أنا فيه ، أهو ما يسمّونه اختطاف جماعي مثلا ما يحدث الآن؟

"أحمم...أوّلا سأقول .... آاااه ، عليّ أن أكون مهذّبا وألقي التّحيّة صحيحّ ، أهلا وسهلا بكم في ... ، هيي أنت أأخبرهم أين هم؟"

عكس ما ظهر لي بادئا يبدوا كشخص أحمق مغفّل، غالبا ما يكون هذا النّوع من الأشخاص الذي يجب الحذر منه ، هو لا يرتدي فقط قناعا يخفي وجهه به ، بل هو من النّاس التي اعتادت على ارتداء قناع لشخصيّات لا تناسبهم واعتقدوا أنّها أصبحت منهم ، تناسوا للحظات أنّ النّاس أمثالهم يسهل عليهم خلعها عنهم ، أم أقول "يسهل علينا؟"

إنّها حقيقة أنّني مثله...

لم يدم الصمت طويلا فها هي جماعة من الطّلاب يحتجّون بهمساتهم، ليست لهم الجرأة ليعلنوا عن اعتراضهم علانية ، ولست بمختلفة عنهم إذ أتجنّب المشاكل بكلّ الطرق

كان ذلك الغريب يحدّث شخصا آخر لم تلج صورته الشاشة، ممّا يعني أنّنا نجهل تماما ما يحصل هنا وكم من شخص منخرط في الأمر، على أقلّ تقدير بديهي أنّه ليس بعدد قليل من تسبّب بكلّ هذا

وبينما فئة منّا تنتظر التّتمة من حديثه المبهم، سارعت فئة أخرى للخروج من قاعة الصّف، وها هي ذي معلومة أخرى أضيفت إلى رصيدنا من مجاري هذه الأحداث الغريبة، الأبواب مؤصدة وزجاجها مضلّل فيبقى الخارج مجهول

أتغيّر الطّقس ومحيطنا الدّاخلي فحسب؟ أم كلّ هيكل المدرسة بما فيها؟

إن كان كذلك لن تبقى هذه كمزحة سيئة، على الأغلب لم تكن كذلك منذ البداية ، هذا عمل اجرامي بكلّ تأكيد، وقعنا ضحيّته نحن سكان القرى البعيدة اللّذين لا تهم أخبارهم

تذكرت الآن ما ذكرته سابقا ، ربّما حياتي قد صارت فعلا عبارة عن قصّة بوليسية يتخلّلها غموض ، كلّ ما في الأمر أنّني لا أريد أن ينتهي بي الأمر كضحيّة اجرام فعلا

ومع تعالي شتائمهم وسخطهم جرّاء الوضع المبهم أصبح الجوّ أكثر احتداما وتوتّرا ، ترى لما أنا لست من بينهم ؟، أبدوا كأنّني طفيلي هنا ....ومتى كنت أنتمي لمكان...

أخيرا قرّر رفع ستار الغموض عن بعض تساؤلاتنا التي لا تعدّ ولا تحصى ، وانتهى بنا المطاف اجبارا بالتّركيز مع كل حرف ينطقه كأنّه خريطة الكنز المقدّس ، على أمل منّا أن نلتقي وحريّتنا خارجا

"لا تهم معرفتكم أم لا على أيّ حال، كلّ ما أرغب بقوله هو ما سيسنّ عليكم من قوانين للعيش في هذا المكان والتّأقلم معه ، فأنتم والعالم الخارجي خطّان متوازيان لن يلتقيا...على الأقل الخارج الذي تعرفونه"

همس بكلماته الأخيرة، بالكاد قابلت آذاننا، وقد أجاد إيضاح المعنى بما يزيدنا من فضول ، هناك من اشبعه بالصّراخ نيابة عن الجميع

"ما الذّي تقوله أيّها الوغد ، من أنت ؟ ولما علينا الاستماع لك؟"

تلته العديد من الأصوات الهائجة، اشعر بالضّياع والانزعاج في الأجواء الصّاخبة ، ليت بهم ذرّة نضج تساوي أعمارهم ليحسنوا الحكم على الموقف ، أولا يجب عليهم الانصات وادراك موقفهم ليعلموا كيف يواجهوه؟ أم يظنّون أنّ المنقذ سيهبّ لنجدتهم من السّقف كما في الأفلام ، هؤلاء الأغبياء!

على الأقل دعوا من يريد الاستماع يفعل ، علّي أن أنتبه علّ لسانه يخونه، وعلى الأغلب هو محصّن، اشك في أنّه سيفعل

وها هو عاود تصدّر أعالي الأصوات دون أن يعبئ بالأسئلة المثيرة للسّخرية بالنّسبة لمجرم أن تطرح عليه ، كأن تقول لقاتل لا تؤذني فيفعل أو لهارب توقّف فيلبّي، المنطق المضروب!

"في بادئ الأمر أعتقد أنّ ما يحدث شيء جيّد للبعض، فبدل عيش حياتكم كالقمامة ألن يكون افضل أن تقوموا بشيء يناسبكم؟ ليس عليكم معرفة ذلك، الخطأ في ولادتكم، فلتلوموا أنفسكم على مصيركم هذا"

أطلق قهقهة بدت أنّها تغطّي على ما سبق من كلِم

مهما كان الدّافع يبقى احتجاز هذا العدد من الطلّاب القاصرين في مكان واحد دون علم الأولياء خفية يعدّ جريمة ، كما أنّنا نجهل مقرّ المعلّمين ، وممّا نبس يبدوا أنّه يخطّط لقضائنا ما تبقّى لنا من حياة هنا حتّى توافينا المنيّة أو تقتطف جذورنا الحتوف بحادثة ،خاصّة وحالة التّوتر السّائدة هنا ، فقد غدا كلّ واحد يفكّر في نفسه وحالتهم العقليّة ليست بسليمة وهذا واضح، والأدهى أنّ من تسبّب بكل هذا كان هو، والآن يلومنا على وجودنا على قيد الحياة، أليس هذا الهراء عادة ما يكون فقط في الأفلام؟

"حتّى ولو حدث ما حدث ، منذ اتّخذت هذا القرار على عاتقي سأتحمّل عواقبه ولو كانت اعداما، على الأغلب سيتم مكافئتي على عملي الشاق"

فجأة بدى هذا كهدف الأشرار النّموذجيين في القصص، أيقنت أنني أصبحت في قصّة بوليسيّة بجدارة، الآن أتساءل من الضحيّة؟ هذا إذا لم تكن مجزرة من نوع ما، كيف سينتهي بنا المطاف مع هذه المهزلة ؟

"ستتغيّر دروسكم ، المعلّمون ليس لهم أثر هنا ، وجباتكم في المقصف ، فطور صباح ، الغداء والعشاء ، لكلّ توقيت، من تخلّف عنه لا تعويض وسيبقى خاوي المعدة، الاستيقاظ على السّادسة ، طبعا هذا يكون اجبارا بسبب المنبه الذي سيغطّي الأرجاء أجمع، وهناك حظر تجوال على الثّامنة ، تعلمون أنّ هذه المدرسة كانت ثكنة ، لذا هو واضح احتوائها على كلّ من الحمّامات والمغاسل والغرف ، ولا تنتظروا رفاهية أزيد مّما حصلتم عليه

أمّا نسبة لدروسكم ، فستكون مفاجأة سترونها غدّا ، وكما تعلمون طبعا، يمنع الخروج من المبنى الرّئيسي، على كلّ هذا ان استطعتم ، وان حدث واعترض أحدكم أو خالف القواعد، يوجد دائما مكان للعقاب فأنا متفرّغ ، وأراهن أنّ هناك من سيستمتع بالمشاهدة"

انقطع الخط وسمعنا صوت فكّ القفل عن الباب، تزامنا مع ذلك انطلق من أدراج طاولاتنا رنين، يعرف الجميع ماهيّته، فهو دليل على استلام رسالة، هواتف لم تبدوا كخاصّتنا، وتفقّد الإشارة دون جدوى فلا اتّصال هنا بالدّاخل، كان محتوى الرّسالة عبارة عن ارقام وحروف توضح لنا موقع غرفنا، يا للعجب ، خاصّتي في ذلك المبنى الذّي لطالما كنت أتأمّله وأنتقد موقعه الغريب، بتّ أقطن فيه، لا شكّ وأنّه القدر ! ياللسخف!

خرج الجميع بسرعة حالما تفرّغوا من تفقّد محتوى رسائلهم ويبدوا أنّ جميعها متماثلة، وتبعتهم لتفقّد الخارج، لم يطرأ أيّ تغيّر سوى ضباب غطّى المكان، مجرّد بخار ماء تسرّب من فتحات التّهوية، على الأرجح هو ما سدّ الرؤية من الزّجاج، بالتّفكير بالأمر، ربما تمّ ضخ غاز منوّم عبرها أيضا، ما جعلنا نفقد الوعي أجمع، هذا يبدوا منطقيّا أكثر من اعتقاد أنّها قوى سحريّة

أخذت أتمشّى في الرّواق وأتفحّص الوضع، كما توقّعت الجميع مرتبك، ففي مدرسة بأكملها هناك فقط صفّين ولا أثر لبالغين سواء من المعلين أو أحد آخر، بالتّفكير في هذا هناك عدد مفقود من طلّاب قسمنا والآخر، لم يكونوا هنا منذ البداية، ليس غريبا تغيّبهم...فقط عددهم كبير لدرجة ملاحظة ذلك، الآن عددنا يقدّر بـ 30، 17 من قسمنا و13 من القسم الآخر ، ومن بينهم هناك من ابتاع الوحدة مأمنا، وهناك من احتمى في الحشود، بعض تكهّناتهم عن الوضع مضحكة

هناك من يقول أنّنا نقلنا إلى عالم موازي وقد اختطفتنا الوحوش

وهناك من قال أنّنا نقلنا إلى جزيرة بنيت هيكلتها على طراز خاصّتنا للتّمويه وسيقومون بإجراء تجارب ممنوعة علينا ، قد يكون محقّا مع عزل احتماليّة التجارب الممنوعة

فمن يدري الفترة التي فقدنا فيها الوعي، فحتّى الآن فقدنا الحسّ بالوقت، فهل ما نراه خارجا حقيقي؟ أم مجرّد صورة وهم ؟

ولكن هناك شيء خاطئ مع هذه الفرضيّة، من الواضح أنّ مدرستنا قد نهش منها الزّمن، إذا أيستطيعون بناء واحدة مهترئة بنفس التّفاصيل كخاصّتنا تماما؟

إذا كانت الإجابة نعم، فستكون الاحتماليّة مرتفعة

بدأت أحسّ أنّني أتقمّص دور المحقّق أكثر فأكثر في قصص الغموض تلك، لكنّي لست من محبّي عيش الوقائع الغريبة فطعم المخيّلة أحلى بكثير من الحقيقة المرّة وهذا بديهي

في النّهاية استسلمت أنا الأخرى عن البحث وقصدت ما يفترض كونها غرفتي، لا أعلم ان كنت الوحيدة التي أدركت لكن... المكان قد تغيّر كثيرا، لا تبدوا أنّها ليست مدرستنا لكن إنّها أقرب لما كانت عليه في الماضي....

ثكنة! تم تحويلها لمدرسة!، كأنّ الكراسي والطّاولات التّي هنا وضعت حديثا، وعند إمعان النّظر في البناية بعمق يتجلّى للعيان اندثار بعض التّشققات، هي حرفيا ليست بذلك الاهتراء وليست بذلك اللّمعان الذي ينطلق من الشيّء الجديد !

كانت الغرفة صغيرة، مباشرة بعد الولوج سيقابل وجهك السرير الملتصق جانبان من عرضه وطوله بزاوية من الجدار وعلى يمينه نافذة صغيرة مطّلة على البناية الدّراسية وعلى اليسار هناك يوجد خزانة صغيرة، ساورني الفضول عمّا تحتويه فما منعته من فتحها

ملامحي أوحت على تفاجئي بجدارة كيف لا وقد وجدت ملابسي التي ترقد في خزانتي بالمنزل الذي يبعد عن المدرسة حوالي دقائق ليست بالقليلة محضرة أمامي هنا؟!

بصراحة لم يعد في خلدي من حول للتفاجئ أكثر فقد ذقت ذرعا من هذا المكان الذي ليس به تفسير واحد لمسائلاتي التي لم ولن تنتهي على الأغلب

... ها هو المساء، بطريقة ما أظلمت السّماء فعلا كالشّيء العادي، خلدت للنوم وما خلت أنّني قد أفعل منذ أنّنا كنّا في غيبوبة لأمد غير معلوم، لكن جسدي المرهق يطالب بحقوقه في افتراش السّرير وبما أنّ منظره مغر لن أحاول المقاومة

صباح جديد، وبطبيعة الحال لم استيقظ باكرا، أساسا ليس من عادتي فعل ذلك إلاّ الذّهاب للمدرسة فهو استثناء محتوم

تركت سريري وها هو أوان البحث عن أهمّ شيء مفقود من مستلزمات العيش هنا، أين المرحاض!!!؟

خرجت من الغرفة ... يبدوا المكان كمنزل أشباح لما لا يوجد أي صوت بالأرجاء؟، أم أنّ الجميع استيقظوا قبلي؟

الآن تذكّرت شيئا عن جرس السّادسة أو أيّا يكن، أاستيقظ الجميع لهذا السّبب؟ بجديّة؟!!!

كلما قلت أنّني لم أعد أتفاجأ نزلت علي مشكلة جديدة، بالمناسبة من سيريني مكان الحمّام الآن؟!

أخذت أجرّ خطواتي بالأرجاء علّي أجد ضالتي، لا أصدّق أنّ الحظّ حالفني فقد وجدته، قضيت حاجتي وما إلى ذلك من استحمام، كنت آخذ راحتي متناسية كلّ شيء، لا أعرف ماذا أصابني بين ليلة وأخرى

أهذا تأثير إلغاء الصّفوف؟، مهما يكن

اتّجهت صوب المقصف وجدت الجميع أنهى وجباتهم وهمّوا بالمغادرة، نوعا ما أحسّ أنّه غير مرحب بي هنا، أهذا لأنّي تأخّرت بضع دقائق!

لقد استيقظت السّابعة إلاّ ربع ما الفرق؟

تجنّب الجميع التقاء أعينهم بخاصّتي، وتجنّبوا حتّى الاصطدام بي عندما همّوا بالخروج، هززت كتفي وزممت شفتاي بلامبالاة، الأهم إطعام العصافير المزقزقة ببطني

...انتهى الأمر بي بعدم تلقّي وجبة...تبا لهذه القوانين وواضعها!

أٌقسم أنّني حالما أجده سيكون عنقه بين يدي، سأحبسه بدون طعام لأسبوع... تمتمت بعد صمتي لبرهة: علي أن أكون شاكرة لوجود ماء بالحمام...

اتّبعت خطوات الآخرين فهذا كلّ ما سأفعله، فقط يزعجني أمر أنّني لم أسمع صوت المنبّه، من تجربتي أمس مستحيل ألاّ أستيقظ فنومي ليس بالثّقيل دليل على ذلك أنّني أوّل من استيقظ أمس! غريب...

هناك أكثر من تفسير يجب الحصول عليه، بدأت أرهق من كلّ هذا بجديّة

ساقتني خطواتهم إلى ساحة المدرسة هناك صدح الصّوت من المكبّر يستدعي اهتمام الجميع من بينهم أنا، إنّه نفس الشّيء كالبارحة

"أهلا وسهلا مجدّدا! هل اشتقتم إلي؟، يبدوا أنّ الجميع التزم بما قيل إلاّ بعض القمامة التّي تسترعي التّنظيف"

أدعاني توّا قمامة؟! بجديّة قمامة!!! بذلك الصوت الغريب؟، لماذا يبدوا سعيدا نوعا ما؟، يساورني شعور غريب...

"أممم... بما أنّها أولى أيّامكم هنا إذا لا مغزى من رؤيتكم بعض الدّماء ثانية بعدما رأيتموها أمس، إذا العقاب سيكون شيئا لن يزعجكم ولن يفعل بالنّسبة لي أيضا... إنّه النّفي!"

أليس هذا أشبه بتحريري وخروجي من هذا المكان المليء بالهراء؟، إنّها نعمة مقارنة بكونها عقاب، للحظة أرعبني خلت أنّني سأنتهي كأحد الأفلام التّاريخية على منصّة إعدام

"ااه لكن لا تتطلّعي للأمر كثيرا إيم نايون!، إنّ المكان خارجا أسوء بكثير من العيش هنا بقوانيني، إذا كنت لا تستهوين النّظام ستستهويك إذا حياة الغاب إنّها جحيم..، على كلّ حال سينتهي بك الأمر ميّتة مهما استغرقك الأمر ، حظّا موفّقا"

لا أعرف كيف لكنني أتذكّر نوعا ما أنّني سرت تلقائيا نوح البوّابة الرّئيسيّة للمدرسة ، دون إرادة منّي قابلت البوّابة، كانت منطقة محضورة على الزّملاء بالدّاخل... لا، أقصد الطّلاب فلسنا في علاقة كتلك

لكن رغم سروري لثوان شعرت أنّ الأنفاس في صدري تنقطع، شيء سيء يحدث، لم يفترض أن يكون هذا هو العالم الخارجي، مجدّدا أنا خارجا والبوّابة أغلقت دون أن أشعر، لكنّ الأهم ما الذي يحدث هنا بحقّ... ؟

2021/11/06 · 60 مشاهدة · 3044 كلمة
Mira
نادي الروايات - 2024