جاءَ الاستدعاء قبل ساعةٍ من الفَجر، والعالم لا يزال ساكنًا غائمًا.

هزَّه آلين بخشونةٍ ليوقظه من أحلامه، وخرجَ مترنِّحًا في السَّحَرِ البارد والنَّوم لا يزال يُشَوِّش الموجودات أمام عينيه، ليجد حصانه جاهزًا والمَلك على ظَهر حصانه بالفعل. كان روبرت يرتدي زوجًا بُنِّيًّا سميكًا من القفَّازات ومعطفًا ثقيلاً من الفرو ذا قلنسوةٍ غطَّت أُذنيه، وبدا للعالم كله كأنه دُبٌّ على صهوة حصان. صاحَ بأسلوبه الصَّاخب: "هَلُمَّ يا ستارك، انهض! هيا، انهض، انهض! ثمَّة شؤون دولة يجب أن نُناقِشها".

قال ند: "بكلِّ تأكيد. تفضَّل بالدُّخول يا جلالة المَلك"، ورفعَ باب خيمته المُسدَل.

قال روبرت والبُخار يَخرُج مع أنفاسه مع كلِّ كلمة: "لا، لا، لا.

المخيَّم مليء بالآذان، كما أني أريدُ أن أركب الحصان وأتذوَّق بلدك هذا". رأى ند أن السير بوروس والسير مرين كانا ينتظران وراءه مع دستةٍ من الحُرَّاس، ولم يجد ما يفعله غير أن يَفرُك النَّوم من عينيه ويرتدي ثيابه ويعتلي حصانه بدوره.

حدَّد روبرت سرعة حركتهما وهو ينطلق بجواده الحربي الأسود الضَّخم، وند يعدو بحصانه إلى جواره محاولاً مجاراته. صاحَ بسؤالٍ ما وهما ينطلقان، لكن الرِّيح بعثرَت كلماته ولم يسمعه المَلك، فلاذَ ند بالصَّمت. سرعان ما كانا قد حادا عن طريق الملوك ودخلا سهو متموِّجةً كثيفة الضَّباب، وكان الحَرس قد تراجعوا وراءهما بعض الشَّيء ولا يُمكن لهم أن يسمعونهما، لكن روبرت لم يُبطئ حركته رغم ذلك.

طلعَ الفَجر وهما يرتقيان بروزًا جبليًّا واطئًا، وأخيرًا جذبَ المَلك عِنان جواده وتوقَّف. حينئذٍ كانا قد ابتعدا أميالاً كاملةً عن المخيَّم. كان روبرت متورِّد الوجه منتعشًا وند يتوقَّف إلى جواره، وصاحَ ضاحكًا: " بحقِّ الآلهة، من الرَّائع أن ينطلق الرجل بحصانه كما ينبغي له! أقسمُ لك يا ند أن طيلة التلكُّؤ تلك تصيب بالجنون". لم يكن روبرت باراثيون رجلا صبورًا قَطُّ. "تلك المركبة المجرورة اللَّعينة وكلُّ أصوات الصَّرير والطَّقطقة، وصعود كلِّ نتوءٍ في الطَّريق كأنه جبل! أقسمُ أنني سأحرقها إذا انكسرَ محور آخَر في تلك المركبة البائسة، ولتمشِ سرسي على قدميها!"

قال ند ضاحكًا: "سأوقدُ لك المِشعل بكلِّ سرور".

ربَّت روبرت على كتفه بقوَّةٍ قائلا: "أنت رجل صالح! جزء مني يرغب في أن أتركهم جميعًا ولا أتوقَّف".

مسَّت ابتسامة شفتي ند وهو يقول: "أنا واثق من أنك تعني هذا حقًّا".

قال المَلك: "أعنيه بالفعل. ما رأيك يا ند؟ أنا وأنت فقط، فارسان شريدان على طريق الملوك، سيفانا إلى جانبينا والآلهة وحدها تعلم ما يقع أمامنا، ولربما تُدَفِّئ ابنة مُزارعٍ ما أو خادمة في حانةٍ فِراشينا اللَّيلة".

قال ند: "ليتنا نستطيع، لكن لدينا واجبات الآن يا جلالة المَلك، واجبات نحو البلاد ونحو أبنائنا، واجبي نحو السيِّدة زوجتي وواجبك نحو مَلكتك. إننا لم نَعُدْ الصَّبيَّين اللذين كناهما من قبل".

قال روبرت متذمِّرًا: "أنت لم تكن الصبيَّ الذي كنتَه قَطُّ للأسف. لكن كانت هناك تلك المرَّة الوحيدة... فتاتك هذه، ماذا كان اسمها؟ بِكا؟ لا، تلك كانت من فتياتي أنا. بحقِّ الآلهة كم كانت جميلة! شَعر أسودَ وعينان واسعتان يُمكنك أن تغرق فيهما. فتاتك كانت.. ألينا؟ لا، لقد أخبرتني باسمها مرَّةً. أهي ميرِل؟ تعرف من أقصد، أمَّ نغلك".

أجابَ ند بكياسةٍ باردة: "كان اسمها ويلا، وأفضِّلُ ألا نتكلَّم عنها".

ابتسمَ المَلك ابتسامةً عريضةً وقال: "ويلا، نعم. لابُدَّ أنها كانت فتاةً نادرةً من نوعها طالما أنها جعلَت اللورد إدارد ستارك شخصيًّا ينسى شَرفه ولو لساعةٍ واحدة. إنك لم تُخبِرني قَطُّ كيف كان شكلها".

تقلَّص فم ند غضبًا وقال: "ولن أفعل. كفى كلامًا في هذا الأمر يا روبرت بحقِّ المحبَّة التي تقول إنك تُكِنُّها لي. لقد لوَّثتُ شَرفي وشَرف كاتلين على مرأى من الآلهة والبَشر".

- "لترحمنا الآلهة! إنك كنت تعرف كاتلين بالكاد حينئذٍ".

- "لقد تزوَّجتها، وكانت تحمل ابني. " قال روبرت: "إنك تقسو على نفسك كثيرًا يا ند. إنها عادتك. تبًّا، ليست هناك امرأة تريد بيلور المبارَك في فِراشها!"، ثم ربَّت على رُكبة ند وأضافَ: "حسن، لن أضغط عليك طالما أنك تَرفُض الكلام في الأمر، وإن كنتُ أقسمُ أن أحيانًا ما يكون كلامك شائكًا لدرجة أن القُنفذ سيكون رمزًا ملائمًا لك".

غرسَت الشَّمس المشرقة أصابعها في ضباب الفَجر الأبيض، وامتدَّ سهل واسع أسفلهما أجرد عاريًا، تتخلَّل وجهه المسطَّح في غير موضعٍ روابٍ طويلة واطئة، أشار إليها ند قائلا للمَلك: "روابي البَشر الأوائل".

عقدَ روبرت حاجبيه قائلا: "هل كنا نتحرَّك فوق قبورٍ كلَّ هذا الوقت؟".

قال ند: "ثمَّة قبور في كلِّ مكانٍ في الشَّمال يا جلالة المَلك. هذه الأرض عتيقة".

- "وباردة"، قال روبرت متأفِّفًا وهو يضمُّ معطفه على جسده بإحكام.

كان الحَرس قد توقَّفوا على مسافةٍ لا بأس بها منهما عند قمَّة البروز الجبلي. "على كلِّ حال أنا لم آتِ بك إلى هنا كي نتكلَّم عن القبور أو نتشاجَر بخصوص نغلك. ثمَّة رسول جاءَ ليلًا من اللورد ڤارس في كينجز لاندنج. هاك". وسحبَ المَلك ورقةً من حزامه وناولَها لند.

كان ڤارس الخَصِيُّ يشغل منصب ولي الهامسين، وكان يخدم روبرت الآن كما خدمَ إيرس تارجاريَن من قبله. فردَ ند الورقة بتوتُّر وهو يُفَكِّر في لايسا واتِّهامها الرَّهيب، لكن الرِّسالة لم تكن تتعلَّق بالليدي آرن.

- "ما مصدر هذه المعلومة؟".

- "هل تَذكُر السير چورا مورمونت؟" أجابَ ند بفتور: "ليتني أستطيعُ نسيانه". كان آل مورمونت أبناء جزيرة الدِّببة عائلةً قديمةً تتمتَّع بالكبرياء والشَّرف، لكن أراضيهم كانت باردةً وبعيدةً وفقيرةً. حاولَ السير چورا أن يملأ خزائن العائلة ببيع بعض اللُّصوص إلى نخَّاسٍ تايروشي، وبما أن آل مورمونت حمَلة راية لآل ستارك، فقد كلَّلت جريمة چورا هذه الشَّمال كله بالعار. قطعَ ند بنفسه الرِّحلة الطَّويلة إلى جزيرة الدِّببة في الغَرب، فقط ليكتشف لدى وصوله أن چورا قد استقلَّ سفينةً حملته بعيدًا عن متناوَل السَّيف "جَليد" وعدالة المَلك. خمسة أعوام كانت قد مرَّت منذ ذلك الحين.

قال روبرت مفسِّرًا: "السير چورا موجود في پنتوس الآن، يتلهَّف على الفوز بعفوٍ مَلكي يتيح له العودة من المنفى، واللورد ڤارس يستغلُّه على أكمل وجه".

قال ند باحتقار: "إذن فقد تحوَّل النخَّاس إلى جاسوس"، وأعادَ الرِّسالة إلى المَلك مُردِفًا: "أفضِّلُ أن يتحوَّل إلى جثَّة".

- "ڤارس يقول لي إن الجواسيس ينفعون أكثر من الجُثث، لكن دعك من چورا وقُل لي ما رأيك في تقريره".

- "دنيرس تارجاريَن تزوَّجت واحدًا من الدوثراكي سادة الخيول، وماذا في هذا؟ هل نُرسِل لها هديَّة زفاف؟" عبسَ المَلك وقال: "بل خنجر ربما، خنجر حاد ورجل بارع يحمله".

لم يتظاهَر ند بالدَّهشة، فكراهية روبرت لعائلة تارجاريَن كلها كانت جنونًا لا يَخمُد في داخله. تذكَّر الكلمات الغاضبة التي تبادلاها عندما قدَّم تايوين لانستر لروبرت جُثث زوجة ريجار وطفليه كأمارةٍ على ولائه.

وقتها قال ند إنها جريمة قتل، ورَدَّ عليه روبرت بأنها الحرب، وعندما قال ند معترضًا إن الأمير والأميرة الصَّغيرين كانا مجرَّد طفلين، أجابَ صديقه الذي صارَ مَلكًا: "لا أرى أطفا هنا، بل نسل التنِّين". لم يستطِع چون آرن نفسه تهدئة تلك العاصفة، وخرجَ إدارد ستارك يومها في غضبةٍ باردةٍ ليخوض بقيَّة معارك الحرب وحده في الجَنوب. تطلَّب الأمر موتًا آخَر كي يتصالح الاثنان، موت ليانا والحُزن العميق الذي تشاركاه.

هذه المرَّة عزمَ ند على الاحتفاظ بهدوئه، وقال: "جلالة المَلك، الفتاة ليست أكثر من مجرَّد طفلة، وأنت لست تايوين لانستر كي تَقتُل الأبرياء". كان قد قيل إن بنت ريجار الصَّغيرة بكَت وصرخَت وهُم يَجُرُّونها من تحت الفِراش لتُواجِه سيوفهم. الولد لم يكن أكثر من رضيع، لكن جنود اللورد تايوين انتزَعوه من على صَدر أمه وهشَّموا رأسه على الحائط.

زَمَّ روبرت فمه بقسوةٍ وقال: "وكم من الوقت ستظلُّ بريئةً؟ هذه الطفلة التي تتكلَّم عنها سرعان ما ستفتح ساقيها وتبدأ في إنجاب المزيد من نسل التنِّين ليُكَدِّروا عليَّ حياتي".

قال ند: "نعم، لكن قتل الأطفال... هذا إثم عظيم... لا يوصَف..."..

زأرَ المَلك: "لا يوصَف؟ ما فعله إيرس بأخيك براندون كان لا يوصَف. الطريقة التي مات بها أبوك كانت لا توصَف. وريجار... كم مرَّةً تحسبه اغتصبَ أختك؟ كم مئة مرَّة؟". كان صوته قد ارتفعَ كثيرًا لدرجة أن حصانه قد بدأ يصهل من تحته، فشدَّ المَلك العِنان بقوَّةٍ أجبرَت الحصان على الصَّمت، وأشارَ بإصبعٍ غاضبٍ إلى ند قائلا: "سأقتلُ كلَّ تارجاريَن أستطيعُ الوصول إليه إلى أن يصيروا موتى جميعًا كتنانينهم، ثم سأبولُ على قبورهم".

كان ند أكثر فطنة من أن يتحدَّاه وهو ثائر هكذا. إذا كانت السِّنين لم تُطفئ ظمأ روبرت للانتقام، فكلماته لن تَصلُح بحال.

قال بهدوء: "لكنك لا تستطيع الوصول إلى هذه، أليس كذلك؟".

التوى فم المَلك في تكشيرةٍ مريرةٍ وقال: "نعم، فلتحل اللَّعنة بالآلهة.

ثمَّة تاجر أجبان پنتوشي سقيم بالجُدري كان يستضيفها مع أخيها في داخل ضيعته، والجنود المخصيُّون ذوو الخوذات المدبَّبة يحيطون بهما من كلِّ جانب، والآن ها هو يُسَلِّمهما إلى الدوثراكي. كان يجب أن أقتلهما منذ سنوات عندما كان الوصول إليهما سهلا، لكن چون كان يُعادِلك سوءًا، وأنا أصغيتُ إليه كالأحمق".

- "چون آرن كان رجلاً حكيمًا ويَدًا كُفئًا." أطلقَ روبرت نخيرًا، وبدا أن الغضب قد غادَره سريعًا كما أدركَه، وقال: "يُقال إن گال دروجو هذا يملك مئة ألف رجلٍ في قطيعه. ماذا كان چون ليقول عن هذا؟" أجابَ ند بهدوء: "كان ليقول إن حتى مليون دوثراكي لا يُشَكِّلون تهديدًا للبلاد طالما ظلُّوا على الجانب الآخَر من البَحر الضيِّق. هؤلاء البرابرة لا يملكون سُفنًا، ويَكرهون البَحر المفتوح وَيرهبونه".

تململَ المَلك بغير راحةٍ على سَرجه، وقال: "ربما، لكن من الممكن أن يحصلوا على السُّفن من المُدن الحُرَّة. أقولُ لك يا ند إن هذه الزِّيجة لا تروق لي. هناك من لا يزالون ينعتونني بالمُغتَصِب في المَمالك السَّبع.

هل نسيت كم عائلةً حاربَت في صَفِّ آل تارجاريَن في الحرب؟ إنهم يتحيَّنون الوقت المناسب الآن، لكن أعطهم نِصف فُرصةٍ وسيغتالونني في سريري ومعي ابنيَّ. إذا عبرَ المَلك الشحَّاذ ومعه جيش من الدوثراكي، سينضمُّ إليه الخونة بلا شك".

قال ند: "لن يَعبُر، وإذا حدثَ وفعلها بمعجزةٍ ما سنُلقيه في البَحر.

بمجرَّد أن تختار حاكِمًا جديدًا للشَّرق...".

قاطعه روبرت بتذمُّر: "للمرَّة الأخيرة أقول لك إني لن أنصِّب ابن آرن حاكِما. أعرفُ أن الولد بمثابة ابن أختك، لكن الآن وقد صارَ آل تارجاريَن والدوثراكي يتقاسمون الفِراش، سيكون من الجنون أن أضع رُبع البلاد دفعةً واحدةً على عاتِق طفل مريض".

كان ند مستعدًّا لهذه الإجابة، فقال: "ومع ذلك ما زلنا في حاجةٍ إلى حاكِمٍ جديدٍ للشَّرق. إذا كان روبرت آرن لا يَصلُح، فنصِّب أحد أخويك.

ستانيس أثبتَ نفسه أثناء حصار ستورمز إند".

تركَ الاسم معلَّقًا في الهواء بعض الوقت، وقطَّب المَلك جبينه ولم يقل شيئًا وبدا عليه عدم الرَّاحة.

ثم استطردَ ند وهو يَرمُقه بإمعان: "ما لم تكن قد وعدت شخصًا آخَر بهذا الشَّرف".

للحظةٍ بدا روبرت متفاجئًا، وبالسُّرعة نفسها استحالَ تعبيره إلى الضِّيق وقال: "وماذا لو فعلتُ؟".

- "إنه چايمي لانستر، أليس كذلك؟" وكزَ روبرت حصانه ليتحرَّك من جديد وبدأ ينزل البروز الجبلي في اتِّجاه الرَّوابي، وحافظَ ند على سرعةٍ مماثلة والمَلك يُحَدِّق أمامه مباشرةً.

- "بلى"، قال المَلك أخيرًا، كلمة واحدة صعبة تضع نهايةً للنِّقاش.

غمغمَ ند: "قاتِل المَلك". كانت الشَّائعات صحيحةً إذن، وأدرك أنه يطأ منطقةً خطرةً الآن، وتابعَ بحذر: "رجل بارع وشجاع لا شكَّ، لكن أباه حاكِم الغَرب يا روبرت، وبعد فترةٍ سيرث السير چايمي هذا اللَّقب.

لا ينبغي أبدًا أن يَحكُم رجل واحد الغَرب والشَّرق معًا". أمَّا ما يُقلِقه حقًّا فلم يُفصِح عنه لفظًا: أن هذا المنصب سيضع نِصف جيوش البلاد بين يدي آل لانستر وحدهم.

قال المَلك بعناد: "سوف أخوضُ المعركة عندما يظهر العدو في الميدان، أما حاليًّا فاللورد تايوين يبدو قويًّا صامدًا مِثل كاسترلي روك نفسها، فأشكُّ أن چايمي سيرث أيَّ شيءٍ قريبًا. لا تُناقِشني يا ند، فقد اتَّخذتُ قراري وانتهى الأمر".

- "جلالة المَلك، هل لي أن أتكلَّم بصراحة؟" دمدمَ روبرت وهما يتحرَّكان وسط عُشب بُنِّي طويل: "يبدو أني عاجز عن منعك عن هذا".

- "هل يُمكنك أن تثق بچايمي لانستر؟".

- "إنه توأم زوجتي، أخ تحت القَسم في الحَرس المَلكي، حياته وثروته وكرامته... كلُّ هذه الأشياء مرهونة بي".

- "كما كانت مرهونةً بإيرس تارجاريَن؟".

- "ما الذي يجعلني أرتابُ فيه؟ لقد فعلَ كلَّ شيءٍ أمرته به، وسيفه ساعدَني على الفوز بالعَرش الذي أجلسُ عليه الآن".

سيفه ساعدَ على تلويث العَرش الذي تجلس عليه الآن، فكَّر ند وإن لم يسمح للكلمات بأن تَبلُغ شفتيه، ثم إنه قال: "لقد أخذَ على نفسه عهدًا أن يُدافِع عن حياة مَلكه بحياته، ثم شَقَّ حَلق ذلك المَلك بسيفه".

- "كان يجب أن يَقتُل أحدهم إيرس بحقِّ الجحائم السَّبع!"، صاحَ روبرت وهو يجذب عِنان حصانه ليتوقَّف به فجأةً إلى جوار رابية دفنٍ قديمة. "وفي النهاية كنتُ لأقتله أو تَقتُله أنت لو لم يكن چايمي قد فعلها." قال ند: "نحن لم نكن أخوين تحت القَسم في الحَرس المَلكي". قرَّر لحظتها أن الوقت قد حانَ لكي يسمع روبرت الحقيقة كاملةً. "هل تَذكُر يوم الثَّالوث يا جلالة المَلك؟".

- "لقد فزتُ بتاجي هناك، فكيف أنساه؟".

قال ند مذكِّرًا إياه: "كان ريجار قد أصابَك بجرح، وهكذا عندما تفرَّق جيش تارجاريَن تركت المطارَدة لي. انسحبَت فلول جيش ريجار إلى كينجز لاندنج وتبعناها، بينما كان إيرس في القلعة الحمراء مع عدَّة آلاف من المُخلِصين له، وكنتُ أتوقَّعُ أن أجد البوَّابات مغلقةً في وجوهنا".

هَزَّ روبرت رأسه بصبرٍ نافد وقال: "لكنك وجدت أن رجالنا قد استولوا على المدينة بالفعل. ماذا في هذا؟" على عكسه أجابَ ند بصبرٍ قائلا: "ليس رجالنا، بل رجال لانستر.

كان أسد لانستر هو الذي يُرَفرِف فوق الأسوار وليس الوَعل المتوَّج، كما أنهم أخذوا المدينة بالخيانة".

كانت الحرب قد احتدمَت لما يَقرُب من عامٍ كامل، ورفعَ السَّادة كبارًا وصغارًا رايات روبرت، بينما ظَلَّ آخَرون منهم مُخلِصين لتارجاريَن، أمَّا آل لانستر أبناء كاسترلي روك الأقوياء وحُكَّام الغَرب فقد ظلُّوا بمنأى عن النزِّاع، متجاهلين دعوات حَمل السِّلاح من الثوَّار وأنصار المَلك في آنٍ واحد. لابُدَّ أن إيرس تارجاريَن قد حسبَ أن آلهته قد استجابَت له أخيرًا، عندما ظهرَ اللورد تايوين أمام بوَّابات كينجز لاندنج مع جيشٍ من اثني عشر ألف رجل مُعلِناً ولاءه للمَلك. وهكذا أصدرَ المَلك المجنون آخِر أوامره المجنونة، وفتحَ مدينته للأسود التي تنتظر على الأبواب.

قال روبرت والغضب يتصاعَد في داخله من جديد: "الخيانة عُملة كان آل تارجاريَن يتداولونها جيِّدًا، وآل لانستر دفعوا لهم بعُملتهم نفسها، ولم يكن هذا أقلَّ مما يستحقُّون. ما حدثَ لا يُقلِق منامي على الإطلاق".

قال ند بمرارة: "أنت لم تكن هناك". لم يكن النوم القَلِق بالشَّيء الجديد عليه. لقد عاشَ أكاذيبه طوال أربعة عشر عامًا، ومع ذلك كانت تَسكُن لياليه. "لم يكن هناك شَرف في ذلك الفَتح. " هتفَ روبرت غاضبًا: "فليأخذ "الآخَرون" شَرفك! ما الذي كان أيُّ تارجاريَن يعرفه عن الشَّرف؟ انزلِ إلى سِردابك وسَل ليانا عن شَرف التنِّين!".

توقَّف ند إلى جوار المَلك وقال: "لقد انتقمت لليانا في الثَّالوث".

تذكَّر همستها له.. عِدني يا ند. أشاحَ روبرت ببصره وحدَّق في المساحات الخالية أمامه: "لكن ذلك لم يُعِدها. على الآلهة اللَّعنة، لقد أعطَتني نصرًا فارغًا... أعطَتني تاجًا بينما صلَّيتُ كي أحصل على الفتاة، أن تكون أختك آمنةً وأن تكون لي من جديد كما كان ينبغي أن يَحدُث. قُل لي يا ند، ما الفائدة من ارتداء التَّاج؟ الآلهة تسخر من صلوات الملوك ورعاة الأبقار على حدٍّ سواء".

قال ند: "لا يُمكنني الكلام نيابةً عن الآلهة يا جلالة المَلك، لكن فقط عمَّا وجدته عندما دخلتُ قاعة العَرش في ذلك اليوم. كان إيرس على الأرض غارقًا في دمه وجماجم التَّنانين تَنظُر من مكانها على الجدران.

كان رجال لانستر في كلِّ مكان، وچايمي يرتدي معطف الحَرس المَلكي الأبيض فوق دِرعه الذَّهبيَّة. ما زلتُ أرى المشهد. حتى سيفه كان مذهَّبًا.

كان جالسًا على العَرش الحديدي فوق فُرسانه يرتدي خوذةً على شكل رأس أسد. كان يتألَّق!"

قال المَلك بفظاظة: "هذا معروف".

- "كنتُ لا أزالُ على ظَهر حصاني، وقطعتُ طول القاعة صامتًا بين الصَّفَّين الطَّويلين من جماجم التَّنانين. شعرتُ كأنها كانت تُراقِبني بشكلٍ ما. توقَّفتُ أمام العَرش ورفعتُ عينيَّ إليه، ورأيتُ سيفه الذَّهبي موضوعًا على ساقيه ونصله لا يزال أحمرَ من دم المَلك. ملأ رجالي القاعة من خلفي بينما تراجعَ رجال لانستر، ولم أنطق كلمةً واحدةً. حدَّقتُ فيه وهو جالس في مكانه على العَرش وانتظرتُ، وأخيرًا ضحكَ چايمي ونهضَ، وخلعَ خوذته وقال لي: "لا تقلق يا ستارك، كنتُ أحافظُ عليه دافئًا لا أكثر من أجل صديقنا روبرت، لكني أخشى أنه ليس بالمقعد المريح"".

ألقى المَلك رأسه إلى الوراء وأطلقَ ضحكةً مدويَّة أجفلَت سربًا من الغِربان كان قد حَطَّ بين أعواد العُشب البُنِّيَّة الطَّويلة، وحلَّقت الغِربان في الهواء ضاربةً بأجنحتها بعُنف. "تقول إن عليَّ أن أرتاب في چايمي لانستر لأنه جلسَ على عَرشي لبضع دقائق؟". اهتزَّ جسده كله ضحكًا مرَّةً أخرى، قبل أن يقول: "چايمي كان في السَّابعة عشر من عُمره وقتها يا ند، ليس أكثر من صبي".

- "صبيًّا أو رج، ال لم يكن لديه الحق في الجلوس على ذلك العَرش. " قال روبرت: "ربما كان متعَبًا. قتل الملوك عمل مُتعِب كما تعلم، والآلهة تعلم أنه لا يوجد مكان آخَر يُمكنك أن تريح مؤخِّرتك عليه في تلك القاعة اللَّعينة. كما أنه كان على حق، فذلك الوحش الذي يُسَمُّونه كرسيًّا غير مريح على الإطلاق بالفعل، على أكثر من وجه". وهَزَّ المَلك رأسه وأضافَ: "حسن، الآن أعرفُ خطيئة چايمي السَّوداء ويُمكننا أن ننسى المسألة كلها. إنني أشعرُ بالتَّعب حتى النُّخاع من الأسرار والصِّراعات وشؤون الدَّولة يا ند، حقًّا. ليس هناك غير عملٍ مُضجِر كعدِّ العُملات النُّحاسيَّة. هَلُمَّ، دعنا نَركُض بحصانينا. أذكرُ أنك كنت تعرف كيف. أريدُ أن أشعر بالرِّيح في شَعري من جديد"، ووكزَ حصانه وانطلقَ به صاعدًا الرَّابية لتتطاير التُّربة في كلِّ اتِّجاه.

للحظةٍ لم يتبعه ند. كانت الكلمات قد نفدَت منه، وملأه شعور قوي بالعَجز. تساءلَ -وليس للمرَّة الأولى-عمَّا يفعله هنا ولِمَ جاءَ. إنه ليس چون آرن كي يكبح جموح مَلكه ويُعَلِّمه الحكمة. سوف يفعل روبرت ما يشاء كعادته، ولا شيء يستطيع ند أن يقوله أو يفعله كي يُغَيِّر هذا. إنه ينتمي إلى وينترفل، ومكانه مع كاتلين في حُزنها، ومع بران.

لكن الرجل لا يستطيع أن يكون في المكان الذي ينتمي إليه طوال الوقت، وهكذا وكزَ إدارد ستارك حصانه بقدميه وانطلقَ به وراء المَلك.

2019/11/29 · 435 مشاهدة · 2704 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024