امتدَّ الشَّمال بلا نهاية.

تيريون لانستر كان على درايةٍ بالخرائط كأيِّ أحدٍ آخَر، لكن الأسبوعين اللذين قضاهما على الدَّرب الوَعر الذي يمتدُّ من طريق الملوك في هذه المنطقة، لقَّناه درس أن الخريطة شيء والأرض الفعليَّة شيء آخَر تمامًا.

كانوا قد غادَروا وينترفل في اليوم نفسه كالمَلك وسط جلبة رحيل العائلة الملكيَّة، وخرجوا على خلفيَّةٍ من زعيق الرِّجال وصهيل الخيل وقعقعة العربات وصرير مركبة المَلكة المجرورة، بينما تطايرَت نُدف ثلجٍ خفيف من حولهم. كان طريق الملوك يقع وراء امتداد القلعة والبلدة مباشرةً، وهناك انعطفَت الرَّايات والعربات وصفوف الفُرسان والمُحارِبين غير النِّظاميِّين جَنوبًا آخذةً الصَّخب معها، بينما انعطفَ تيريون شمالاً مع بنچن ستارك وابن أخيه.

ومنذ ذلك الحين والجَوُّ يزداد برودةً، والصَّمت يُطبِق أكثر فأكثر.

إلى غَرب الطَّريق كانت تقع تلال صوَّان رماديَّة وعرة، وعلى قممها الحَجريَّة ترتفع أبراج حراسةٍ عالية. إلى الشَّرق كانت الأرض أكثر انخفاضًا، تتسطَّح في سهلٍ مائجٍ يمتدُّ على مدى البصر. ارتفعَت الجسور الحَجريَّة فوق أنهارٍ صغيرةٍ سريعة، بينما انتشرَت مَزارع صغيرة في حلقاتٍ حول معاقل ذات أسوارٍ من الخشب والحَجر. كان الطريق مأهولا إلى حَدٍّ كبير، وفي اللَّيل كانوا يجدون نُز هنا أو هناك يستريحون فيه.

لكن بَعد مرور ثلاثة أيامٍ على مغادرَة وينترفل بدأت الأراضي الزراعيَّة تتراجع أمام غابةٍ كثيفة، وصارَ طريق الملوك مقفرًا. ارتفعَت تلال الصوَّان أكثر وأصبحَت أكثر وعورةً مع كلِّ ميلٍ يمرُّ، إلى أن تحوَّلت مع حلول اليوم الخامس إلى جبال، كلٌّ منها كعملاقٍ باردٍ تلوَّن بالأزرق والرَّمادي، له نتوءات حادَّة والثَّلج يكسو كتفيه. عندما كانت الرِّياح تهبُّ من الشَّمال، كانت خيوط طويلة من الجليد البلَّوريِّ تطير من القمم العالية كأنها رايات.

شكَّلت الجبال جدارًا إلى الغَرب، وانعطفَ الطَّريق شَمالا ثم إلى الشَّمال الشَّرقي عَبر الغابة، التي احتشدَت فيها أشجار السَّنديان والعُروة وأشجار الورد البرِّي السَّوداء، فبدَت أقدم وأظلم من أيِّ غابةٍ رآها تيريون في حياته. كان بنچن ستارك يُسَمِّيها "غابة الذِّئاب"، وبالفعل كانت الحياة تدبُّ في ليلهم هناك مع عُواء القُطعان البعيدة، وبعضها لم يكن بعيدًا لهذه الدَّرجة. كان ذِئب چون سنو الأمهق يصيخ السَّمع إلى العُواء اللَّيلي، لكنه لم يرفع صوته بإجابةٍ قَطُّ. فكَّر تيريون أن ثمَّة شيئًا في ذلك الحيوان يثير الرَّهبة إلى أقصى حد.

ضمَّت المجموعة ثمانية منهم بخلاف الذِّئب. كان تيريون يرتحِل مع اثنين من رجاله كما يليق بلانستر، بينما لم يكن مع بنچن ستارك في البداية غير ابن أخيه غير الشَّرعي وبضعة خيولٍ جديدةٍ لحَرس اللَّيل، لكنهم قضوا ليلةً على حافَّة غابة الذِّئاب وراء الأسوار الخشبيَّة التي تحيط بمعقلٍ قديم، وهناك انضمَّ إليهم واحد آخَر من الإخوة السُّود يُدعى يورن. كان محنيَّ الظَّهر قاسي النَّظرات، تختفي ملامحه وراء لحيةٍ سوداء كملابسه، لكنه بدا قويًّا كجذرٍ قديم وصلبًا كحَجر وكان معه ولدان ف حَّالان من جُزر "الأصابع" يرتديان ثيابًا مهترئةً. "مُغتَصِبان"، قال يورن وهو يَرمُق عُهدتيه بنظرةٍ باردة، وفهمَ تيريون. الحياة على "الجِدار" قد تكون صعبةً فعلا كما يُقال، لكنها بالتأكيد خيار أفضل بكثير من الخِصاء.

خمسة رجال، ثلاثة أولاد، ذِئب رهيب، عشرون حصانًا، وقفص من الغِدفان أعطاه المِايستر لوين إلى بنچن ستارك. لا شكَّ أنهم شكَّلوا مجموعةً تثير الفضول على طريق الملوك، أو على أيِّ طريقٍ في المُطلَق.

لاحظَ تيريون أن چون سنو كان يُراقِب يورن ورفيقيه الواجمَيْن، وعلى وجهه تعبير بدا لتيريون أقرب إلى الارتياع. كان يورن ذا كتفٍ ملتويةٍ ورائحةٍ خبيثة، شَعره ولحيته أشعثان ملطَّخان بالدُّهون ويَعُجَّان بالقمل، ملابسه قديمة مرقَّعة ونادرًا ما عرفت الغسيل. أمَّا مجنَّداه الجديدان فكانت رائحتهما أسوأ، وبدا بليدين بقَدر ما هما متوحِّشان.

لا شكَّ أن الصَّبي قد أخطأ في اعتقاده أن حَرس اللَّيل مكوَّنون من رجالٍ مِثل عمِّه فحسب. إن كان هذا ما حدثَ فعلا، فيورن ورفيقاه كانا بمثابة صفعة إيقاظٍ قويَّة. شعرَ تيريون بالأسف من أجل الصَّبي. لقد اختارَ حياةً صعبةً... أو اختيرت له حياة صعبة بالأحرى.

أمَّا العم فلم ينَل مِثل هذا التَّعاطُف. كان من الجلي أن بنچن ستارك يُشارِك أخاه في نفوره من آل لانستر، ولم يكن مسرورًا عندما أخبرَه تيريون بنِيَّته، وعقَّب بصرامةٍ وهو يَرمُقه من أعلى: "أحذِّرك أنك لن تجد حاناتٍ على "الجِدار" يا ابن لانستر".

أجابَ تيريون: "من المؤكَّد أنكم ستجدون مكانًا ما لي. لعلَّك لاحظت أني صغير الحجم".

لا أحد يَرفُض طلبًا لشقيق المَلكة بالطَّبع، فسوَّى هذا المسألة في الحال، وإن لم يكن ستارك راضيًا على الإطلاق، واكتفى بأن قال بلهجةٍ جافَّة: "لن تروق لك الرِّحلة على الإطلاق، أعدك بهذا"، ومنذ لحظة التحرُّك وهو يفعل كلَّ ما في استطاعته للوفاء بهذا الوعد. هكذا، مع نهاية الأسبوع الأول، كانت فخذا تيريون قد امتلأتا بالسَّحجات من طول لرُّكوب الشَّاق، وشعرَ بتشنُّجاتٍ قويَّةٍ في ساقيه وبالبَرد يتخلَّل عظامه.

لكنه لم يشكُ مرَّة. فلتحل به اللَّعنة إذا أرضى رغبة بنچن ستارك. ثم إنه وجدَ انتقامًا صغيرًا في مسألة معطفه الذي كان مصنوعًا من الفرو المبطَّن بجِلد الدِّببة، وإن كان رثًّا زَنِخ الرَّائحة. كان ستارك قد قدَّمه له بقدرٍ مفرطٍ من كياسة حَرس اللَّيل، متوقِّعًا بالتأكيد أنه سيرفضه بتهذيب، لكن تيريون قبله مبتسمًا. كان قد أحضرَ أدفأ ملابسه معه عندما غادَروا وينترفل، وسرعان ما اكتشفَ أنها ليست دافئةً كفايةً على الإطلاق. الطَّقس كان باردًا هنا حقًّا ويزداد برودةً بلا انقطاع، والبرودة ليلًا تفوق درجة التجمُّد كثيرًا بالفعل، والرِّيح تهبُّ لتخترق أثقل الملابس كالسَّكاكين. لابُدَّ أن ستارك يَشعُر بالنَّدم الآن لشهامته المندفِعة، ولعلَّه تعلَّم درسًا... بتهذيبٍ أو بغيره، آل لانستر لا يَرفُضون أبدًا، ويأخذون ما يُقَدَّم لهم.

صارت المَزارع والمعاقل أندرَ مع توغُّلهم شمالاً في أعماق غابة الذِّئاب المظلمة، حتى لم تَعُدْ هناك أسقُف يحتمون أسفلها، وعادوا يعتمدون على مواردهم الخاصَّة بالكامل.

لم يكن تيريون ذا فائدةٍ عندما يتعلَّق الأمر بإقامة المخيَّمات أو تفكيكها. إنه صغير الحجم جدًّا، مرتبك الحركة جدًّا، ويعوق طريق الجميع. هكذا، وبينما كان ستارك ويورن وبقيَّة الرِّجال يَنصِبون سقائف بسيطةً تقيهم، ويُعنون بالخيول ويُشعِلون نارًا، صارَ من عادته أن يأخذ معطفه الثَّقيل وقِربة نبيذ وينتحي بنفسه جانبًا ليقرأ. في الليلة الثامنة عشرة من رحلتهم انتقى نبيذًا من النوع الكهرماني الحُلو النَّادر من جُزر الصَّيف الذي كان قد جاءَ به شمالاً من كاسترلي روك، وكتابًا يتأمَّل تاريخ التَّنانين وصفاتها المميِّزة. كان تيريون -بإذنٍ من اللورد إدارد ستارك-قد استعارَ بضعة مجلَّداتٍ نادرةٍ من مكتبة وينترفل وحزمَها معه للرِّحلة شَمالا.

وجدَ بُقعةً مريحةً بعيدًا عن جلبة المخيَّم، إلى جوار غديرٍ سريعٍ مياهه صافية وباردة كالثَّلج، بينما زوَّدته شجرة سنديان مشوَّهة عتيقة للغاية بمأوى من الرِّياح القارسة. لَفَّ تيريون نفسه في معطفه وأراحَ ظَهره على جِذع الشَّجرة، وأخذَ رشفةً من النبَّيذ وبدأ يقرأ عن خواص عظام التنِّين. إنها قويَّة كالفولاذ، وإن كانت أخفَّ وأكثر مرونةً بكثير، ومنيعةً تمامًا من النِّيران بالطَّبع. للأقواس المصنوعة من عظام التنِّين قيمة عظيمة لدى الدوثراكي، ولا عجب في هذا، فالرَّامي المسلَّح بقوسٍ منها يُمكنه إصابة أهدافٍ أبعد بكثيرٍ ممن يحمل قوسًا من الخشب.

كان افتتان تيريون بالتَّنانين يكاد يكون مرضيًّا. عندما ذهبَ إلى كينجز لاندنج للمرَّة الأولى لحضور زفاف أخته إلى روبرت باراثيون، أصرَّ على أن يرى جماجم التَّنانين المعلَّقة على جدران قاعة عَرش تارجاريَن. كان المَلك روبرت قد رفعَها وعلَّق مكانها راياتٍ ولوحاتٍ قماشيَّة مزدانة بالألوان، إلا أن تيريون ثابرَ حتى عثرَ على الجماجم في القبو شديد الرُّطوبة الذي خزَّنوها فيه. كان يتوقَّع أن يجدها مثيرةً للانبهار، أو حتى للخوف، لكنه لم يتوقَّع قَطُّ أن يجدها جميلةً...

لكنها كانت جميلةً حقًّا.

كانت ذات لونٍ أدهمَ كالعقيق الأسود، وملساء تمامًا حتى أن العظام بدت كأنها تتوهَّج لمعانًا في ضوء مِشعله، وراودَه إحساس بأنها تحبُّ النَّار.

ثبَّت المِشعل في فم واحدةٍ من الجماجم الكبيرة وتركَ الظِّلال تتواثَب وتتراقَص على الجِدار من ورائه. كانت الأنياب خناجر طويلةً مقوَّسةً من الماس الأسود، لهب المشعل لا شيء بالنِّسبة لها، فقد اغتسلَت في أُوار نيران أعظم منه بكثير. كادَ تيريون يُقسِم أن مِحجري عين الوحش الخاويين كانا يُراقِبانه وهو يتحرَّك مبتعدًا.

كانت هناك تسع عشرة جمجمةً، أقدمها عُمرها يربو على الثلاثة آلاف عام، بينما لم تتجاوَز أصغر جمجمتين القَرن ونِصف عُمرًا. كانتا الأصغر في الحجم كذلك، زوجًا لا يزيد على حجم جمجمة كلب حراسةٍ كبير، ومشوَّهتين على نحوٍ غريب. هذا هو كلُّ ما تبقَّى من آخِر فَرخين وُلِدا في دراجونستون، آخِر تنانين آل تارجاريَن، وربما آخِر التَّنانين في العالم كله، وهما لم يعيشا طويلاً على كلِّ حال.

من هناك بدأ صَفُّ الجماجم يزداد حجمًا بالتَّدريج، وصولا إلى الوحوش العملاقة الثلاثة التي حكَت عنها القِصص والأغاني، التَّنانين التي أطلقَها إجون تارجاريَن وشقيقتاه على المَمالك السَّبع القديمة، وأطلقَ عليها المغنُّون أسماء آلهة ڤاليريا العتيقة: بالريون وميراكسس وڤاجهار. وقفَ تيريون بين فكوكها المفغورة عاجزًا عن النُّطق وقد تملَّكته الرَّهبة حتى النُّخاع. كان بإمكانك أن تَدخُل حَلق ڤاجهار على متن حصان، وإن كان من غير المحتمَل أنك كنت لتَخرُج مرَّةً أخرى.

ميراكسس كان أكبر منه حجمًا، أمَّا أضخم الثلاثة، بالريون الملقَّب بـ "الرُّعب الأسود"، فكان بإمكانه أن يبتلع ثورًا بريًّا كاملا، أو حتى واحدًا من الماموث المُشعِرة التي يُقال إنها تجوب الأراضي اليباب الباردة وراء ميناء إيبن.

وقفَ تيريون في القبو المظلم لوقتٍ طويل، يُحَدِّق في جمجمة بالريون العملاقة وتُحَدِّق فيه بعينين خاويتين إلى أن أوشكَ لهب مِشعله على الخمود، ويُحاوِل أن يستوعب حجم هذا التنِّين لمَّا كان حيًّا، ويتخيَّل كيف كان يبدو عندما يفرد جناحيه الأسودين العظيمين ويَكنُس السَّماء نافثًا نيرانه.

يعرف تيريون كيف أن سَلفه البعيد، لورِن مَلك "الصَّخرة"، حاولَ أن يتصدَّى للنِّيران عندما انضمَّ إلى مِرن مَلك "المَرعى" لمواجهَة غزوة تارجاريَن. كان هذا منذ ما يَقرُب من ثلاثمئة عام، عندما كانت المَمالك السَّبع مَمالك فعلا، وليست مجرَّد مقاطَعات تنتمي لمَملكةٍ واحدةٍ أكبر.

ستمئة راية مختلفة كانت تَخفِق مع المَلكين، وفيما بينهما كانا قد حشدا خمسة آلاف فارسٍ بخيولهم، وعشرة أضعاف هذا العدد من المُحارِبين غير النِّظاميِّين والرِّجال المسلَّحين. كان إجون سيِّد التَّنانين يملك نحو خُمس هذا العدد كما قال المؤرِّخون، ومعظمهم من المجنَّدين إجباريًّا من فلول جيش آخِر مَلكٍ قضى عليه، وولاؤهم مشكوك فيه.

التقى الجيشان في سهول "المَرعى" الواسعة، بين حقولٍ ذهبيَّةٍ من القمح اليانع الجاهز للقطاف. عندما هجمَ المَلكان، تفرَّق جيش تارجاريَن وتشتَّت جنوده، وكتبَ المؤرِّخون أن للحظاتٍ قليلةٍ بدا كأن الغزوة قد انتهَت... لكن لتلك اللَّحظات القليلة لا أكثر، قبل انضمام إجون تارجاريَن وأختيه إلى المعركة.

كانت المرَّة الوحيدة التي أُطلِقَ فيها ڤاجهار وميراكسس وبالريون معًا في معركةٍ واحدة، المعركة التي أطلقَ عليها المغنُّون لاحقًا اسم "حقل النِّيران".

احترقَ ما يَقرُب من أربعة آلاف رجلٍ في ذلك اليوم، من بينهم مِرن مَلك "المَرعى"، أمَّا المَلك لورِن فقد عاشَ حتى استسلمَ وأقسمَ بالولاء عائلة تارجاريَن وأنجبَ ولدًا، وهو ما كان تيريون ممتنًّا له للغاية.

- "لماذا تقرأ بهذه الكثرة؟".

رفعَ تيريون عينيه إلى مصدر الصَّوت. كان چون سنو يقف على بُعد أقدامٍ قليلةٍ يَرمُقه بفضول، فأغلقَ الكتاب تاركًا إصبعه على الصَّفحة التي يقرأها، وقال: "انظر إليَّ وأخبِرني ماذا ترى".

نظر إليه الصَّبي بشكٍّ وقال: "أهذه حيلة ما؟ أراك أنت، تيريون لانستر".

تنهَّد تيريون قائلا: "أنت مهذَّب للغاية بالنِّسبة لنغل يا سنو. ما تراه أمامك هو قزم. قُل لي، كم عُمرك؟ اثنا عشر عامًا؟".

قال الصَّبي: "أربعة عشر".

- "أربعة عشر عامًا، وأطول قامةً مما سأكونُ في حياتي كلها. ساقاي قصيرتان ومقوَّستان وأجدُ صعوبةً في المشي، وأتطلَّبُ سَرجًا خاصًّا كي لا أقع عن حصاني، سَرجًا من تصميمي الخاص بالمناسَبة، إذا كان يَهُمُّك أن تعرف. إمَّا هذا أو أركبُ حصانًا قزما. ذراعاي قويَّتان لكنهما قصيرتان، ولن أصير مُبارِزًا أبدًا.

لو كنتُ قد وُلِدتُ فلاحَّا، لكانوا تركوني في العراء لأموت، أو باعوني لنخَّاسٍ يُتاجِر في المسوخ، لكني للأسف وُلِدتُ لانستر من كاسترلي روك حيث المسوخ نُدرة، ثم صارت هناك أشياء متوقَّعة مني. كان أبي يَدَ المَلك لعشرين عامًا، ثم إن أخي قتلَ هذا المَلك نفسه لاحقًا، لكن الحياة ملأى بتلك القدريَّات السَّاخرة الصَّغيرة على كلِّ حال. ثم تزوَّجت أختي من المَلك الجديد، وابنها الكريه سيُصبِح مَلكًا من بعده. يجب أن أقوم بواجبي نحو شَرف عائلتي، ألا تتَّفق معي؟

لكن كيف؟ لئن كانت قدماي قصيرتين جدًّا على جسدي، فرأسي أكبر من الطَّبيعي، وأحبُّ أن أعتقد أنه كبير بما فيه الكفاية ليحتوي عقلي. إن إدراكي لنقاط قوَّتي وضَعفي واقعي للغاية، وعقلي هو سلاحي. أخي لديه سيفه، المَلك روبرت لديه مطرقته الحربيَّة، وأنا لديَّ عقلي... والعقول تحتاج الكُتب كما تحتاج السُّيوف المِشحذ كي تُحافِظ على حدَّتها"، ونقرَ تيريون على غلاف كتابه مُردِفًا: "لهذا أقرأُ كثيرًا يا چون سنو".

استوعبَ الصَّبي كلَّ هذا بصمت. كان يملك وجه آل ستارك مع أنه لم يكن يحمل اسمهم: طويل، رزين، حَذِر... الوجه الذي لا تشي ملامحه بما تُخفيه الأنفُس.

أيًّا كانت أمه، فقد تركَت القليل للغاية من نَفسها في ابنها. سأله: "عمَّ تقرأ؟".

أجابَ تيريون: "التَّنانين".

قال چون بثقة الصِّبية الغريرة: "وما الفائدة من هذا ولم تَعُدْ هناك تنانين؟".

قال تيريون: "هكذا يقولون. شيءٌ مُحزِن، أليس كذلك؟ عندما كنتُ في عُمرك كنتُ أحلمُ بأن يكون لي تنِّيني الخاص".

- "حقًّا؟"، سألَ الصَّبي بشكٍّ وقد حسبَ أن تيريون يسخر منه.

- "أوه، نعم. حتى الولد الصَّغير القبيح الذي يُنَفِّر الجميع يُمكنه أن يتطلَّع إلى العالم من عَلٍ وهو على ظَهر تنِّين"، وأزاحَ تيريون فرو الدُّب جانبًا ونهضَ مستطردًا: "كنتُ أُشعِل النَّار في غياهب كاسترلي روك وأجلسُ مُحَدِّقًا فيها لساعاتٍ متظاهرًا أنها نار تنِّين. أحيانًا كنتُ أتخيَّلُ أبي يحترق، وفي أحيانٍ أخرى أختي". كان چون سنو يَرمُقه بنظرةٍ نِصفها فزع ونِصفها انبهار، فأطلقَ تيريون ضحكةً ساخرةً وقال: "لا تَنظُر إليَّ هكذا أيها النَّغل. إنني أعرفُ سرَّك. لقد راودَتك الأحلام نفسها".

قال چون سنو مرتاعًا: "لا، من المستحيل أن...".

قاطَعه تيريون وقد رفعَ حاجبه: "لا؟ إطلاقًا؟ لا شَكَّ أن آل ستارك كانوا يُعامِلونك بحفاوةٍ بالغةٍ إذن. أنا واثقٌ من أن الليدي ستارك تُعامِلك كأحد أبنائها بالضَّبط. ولطالما كان أخوك روب طيِّبًا معك، أليس كذلك؟ ولِمَ لا؟ إنه سيَحصُل على وينترفل وأنت ستَحصُل على "الجِدار".

وأبوك... لابُدَّ أن لديه أسبابًا قويَّة لشَحنِك إلى حَرس اللَّيل و...".

- "كفى!"، صاحَ چون وقد اربدَّ وجهه غضبًا. "حَرس اللَّيل واجب نبيل!" قال تيريون ضاحكًا: "أنت أذكى من أن تعتقد ذلك. حَرس اللَّيل كومة قمامة لكلِّ المنبوذين في البلاد. لقد رأيتك تَنظُر ليورن ورفيقيه.

هؤلاء هُم إخوتك الجُدد يا چون سنو، فما رأيك فيهم؟ الفلاحَّون كالحو الوجوه، المديونون، قاطعو الطَّريق، المُغَتصِبون، اللُّصوص، والنُّغول مِثلك... كلهم ينتهي به المطاف على "الجِدار"، يَحرُسه من الجرامكنات والسناركات 12 وكلِّ الوحوش الأخرى التي حذَّرتك مُرضِعتك منها. الخبر الطيِّب أنه ليست هناك جرامكنات أو سناركات، أي أن العمل ليس خطيرًا لتلك الدَّرجة. الخبر السيِّئ أن خصيتيك ستتجمَّدان، لكن بما أنك غير مسموح لك بالإنجاب على كلِّ حال، فلا أعتقدُ أنها مشكلة".

صرخَ الصَّبي: "كفى!"، وتقدَّم خطوةً إلى الأمام وقد كوَّر قبضتيه وبدا على وشك الانفجار في البكاء.

راودَ تيريون شعور مفاجئ سخيف بالذَّنب، فتقدَّم خطوةً بدوره وهو يَقصِد أن يُرَبِّت على كتف الصَّبي أو يُغَمغِم باعتذارٍ ما.

لم يرَ تيريون الذِّئب قَطُّ، أين كان أو كيف وثبَ عليه. في لحظةٍ كان يتحرَّك في اتِّجاه سنو، وفي اللَّحظة التَّالية كان على ظَهره على الأرض الصَّخريَّة الصُّلبة، والكتاب يطير من يده من جرَّاء السَّقطة، وصَدره يُطلِق كلَّ ما به من هواءٍ مع عُنف الصَّدمة، ثم يمتلئ فمه بالتُّراب والدَّم وأوراق الشَّجر العفنة. تشنَّج ظَهره على نحوٍ مؤلمٍ عندما حاولَ النُّهوض، فضغطَ على أسنانه غيظًا وأمسكَ بجذرٍ بارزٍ من الأرض وسحبَ نفسه حتى صارَ جالسًا، وقال للصَّبي وهو يمدُّ يده: "ساعِدني".

وفجأةً كان الذِّئب بينهما. لم يُزَمجِر... الشيء الملعون لم يُصدِر صوتًا واحدًا. فقط رمقَه بهاتين العينين الحمراوين اللامعتين وأراه أسنانه، وكان ذلك يكفي ويزيد. تراجعَ تيريون وعاد يجلس على الأرض مُطلِقًا أنَّةً وقال: "لا تُساعِدني. سأجلسُ هنا حتى تُغادِر".

ملَّس چون سنو على فرو جوست الأبيض السَّميك، وقال مبتسمًا: "اطلب بلُطف. " شعرَ تيريون لانستر بالغضب يتلوَّى في داخله، لكنه سحقّه بإرادةٍ قويَّة. لم تكن المرَّة الأولى في حياته التي يتعرَّض فيها للإذلال، ولن تكون الأخيرة، ولعلَّه استحقَّ هذا. هكذا قال بكياسة: "سأكونُ ممتنًّا للغاية لمساعَدتك اللَّطيفة يا چون".

قال الصَّبي: "جوست، اجلس"، فجلسَ الذِّئب الرَّهيب على قائمتيه الخلفيَّتين دون أن تُبارِح العينان الحمراوان تيريون. دارَ چون حوله وتوقَّف خلفه ووضعَ يديه تحت إبطيه ورفعه بسهولةٍ إلى قدميه، ثم التقط الكتاب من على الأرض وناوَله إياه.

مسحَ تيريون التُّراب والدَّم عن فمه بظَهر يده، وقال ناظرًا إلى الذِّئب الرَّهيب بنظرةٍ جانبيَّة: "لماذا هاجَمني؟".

- "لعلَّه ظَنَّ أنك جرامكن. " رمقَه تيريون بنظرةً حادَّة، ثم انفجرَ ضاحكًا ليَخرُج نخيرًا لاهيًا متفجِّرًا من أنفه دون أيِّ إرادةٍ منه، وقال وهو يرتجُّ ضحكًا ويهزُّ رأسه: "يا للآلهة! أعتقدُ أني أبدو كالجرامكن بالفعل. تُرى ماذا يفعل بالسناركات؟".

التقطَ چون قِربة النَّبيذ وناوَلها له قائلا: "لست تريد أن تعرف".

خلعَ تيريون السِّدادة ومالَ برأسه واعتصرَ جرعةً طويلةً في فمه، وكان النَّبيذ كنارٍ باردةٍ وهو يجري في حَلقه ويُدَفِّئ معدته. ثم إنه رفعَ القِربة لچون سنو قائلا: "هل ترغب في القليل من النَّبيذ؟".

التقطَ الصَّبي القِربة وأخذَ رشفةً حَذِرَةً، ثم قال: "ما قُلته عن حَرس اللَّيل صحيح، أليس كذلك؟".

هَزَّ تيريون رأسه إيجابًا، فقال سنو وقد تجهَّم وجهه: "إن كان هذا هو الأمر الواقع، فهو الأمر الواقع".

ابتسمَ تيريون قائلا: "هذا جيِّد أيها النَّغل. معظم الرِّجال يُفَضِّلون إنكار الحقائق القاسية بدلًا من مواجهتها".

- "معظم الرِّجال، لكن ليس أنت".

- "نعم، ليس أنا. إنني نادرًا ما عدتُ أحلمُ بالتَّنانين الآن. ليست هناك تنانين"، والتقطَ فرو الدُّب من على الأرض وقال: "هَلُمَّ، يَحسُن أن نعود إلى المخيَّم قبل أن يُعلن عمُّك الحرب".

كانت المسيرة قصيرةً، لكن الأرض كانت صُلبةً قاسيةً تحت قدميه، ولدى عودتهما كان يَشعُر بتشنُّجاتٍ حادَّةٍ في ساقيه. عرضَ چون سنو مساعَدته على اجتياز بُقعة ملأى بالجذور المتشابكة، لكن تيريون نحَّى يده رافضًا. سوف يشقُّ طريقه بنفسه كما فعلَ طوال حياته. كان المخيَّم منظرًا مرحَّبًا به على الرغم من ذلك، وقد نُصِبَت السقائف قبالة سورٍ متهالكٍ لمعقلٍ مهجورٍ منذ زمنٍ بعيد، ليكون بمثابة واقٍ من الرِّيح. كانت الخيول قد أُطعِمَت والنَّار قد أُشعِلَت، وجلسَ يورن على صخرةٍ يَسلُخ سنجابًا. ملأت رائحة اليخنة الشهيَّة منخري تيريون، وجَرَّ نفسه إلى حيث كان رجله موريك يعمل على القِدر. بلا كلامٍ ناولَه موريك المغرفة فتذوَّق محتوياتها ثم أعادها إليه قائلا: "المزيد من الفلفل".

خرجَ بنچن ستارك من السَّقيفة التي كان يتقاسَمها مع ابن أخيه، وقال: "چون، ها أنت ذا. تبًّا، لا تبتعد هكذا وحدك أبدًا. لقد حسبتُ أن "الآخَرين" نالوا منك. " قال تيريون ضاحكًا: "كانت الجرامكنات"، فابتسمَ چون سنو، بينما نظرَ ستارك إلى يورن نظرةٍ مندهشة، فأطلقَ هذا صوتًا بلا معنى وهَزَّ كتفيه وعاد إلى عمله الدَّموي.

أعطى السِّنجاب كثافةً لليخنة، وأكلوها مع الخُبز الأسمر والجُبن الجامد وقد تحلَّقوا حول النَّار. ناولَ تيريون قِربة النَّبيذ للجميع إلى أن لانَت عريكة يورن نفسه، ثم بدأ أفراد المجموعة ينهضون من حول النَّار للنوم في سقائفهم، الجميع باستثناء چون سنو. وقفَ الصَّبي إلى جوار النَّار بوجهٍ ثابت الملامح، يُحَدِّق بصمتٍ عميق في ألسنة اللَّهب.

وابتسمَ تيريون لانستر لنفسه بحُزنٍ وبدوره خلدَ إلى النَّوم.

2019/11/29 · 549 مشاهدة · 2859 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024