كانت الغابة قد بدأت تكتَسي بالظَّلام من حولهم، عندما قال چارد بإلحاح: "يَجدُر بنا أن نعود طالما أننا وجَدنا الهَمج موتى".

بادَره السير وايمار رويس قائلًا بابتسامةٍ ساخرةٍ خفيفة جدًّا: "وهل يُجَرِّدك الموتى من رجولتك؟".

لم يسمَح چارد لنفسه بابتلاع الطُّعم. كان كبيرًا في السِّن، تجاوزَ الخمسين من عُمره، وكثيرًا ما رأى أمثال هذا اللورد الصَّغير يأتون ويذهبون، فقال: " الميت ميت وانتهى أمره، لكن لا شأن لنا بالموتى".

سألَه رويس بهدوء: " وهل هُم موتى حقًّا؟ هل لدينا دليلٌ على هذا؟".

أجابَ چارد: " ويل رآهم، وإذا قال إنهم موتى، فهذا دليلٌ يكفيني".

كان ويل يعرف أنهما سوف يَجُرَّانه إلى نِقارهما هذا عاجلاً أم آجلا، وكان يتمنَّى أن تتأخَّر تلك اللحظة، لكنه قال: " أمِّي قالت لي إنّ الموتى لا يستطيعون الغناء".

قال رويس بصوتٍ عالٍ تردَّد صداه في الغابة التي اصطبغَ أُفقها باللون الأحمر مع مغيب الشَّمس: " ومُرضِعتي قالت لي الشَّيء نفسه. لا تُصدِّق أيَّ شيءٍ تسمعه وفمك حول حلمة امرأة يا ويل، فحتى الموتى يُمكنهم أن يُفيدونا بشكلٍ أو بآخَر".

قال چارد: " ما زالت أمامنا رحلة عودة طويلة... ثمانية أيام، وربما تسعة... واللَّيل قادم".

رفعَ السير وايمار رويس عينيه إلى السَّماء، وبلهجةٍ لا مباليةٍ قال: "اللَّيل يأتي كلَّ يومٍ في هذا الموعد تقريبًا، أم أن الظَّلام يُخيفك؟".

كان جليًّا لويل أن چارد يضغَط على أسنانه، وقد التمعَ الغضب المكبوت في عينيه تحت قلنسوة معطفه الأسود الثَّقيل. لقد قضى الشَّيخ أربعين عامًا كاملةً مع حَرس اللَّيل، منذ التحق بهم وهو صبي، ولم يكن يروق له أن يستخفَّ به الآخَرون. على أن الأمر لم يكن يَقتَصِر على هذا فحسب، إذ راودَ ويل إحساس بأن كبرياء العجوز الجريحة تُخفي تحتها شيئًا آخَر، شيئًا يَشعُر بمذاقه في الهواء بالفعل، كأنه نوعٌ من توتُّر الأعصاب يقف على شفير الخوف؛ وهذا في حَدِّ ذاته يُثير التوجُّس.

كان ويل يُشارِكه شعوره القَلِق، فقد قضى عن نفسه أربع سنواتٍ في حَرس اللَّيل، ويوم أرسلوه وراء "الجِدار" للمرَّة الأولى وجدَ الحكايات القديمة كلها تتدفَّق من ذاكرته، وشعرَ بأمعائه تتقلَّص. بَعد ذلك ضحكَ ساخرًا من خوفه، أما الآن فقد صارَ جوَّلًا مُحَنَّكًا قامَ بأكثر من مئة جولة تقصٍّ وراء "الجِدار "، ولم تَعُدْ ظُلمات البراري - التي يُطلِق عليها أهل الجَنوب اسم " الغابة المسكونة" - تحمل له أيَّ خوف.

لم تَعُدْ تحمل له أيَّ خوفٍ حتى اللَّيلة بالأحرى، فاللَّيلة هناك شيء ما يختلف عن المعتاد. كان الظَّلام أكثر من مجرَّد ظلام اللَّيل العادي، وكان يموج بشيءٍ ما جعلَ الشُّعيرات تَنتَصِب على مؤخِّرة عُنقه. أيامٌ تسعة مرَّت على هذه الجولة التي أخذَتهم شَمالا ثم إلى الشَّمال الغربي، ثم شَمالا مرَّةً أخرى وبعيدًا عن "الجِدار" أكثر فأكثر، قضوها في اقتفاء آثار جماعةٍ من المُغيرين الهَمج، وكلُّ يومٍ أصعب من سابِقه، أمَّا اليوم فالأسوأ على الإطلاق، فالرِّياح الباردة تَهُبُّ من الشَّمال وتجعل حفيف الأشجار كأنه حركة عشرات الكائنات، وصاحَبَ ويل طوال اليوم شعور بأن ثمَّة شيئًا ما يُراقِبه، شيئًا باردًا قاسيًا لا يُكِنُّ له أيَّ مودَّة.

چارد أيضًا راودَه الشُّعور نفسه، بينما لم يرغب ويل في شيءٍ في تلك اللحظة أكثر من أن ينطلق عائدًا بأقصى سرعته إلى أمان "الجِدار"، لكن لم يكن من الجائِز طبعًا أن تُعَبِّر عن رغبةٍ كهذه لقائدك.

خصوصًا إذا كان قائدك هو هذا الرجل.

كان السير وايمار رويس أصغر أبناء عائلةٍ قديمةٍ أنجبَت خطًّا طويلاً من الورثة، شابًّا وسيمًا في الثامنة عشر من عُمره، رشيقًا نحيفًا كسكِّين، وله عينان رماديَّتان. ارتقى الفارس على صهوة جواده الأسود الضَّخم فوق ويل وچارد اللذين امتطيا حصانين أصغر حجمًا، وقد ارتدى حذاءً جلديًّا أسودَ طويل العُنق، وسروالا أسودَ من الصُّوف، وقُفَّازين أسودين من فرو الخُلد، مع معطفٍ أنيق من الحلقات المعدنيَّة السَّوداء اللامَّعة فوق طبقاتٍ وطبقاتٍ من الصُّوف والجِلد الذي تمَّت تقويته بالزَّيت المغلي. كان السير وايمار أخًا تحت القَسم في حَرس اللَّيل منذ ما لا يزيد على نِصف العام، لكن لا أحد يُمكنه أن يَزعُم أنّه لم يكن مستعدًّا لهذا العمل، من ناحية ملاءَمة ملابسه له على الأقل. كان معطفه المصنوع من جِلد السَّمُّور مصدر فخره الأكبر، فهو أسودَ سميك وشديد النعومة.

كان چارد قد قال عنه لرفاقه في حَرس اللَّيل ذات مرَّةٍ وهم يحتسون النَّبيذ: «أُراهِنُ أنَّ مُحارِبنا العظيم قتلَهم جميعًا بنفسه. أُراهِنُ أنّه كسر أعناقهم الصغيرة»، وانفجرَ الجميع ضاحكين.

خطرَ لويل وهو جالس يرتَجف على حصانه أنَّه من الصعب أن تتلقَّی الأوامر من رجلٍ ضحكتَ منه وأنت ثَمِل، ولابُدَّ أن الخاطِر ذاته كان يُراوِد چارد الشَّيخ الذي قال: «مورمونت قال أن نقتفي أثرهم، ولقد فعلنا. إنهم موتی ولن يزعجونا ثانيةً أبدَا. ما زالت أمامنا رحلة طويلة، وهذا الطَّقس لا يروق لي. إذا سقطَ الثَّلج فلن نستطيع العودة قبل أسبوعين على الأقل، ولنتمنَّ أن يَقتَصِر الأمر على سقوط الثَّلج فحسب. هل سبقَ أن رأيت عاصفةً ثلجيةً يا سيِّدي؟».

لم يبدُ على الفارس أنه سمعه، بل تفحَّص أضواء الشَّفق بطريقته نِصف الملول نِصف الحائرة المعتادة، وقد سبقَ لويل الخروج معه في عددٍ من الجولات كان كافيًا لأن يعرف أنّ من الأفضل ألَّا يقاطعه وعلى وجهه هذا التَّعبير. «ویل، أخبِرني بما رأيته مرَّة أخرى. جميع التَّفاصيل. لا تُغفِل أيَّ شيء».

كان ويل صيادًا قبل أن يلتحق بحَرس اللَّيل، أو أنه كان يسرق الصَّيد بالأحرى، ثم ألقى خيَّالة آل مالیستر القبض عليه مُتَلَبِّسًا ذات يوم وهو يَسلُخ وعلًا مملوكًا لآل ماليستر في غابة آل مالیستر نفسها، فصار أمامه خيارٌ من اثنين: إما أن يرتدي أسْودَ حرَس اللَّيل أو تُقطَع يده. لا أحد يستطيع الحركة في الغابة بهدوء ويل، ولم يمضي وقتٌ طويل قبل أن يكتَشف الإخوة السُّود موهبته هذه. أجابَ سؤالَ السير وایمار قائلًا: «المخيَّم على بُعد میلین، وراء سياج الأشجار هذا وعلى ضفَّة جدول. لقد اقترَبتُ قَدر المستطاع ورأيتُ ثمانية منهم، رجالًا ونساء، وإن لم أرَ أيَّ أطفال. المخيَّم منصوب إلى جوار المنحدَر الذي كان الثَّلج قد غطَّاه إلى حَدٍّ كبير، لكنني لاحَظته. لا توجد نارٌ مشتعلة، لكن حُفرة النار كانت ظاهرةً تمامًا. لقد راقَبتُ المكان لفترةٍ طويلة، لكن لا أحد منهم تحرَّك. ليس هناك إنسانٌ حي يُمكنه أن يستلقي بذلك الثَّبات أبدًا».

- «هل رأيت أيَّ دماء؟».

- «کلَّا».

- «هل رأيت أيَّ أسلحة؟».

- «بضعة سيوفٍ وأقواس، ورأيتُ بلطةً مع واحدٍ منهم، ثقيلةً كما أوحى شكلها، ومزدوجة النَّصل، قطعة قاسية من الحديد في الحقيقة. كانت على الأرض إلى جوار يده مباشَرةً».

- «وهل لاحَظتَ أوضاع الجُثث؟».

هَزَّ ويل كتفيه مجيبًا: «اثنان كانا مرتکنَيْن على الصَّخرة. معظمهم كان على الأرض، فلا بُدَّ أنهم صَرعی».

- «أو أنهم كانوا نائمين».

قال ويل بإصرار: «بل صَرعی. كانت هناك امرأة نِصف متوارية بين الفروع، خفيرة»، وأضاف بابتسامةٍ صغيرة: «تأكَّدتُ من أنها لم ترَنی، لكن عندما اقترَبتُ منها رأيتُ أنها لا تتحرَّك أصلًا».

قالها وارتجف جسده رغمًا عنه.

سأله رويس: «هل تَشعُر بالبَرد؟».

غمغم ویل: «بعض الشيء. إنها الرِّياح یا سیِّدي».

كانت أوراق الأشجار المكسوَّة بالصَّقيع تتساقَط وتهمس وراءهم، وتُحَرِّك جواد رویس بتوتُّرٍ والفارس يلتَفت إلى جُندِيِّه الأشيب ويسأله بلهجةٍ جعلها عاديَّة: «چارد، ما الذي قتلهم في رأيك؟»، ثم عدَّل وضع معطفه الطويل.

أجابَ چارد بثقةٍ من حديد: "إنه البَرد. لقد رأيتُ رجالًا يتجمَّدون حتى الموت الشِّتاء الماضي، والشِّتاء الذي قبله، عندما كنتُ نصِف غلام. الجميع يتكلَّمون عن ثُلوجٍ عُمقها أربعون قدمًا، وكيف تأتي الرِّياح الجَليديَّة تعوي من الشَّمال، لكن العَدُوَّ الحقيقي هو البَرد. إنه يتسلَّل إليك بهدوءٍ متناهٍ يتفوَّق فيه على ويل نفسه، وفي البداية يرتجف جسدك وتصطكُّ أسنانك، وتَدُقُّ بقدميك على الأرض وأنت تَحلُم بالنبَّيذ المتبَّل ودِفء النار. إنه يُحرِق... يُحرِق... لا شيء يُحرِق كالبَرد... لكن لقليلٍ من الوقت فقط، لأنه يتسرَّب إليك من الدَّاخل بعدها ويملؤك، وبعد فترةٍ قصيرةٍ لن تجد في نفسك إرادةً لمُقاوَمته. من الأسهل عندها أن تجلس في مكانك أو تَخلُد إلى النوَّم. يقولون إنك لا تَشعُر بأيِّ ألمٍ نحو النهِّاية، بل تَشعُر بالضَّعف والدُّوار أولًا، ثم يبدأ كلُّ شيءٍ في التَّلاشي من أمام عينيك. ثم إنك تَشعُر كأنك تغوص في بَحْرٍ من الحليب الدَّافئ ويُفعِمك الشُّعور بالسَّلام".

قال السير وايمار: "أحبُّ فصاحتك يا چارد. لم أعرف قَطُّ أنك تستطيع الكلام هكذا".

- " أنا أيضًا شعرتُ بالبَرد في داخلي أيها اللورد الصغير"، قال چارد وأنزلَ قلنسوته ليُلقي السير وايمار نظرةً طويلةً فاحصةً على أُذنيه اللتين لم تَعُودا هناك. "أذنان وثلاثة أصابع قدم وخنصر يدي اليُسرى. كنتُ محظوظًا، لأننا عثرنا على أخي وقد تجمَّد في مكانه أثناء ورديَّته، وكان مبتسمًا".

هَزَّ السير وايمار رأسه قائلا بتهكُّم: "يَجدُر بكَ أن ترتدي ملابس أثقل".

حدَّق چارد غاضبًا في الفارس وقد تورَّدت النُّدوب حول الثُّقبين اللذين تبقَّيا من أذنيه بعد أن قطعَهما المَايستر إيمون، وقال: "سنرى كيف تمنحك ملابسك الثَّقيلة الدِّفء عندما يأتي الشِّتاء"، وعادَ يرفع قلنسوته على رأسه، وانحنى فوق حصانه بصمتٍ عابِس.

قال ويل: "طالما قال چارد إن البَرد هو الذي...".

قاطَعه رويس بقوله: "ويل، هل خرجتَ في أيِّ جولاتٍ الأسبوع الماضي؟".

- "نعم يا سيدي".

لم يكن أسبوع واحد يَمُرُّ دون أن يَخرُج ويل في عشر جولاتٍ لعينة على الأقل، فما الذي يرمي إليه هذا الرَّجل بالضَّبط؟

-"وكيف كان الجِدار؟".

أجابَ ويل عاقدًا حاجبيه وقد أدركَ ما يعينه الفارس الصَّغير بسؤاله: "كان يَقطُر. ليس من الممكن أن الهَمج تجمَّدوا إذن، ليس عندما يَقطُر "الجِدار"، فالجَوُّ لم يكن باردًا بما فيه الكفاية".

أومأ رويس موافقًا، وقال بابتسامةٍ واثقة: "ولدٌ ذكي. نعم، كانت هناك موجات خفيفة من الصَّقيع الأسبوع الماضي، وتساقطَ الثَّلج بين الحين والآخَر، لكن الجَوَّ لم يكن بالتأكيد بالبرودة الكافية لقتل ثمانية رجال بالغين، ثمانية رجال -دعني أُذَكِّرك- متدثَّرين بالفرو والجِلد، على مقربةٍ من ملجئهم، ولديهم وسيلة لإشعال النار كذلك. ويل، قُدنا إلى مكانهم. أريدُ أن أرى هؤلاء الموتى بنفسي".

وعندها لم يَعُدْ هناك مجال للجدل، فقد أعطى الفارس الأمر، وأصول الشَّرف تُرغِم الآخرَيْن على الطَّاعة.

تقدَّم ويل الطَّريق وحصانه الأشعث الصغير يَشُقُّ طريقه بحذرٍ وسط الأرض المكسوَّة بطبقةٍ من الأبيض. كان ثلجٌ خفيفٌ قد تساقطَ اللَّيلة السَّابقة، وهناك حجارة وجذور وحُفر غير مرئيَّةٍ تتوارى منتظرةً ابتلاع الطَّائشين والغافلين. تحرَّك السير وايمار رويس وراء ويل وقد أخذَ جواده الأسود الضَّخم يصهل بتوتُّر. كان الجواد الحربي غير صالحٍ بالمرَّة لهذه الجولات، لكن حاوِل أن تقول ذلك للّورد الصَّغير. ثم جاءَ چارد في المؤخِّرة وقد أخذَ يُدَمدِم متذمِّرًا لنفسه وهو يتحرَّك بحصانه.

صارَ الغَسق أثقل، وتلوَّنت السَّماء بلونٍ أرجوانيٍّ عميق، لون الكدمات القديمة، ثم أخذَ الأسوَد ينتشر فيها. بدأت النجوم تتجلَّى وارتفعَ القَمر هلالًا، ما أشعرَ ويل بالامتنان لوجود ولو بصيصٍ من الضَّوء.

قال رويس عندما استقرَّ القَمر في السَّماء: "يُمكننا التحرُّك بسرعةٍ أكبر بالتَّأكيد، أليس كذلك؟".

رَدَّ ويل بحدَّةٍ وقد أصابَه الخوف باللامبالاة: "ليس بهذا الحصان، لكن هل يرغب سيِّدي في قيادة الطَّريق؟".

لم يُعَلِّق السير وايمار رويس على إجابة ويل.

وفي مكانٍ ما في الغابة تعالى عواء ذِئب.

توقَّف ويل بحصانه تحت شجرةٍ صُلب 1 عتيقةٍ متشابكة الأغصان وترجَّل، فسأله رويس: "لماذا توقَّفنا؟".

- "من الأفضل أن نقطَع بقيَّة الطَّريق سيرًا على الأقدام يا سيِّدي. المكان يقع وراء هذه الأشجار مباشرةً".

صمتَ رويس للحظةٍ وتطلَّع أمامه وقد بدَت على وجهه أمارات التَّفكير. كانت الرِّيح الباردة تهمس بين الأشجار، وتُحَرِّك معطفه الثَّقيل الثَّمين وراء ظهره كأنه كائن نِصف حي.

تمتمَ چارد: "ثمَّة شيء ما على غير ما يُرام هنا".

رمقَه الفارس الشاب باسمًا، وقال بازدراء: "حقًّا؟".

سألَه العجوز: "ألا تَشعُر به؟ أصغِ إلى الظَّلام".

كان ويل يَشعُر به فعلا. أربعة أعوام قضاها في حَرس اللَّيل لم يَشعُر فيها بخوفٍ كهذا قَطُّ. ماذا هناك بالضبط؟

- "لا أسمعُ إلّا الرِّياح وحفيف الأشجار وعواء ذِئب، فأيُّ هذه الأصوات يُخيفك إلى هذه الدرجة؟".

عندما لم يُجِب چارد، ترجَّل رويس عن جواده برشاقة، ثم ربطَه بعنايةٍ إلى فرع شجرةٍ واطئٍ بعيدًا عن الحصانين الآخرَيْن، وسحبَ سيفه الطَّويل من غِمده، فتألَّقت الجواهر التي رصَّعت المقبض، وانعكسَ ضوء القَمر على الفولاذ اللامع. كان سلاحًا رائعًا بالفعل، مطروقًا في قلعة 2، وَيَشي شكله بأنه ما زال جديدًا، ما جعلَ ويل يرتاب في أن هذا السَّيف قد استُخدِم في أيِّ نزالٍ من قبل.

قال ويل مُحَذِّرًا: "الأشجار تتشابَك بشدَّةٍ هنا، وسيُعيقك السَّيف عن الحركة. يَحسُن أن تستخدم سكِّينًا".

رَدَّ القائد الشَّاب: "إذا احتَجتُ تعليماتك سأطلُبها منك. چارد، احرُس الخيول".

ترجَّل چارد قائلا: "يجب أن نُشعِل نارًا. سأتولَّى هذا".

- "هل أنت أحمق أيها العجوز؟ إذا كان هناك أعداء ما في الغابة، فالنَّار هي آخِر ما نحتاجه".

- "ثمَّة نوع من الأعداء تُبعِده النَّار. الدِّببة والذِّئاب الرَّهيبة 3 و.... وأشياءَ أخرى".

استحالَ فم السير وايمار إلى خَطٍّ رفيع وهو يقول بقسوة: "لا نار" كانت قلنسوة العجوز تُظَلِّل وجهه، لكن ويل استطاعَ أن يرى اللَّمعة الغاضبة في عينيه وهو يَرمُق الفارس. للحظةٍ خشيَ ويل أن يستلَّ العجوز سيفه، وقد كان شيئًا قصيرًا قبيحًا لاحَ لون مقبضه بفِعل العَرق، وتشوَّهت حافَّته من الاستخدام العنيف، لكن ويل لم يكن ليرى فرصةً لنجاة اللورد الصغير لو كان چارد قد سحبَ سيفه من غمِده فعلا.

ثم إن چارد خفضَ عينيه أخيرًا، وبصوتٍ خافتٍ غمغمَ: "لا نار".

اعتبرَ رويس هذا إذعانًا من العجوز، فالتفتَ إلى ويل قائلا: "قُد الطريق".

شَقَّ ويل الطريق بحذرٍ عبر دغلٍ كثيف، ثم بدأ يصعَد المنحدَر نحو سياج الأشجار المنخفض، حيث وجدَ نقطة مراقبةٍ مُناسِبةٍ تحت واحدةٍ من أشجار الحارس 4. كانت الأرض تحت قشرة الجَليد الرقيقة مبتلَّةً موحِلةً يَسهُل الانزلاق عليها، ومليئةً بالصُّخور والجذور المتوارية التي تنتظر أن تتعثَّر فيها. لم يُصدِر ويل صوتًا وهو يتسلَّق، ومن ورائه كان يسمع حفيف أوراق الشَّجر مُمتزجًا بالصَّوت المعدني الخافت الذي يَصدُر عن دِرع اللورد الصَّغير، وسمعه يُطلِق سبَّةً والأفرُع الطويلة تعوق حركة سيفه الطَّويل وتشتبك بمعطفه الأسود الفاخر.

كانت شجرة الحارس الضَّخمة هناك عند قمَّة سياج الأشجار، في المكان الذي قال ويل إنها ستكون فيه، وأدنى أفرُعها يتدلَّى على بُعد قدمٍ واحدٍ لا أكثر من الأرض. انزلقَ ويل زاحفًا على بطنه في الثَّلج والوحل تحت الأفرُع الواطئة، وتطلَّع إلى البُقعة الخاوية أسفله.

وتوقَّف قلبه عن النَّبض في صدره، وللحظةٍ لم يجرؤ على التنفُّس.

تألَّق ضوء القَمر على رُقعة الأرض الفضاء، بما فيها من الرَّماد المتخلِّف عن حُفرة النَّار والمنحدَر المغطَّى بالجَليد والصَّخرة الضَّخمة والجدول الصغير نِصف المتجمِّد. كان كلُّ شيءٍ كما تركَه بالضَّبط منذ ساعاتٍ قليلة.

فيما عدا أن الجُثث كلها اختفَت.

سمعَ صوتًا من ورائه يقول: "بحَقِّ الآلهة!"، ورأى سيفًا يقطع غُصنًا إذ وصلَ السير وايمار رويس إلى حافَّة سياج الأشجار. وقفَ هناك إلى جوار شجرة الحارس وسيفه الطَّويل في يده ومعطفه يطير منتفخًا وراءه بفِعل الرِّياح، وقد حدَّده ضوء النُّجوم على نحوٍ مليءٍ بالنُّبل فبدا مهيبًا.

همسَ ويل بلهفة: "انخفِض! شيءٌ ما على غير ما يرام هنا".

لم يتحرَّك رويس من مكانه، بل تطلَّع إلى الأرض الخالية وانفجرَ ضاحكًا، ثم قال هازئًا: "يبدو أن موتاك قرَّروا نقل مخيَّمهم إلى مكانٍ آخَر".

تخلَّى صوت ويل عنه، وكافحَ للعثور على كلماتٍ لم تأتِ. إن ما يَحدُث غير ممكن بكلِّ المقاييس. أخذَت عيناه تمسحان مكان المخيَّم المهجور من اليمين إلى اليسار، قبل أن تتوقَّفا عند البلطة، بلطة الحرب الضَّخمة مزدوجة النَّصل التي ما زالت ملقاةً هناك حيث رآها من قبل ولم يمسَسها أحد... سلاح قيِّم حقًّا.

قال السير وايمار آمرًا: "انهَض يا ويل. لا يوجد أحد هنا، ولن أتركك تتوارى تحت شجرة".

أطاعَ ويل الأمر على مضض، بينما رمقَه السير وايمار بإمعانٍ وعلى وجهه نظرة غير راضية، وقال: "لن أعود إلى القلعة السَّوداء أجرُّ أذيال الفشل في أول جولةٍ لي. سوف نَعثُر على هؤلاء الرجال، مفهوم؟"، ثم تطلَّع حوله وأضافَ: "تسلَّق الشَّجرة، هيا بسرعة، وابحث عن نار".

ابتعدَ ويل دون أن يُعَلِّق، فلم تكن هناك فائدة من الجدل. كانت الرِّيح تتحرَّك وتنفذ من مسامِّه. اتَّجه إلى شجرة الحارس الضَّخمة ذات الأفرُع المُقَنْطَرَة واللَّونين الأخضر والرَّمادي وبدأ يتسلَّق، ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يُغَطِّي النُّسغ اللَّزِج يديه ويغيب بين الأشواك. ملأ الخوف أحشاءه كوجبةٍ لم يستطِع أن يهضمها، وهمسَ بصلواتٍ لآلهة الغابة التي لا تُعرَف لها أسماء، وأخرجَ خنجره الطَّويل من غِمده ووضعَه بين صَفَّيِّ أسنانه كي تظلَّ يداه حُرَّتين للتسلُّق، فبَثَّ إحساس الحديد البارد في فمه شعورًا بالاطمئنان.

ثم سمعَ الفارس الشَّاب يصيح في الأسفل مُناديًا: "من هناك؟".

أحسَّ ويل بتردُّدٍ في الصَّيحة، فتوقَّف عن التسلُّق وأرهفَ سمعه وبصره.

أعطَت الغابة الإجابة... حفيف أوراق الشَّجر، وتدفُّق الجدول الثَّلجي، ونعيب بومةٍ من بعيد.

ولم يُصدِر "الآخَرون" صوتًا.

بِرُكن عينه رأى ويل حركةً ما، أشياءَ شاحبةً تنسلُّ عبر الغابة. أدارَ رأسه فلمحَ ظِلًا أبيضَ في الظَّلام سرعان ما اختفى. تحرَّكت الفروع بنعومةٍ مع الرِّيح خادشةً بعضها بعضًا بأصابعٍ من خشب، وفتحَ ويل فمه ليصيح محذِّرًا، لكن الكلمات تجمَّدت في حَلقه. لعلَّه مخطئ، لعلَّه مجرَّد طائر، أو انعكاس على الثَّلج، أو خدعة ضوئيَّة ما من القَمر، فما الذي رآه أصلا؟ أتاه صوت السير وايمار يُنادي قائلا: "ويل، أين أنت؟ هل ترى أيَّ شيء؟". كان يدور حول نفسه في دائرةٍ ببُطْءٍ وانتباهٍ مفاجئ وسيفه في يده. لابُدَّ أنه شعرَ بهم كما شعرَ بهم ويل، لكن لم يكن هناك ما يُرى. "أجِبني! لماذا اشتدَّ البَرد هكذا؟".

كانت البرودة قد صارت أشدَّ بالفعل، وتشبَّث ويل أكثر بمجثمه وهو يرتجف، وقد ضغطَ وجهه بقوَّةٍ في جِذع شجرة الحارس، وشعرَ بالنُّسغ الحُلو اللَّزج على وجنته.

ثم انشقَّ ظلام الغابة عن ظِلٍّ ليقف أمام السير وايمار مباشَرةً. طويلاً كان، وهزيلا وقاسيًا كالعظام القديمة، لحمه شاحب كالحليب. بدا أن لون دِرعه يتغيَّر مع حركته؛ هنا أبيضَ كالثَّلج الطَّازج وهناك أسودَ كالظِّلال، وفي كلِّ بقعةٍ مرقَّط بأخضرَ ورمادي الأشجار. كانت النُّقوش تسري على دِرعه كَنُور القَمر على سطح الماء مع كلِّ خطوةٍ يخطوها.

وسمعَ ويل أنفاس السير وايمار رويس تَفِرُّ من جسده في هسيسٍ طويل.

- "لا تقترب أكثر"، قال الفارس الشَّاب مُحَذِّرًا بصوتٍ مشروخٍ كصوت صبيٍّ صغير، وألقى المعطف الأسود الطويل فوق كتفيه ليُحَرِّر ذراعيه للقتال، وأطبقَ على سيفه بكلتا يديه. كانت الرِّيح قد سكنَت تمامًا وصارت البرودة قاسيةً بحق.

انسلَّ "الآخَر" إلى الأمام بخطواتٍ صامتة، وفي يده سيف طويل ليس كشيءٍ رآه ويل من قبل قَطُّ. هذا السَّيف لم يُطرَق من أيِّ معدنٍ بشري.

كان ينبض بنور القَمر، شِبه شفَّاف، كِسرة من البِلَّور شديدة الرِّقَّة تكاد تتوارى عن الأنظار إذا نظرت إليها رأسًا. كان ثمَّة وميض أزرقَ خافِت، ضوء شبحي يتراقَص حول الحواف، وبشكلٍ ما عرفَ ويل أنه أمضى من أيِّ نصل.

واجَهه السير وايمار بشجاعةٍ قائلا: "لنَرقُص معًا إذن"، ورفعَ سيفه عاليًا فوق رأسه بتحدٍّ. ارتجفَت يداه من ثِقل السَّيف، أو ربما من البَرد، وإن خطرَ لويل في تلك اللحظة أنه لم يَعُدْ صبيًّا، بل صارَ واحدًا من رجال حَرس اللَّيل.

توقَّف "الآخَر"، ورأى ويل عينيه. كانتا ذات لونٍ أزرقَ شديد العُمق يُحرِق كالجَليد، أعمق وأكثر زُرقةً من أيِّ عينٍ بشريَّة، وقد ثبتَت نظراتهما على السَّيف الطَّويل الذي يرتفع مرتجفًا في يد صاحبه، وراقَبتا نور القَمر البارد يجري على المعدن، وللحظةٍ جَرُؤَ ويل على الأمل.

خرَجوا بصمتٍ من قلب الظِّلال... اثنان في البداية... ثلاثة... أربعة... خمسة... قد يكون السير وايمار قد شعرَ بالبَرد الذي جاءَ معهم، لكن المؤكَّد أنه لم يرَهم أو يسمَعهم. كان ينبغي على ويل أن يُطلِق صيحة تحذير. كان هذا واجبه... وهلاكه إذا فعلها. هكذا ارتجفَ واحتضنَ الشَّجرة ولاذَ بالصَّمت.

وشَقَّ السَّيف الشَّاحب الهواء.

قابله السير وايمار بفولاذه، وعندما التقى النَّصلان لم يتردَّد رنين اصطدام المعدن بالمعدن، بل مجرَّد صوتٍ مرتفعٍ رفيع عند حافَّة السَّمع، كصرخة حيوانٍ يتألَّم. صَدَّ رويس ضربةً ثانيةً، ثم الثَّالثة، ثم تراجعَ خطوة.

سلسلة أخرى من الضَّربات، ثم تراجعَ من جديد. من ورائه، إلى يمينه، إلى يساره، من كلِّ مكانٍ حوله، وقفَ المُراقِبون بصبرٍ صامت، وجوههم بلا معالم، تتبدَّل النُّقوش على دروعهم فتجعَلهم أبرز شيءٍ في هذه الغابة، لكنهم لم يُحاوِلوا التدخُّل.

مرَّةً أخرى وأخرى التقى السَّيفان، إلى أن أحسَّ ويل بأنه يُريد أن يُغَطِّي أذنيه ليقيهما صوت الاصطدام الحاد الشَّبيه بالعويل. كان السير وايمار يلهث من جرَّاء المجهود الآن، وأنفاسه تَخرُج في شكل بُخارٍ ساخنٍ في نور القَمر، واكتسى سيفه بالصَّقيع الأبيض بينما رقصَ ضوء أزرقَ على سيف "الآخَر".

ثم تأخَّرت حركة رويس الدِّفاعيَّة لحظةً واحدةً، فشَقَّ السَّيف الشَّاحب الحلقات المعدنيَّة تحت ذراعه، وأطلقَ اللورد الشَّاب صرخةً مفعمةً بالألم. انبجسَ الدَّم السَّاخن من بين الحلقات ليَخرُج بُخاره في البَرد، وبدَت القطرات حمراء كاللَّهب وهي تَقطُر على الثَّلج. مسحَ السير وايمار جانبِه بيده، ورأى القُفَّاز المصنوع من فرو الخُلد غارقًا في الأحمر القاني.

بصوتٍ كتشقُّق الجَليد على سطح بحيرةٍ شتويَّة قال "الآخَر" شيئًا بلُغةٍ يجهَلها ويل، وكانت كلماته ساخرةً.

وعثرَ السير وايمار رويس على الغضبة التي كان يحتاجها، فصاحَ: " لأجل روبرت!"، واندفعَ مزمجرًا رافعًا السَّيف الطَّويل المكسوَّ بالصَّقيع بيديه، وهوى به بضربةٍ جانبيَّةٍ وضعَ ثِقله كله وراءها، فتراجعَ "الآخَر" بحركةٍ تكاد تكون كسولةً.

وعندما تلاقى النَّصلان تحطَّم الصُّلب.

تردَّدت صرخة في ليل الغابة، وتشظَّى السَّيف الطَّويل إلى مئة قطعةٍ مشوَّهة، وتناثرَت الشَّظايا كأمطارٍ من الإبر الحادَّة. هوى رويس على رُكبتيه متأوِّهًا وغطَّى عينيه، انبثقَ الدَّم من بين أصابعه.

تقدَّم المُراقِبون إلى الأمام معًا كأنهم تلقوا إشارةً ما، وارتفعَت السُّيوف وهوَت بصمتٍ مميت. كانت مجزرةً باردةً اخترقَت فيها النِّصال دِرع الحلقات المعدنيَّة كأنها من الحرير. أغلقَ ويل عينيه، ومن بعيدٍ في الأسفل سمعَ أصواتهم التي تلفظ بلُغةٍ حادَّةٍ كسكاكينٍ من جَليد.

كان وقتًا طويلاً قد انقضى عندما وجدَ شَجاعةً تكفي لأن يَنظُر ثانيةً، وفي الأسفل كان المكان خاويًا.

ظَلَّ على الشَّجرة يكاد لا يجرؤ على التقاط أنفاسه، بينما زحفَ القَمر بتؤدةٍ في السَّماء السَّوداء، قبل أن يستسلم أخيرًا للتشنُّجات التي أصابَت جسده والخَدَر الذي سرى في أصابعه، ويبدأ النزول.

كان المعطف الأسود السَّميك قد شُقَّ في غير موضع، والآن وهو يراه وقد سقطَ ميتًا هكذا أدركَ ويل كم كان السير وايمار صغيرًا، أنّه كان مجرَّد صبي.

عثرَ على ما تبقَّى من السَّيف على بُعد بضعة أقدام، وقد تشقَّق طرفه والتوى كشجرةٍ ضربَها البَرق. انحنى ويل ونظرَ حوله بحذرٍ والتقطَه.

سيكون السَّيف المكسور دليلاً كافيًا. سيستنتج چارد شيئًا منه، وإن لم يكن هو فالدُّب العجوز مورمونت أو المِايستر إيمون لا شكَّ. عليه أن يُسرِع. هل ما زال چارد ينتظر مع الخيول؟ نهضَ ويل، وأمامه كان السير وايمار رويس على قدميه.

ملابسه الثَّمينة كانت خرقةً باليةً، ووجهه خرابًا، وفي بياض بؤبؤ عينه اليُسرى الأعمى انغرسَت شظية من سيفه.

وكانت العين اليُمنى مفتوحةً... تتَّقد بالأزرق... وترى.

سقطَ السَّيف المكسور من أصابعٍ ما عادت فيها أعصاب، وأغلقَ ويل عينيه ليُرَدِّد صلواته، بينما مسَّت يدان طويلتان ناعمتان وجنته، قبل أن تُطبِقا على عُنقه. كانتا مكسوَّتين بنوعٍ فاخرٍ من فرو الخُلد وملطَّختين بالدِّماء، لكن لمستهما باردة كالثَّلج.

2019/11/26 · 898 مشاهدة · 3404 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024