رفعَ أخوها الفُستان أمامها كي تفحَصه قائلًا: "إنه جميل حقًّا. هَلُمِّي، المسيه، تحسَّسي النَّسيج".

مدَّت داني يدها ومسَّت الفستان، فوجدَت قُماشه أملسَ جدًّا حتى أنه كان يسري بين أصابعها كالماء، ولم تستطِع أن تتذكَّر إن كانت قد ارتدَت شيئًا بهذه النعومة من قبل. أثارَ الخاطر خوفها، فأزاحَت يدها متسائلةً بتردُّد: "أهو لي حقًّا؟".

أجابَ ڤسيرس بابتسامةٍ أفصحَت عن مزاجه العالي اللَّيلة: "هديَّة من الماچستر إليريو. لون الفُستان سيُبرِز البنفسجي في عينيك. وستتزيَّنين بالذَّهب كذلك، وجواهر من جميع الأصناف. إليريو وعدَ بهذا. اللَّيلة يجب أن تبدي كأميرة".

أميرة...لقد نَسِيَت معنى هذه الكلمة، ولعلَّها لم تعرفه قَطُّ. سألت: " لِمَ يمنحنا كلَّ هذا؟ ما الذي يُريده منا؟". منذ ما يَقرُب من نِصف عامٍ وهما مقيمان في بيت الماچستر، يأكلان طعامه وينالان كلَّ أنواع التَّدليل من خدمه. كانت داني في الثالثة عشر من عُمرها، أي كبيرة بما يكفي لأن تعرف أن هدايا كتلك نادرًا ما تأتي بلا ثَمن، كديدن الأشياء هنا في مدينة پنتوس الحُرَّة.

قال ڤسيرس: "إليريو ليس بأحمق". كان شابًّا نحيلاً ذا يدين عصبيَّتين ونظرةٍ محمومةٍ في عينيه. "الماچستر يعرف أني لن أنسى أصدقائي بمجرَّد أن أجلس على عرشي. " لم تُعَلِّق داني. كان الماچستر إليريو يُمارِس تجارة التَّوابل والأحجار الكريمة وعظام التنِّين، وأشياءَ أخرى أقل استساغةً، ويُقال إنه لديه أصدقاء في جميع المُدن الحُرَّة التِّسع، بل وحتى في البلاد التي تقع وراءها، في ڤايس دوثراك والأراضي الأسطوريَّة على ساحِل بَحر اليَشب. يُقال أيضًا إنه مستعدٌّ لبيع أيٍّ من أصدقائه مقابل الثَّمن المناسب. كانت داني تُصغي للكلام في الشوارع فتسمع هذه الأشياء، لكنها كانت تعرف أفضل من أن تُبدي ارتيابها في كلام أخيها وهو يَنسِج شباك أحلامه. كانت غضبة ڤسيرس شنيعةً بالفعل، وكان يصفها بأنها كإيقاظ التنِّين.

علَّق أخوها الفُستان إلى جوار الباب قائلا: "إليريو سيُرسِل العبيد ليُحَمِّموكِ. تأكَّدي أن تُزيلي عنكِ رائحة الاسطبلات. گال دروجو لديه ألف حصان، لكنه يتطلَّع إلى امتطاء شيءٍ آخَر اللَّيلة"، ثم رمقَها بإمعان وأضافَ: "ما زلتِ تقفين تلك الوقفة المترهِّلة. افردي كتفيكِ"، ودفعَ كتفيها إلى الخلف بيديه مُكمِلا: "دعيهم يرون أن لديك جسد امرأةٍ الآن"، ومَسَّ أعلى نهديها الصَّغيرين بأصابعه برفقٍ قبل أن يَقبِض بها على واحدةٍ من حلمتيها بقسوةٍ ويقول: "لن تخذلينني اللَّيلة... لأنكِ ستجدين نفسكِ في موقفٍ سيِّئ للغاية إذا فعلتِ. أنتِ لا ترغبين في إيقاظ التنِّين، أليس كذلك؟". كانت أصابعه تُطبِق على الحلمة الآن من فوق قُماش سُترتها الخشنة وتلويها بقوَّةٍ آلمتها بشدَّة وهو يُكَرِّر: "أليس كذلك؟".

أجابَت داني بخنوع: "بلى".

ابتسمَ أخوها ومَسَّ شَعرها بنوعٍ من الحنان وقال: "عظيم. عندما يكتبون تاريخ حُكمي يا شقيقتي العزيزة، سيقولون إنه بدأ اللَّيلة".

عمدَت داني إلى نافذتها بعد خروجه، وتطلَّعت إلى مياه الخليج بأسى. كانت أبراج پنتوس المربَّعة المبنيَّة بالقرميد عبارةً عن صُوَرٍ ظِلِّيَّةٍ سوداء حدَّدتها الشَّمس الغاربة. سمعَت داني إنشاد الكَهنة الحُمر وهُم يُشعِلون نارهم ككلِّ ليلة، وصياح الأطفال الفقراء وهُم يلعبون وراء أسوار الضَّيعة، وللحظةٍ تمنَّت لو أنها كانت هناك بينهم، حافية القدمين متقطِّعة الأنفاس ترتدي الأسمال، بلا ماضٍ أو مستقبلٍ أو مأدبةٍ تحضرها في إيوان گال دروجو.

في مكانٍ ما وراء غروب الشَّمس، عبر البَحر الضيِّق، تقع أرضٌ حافلة بالتِّلال الخضراء والسُّهول المفروشة بالزُّهور والأنهار الواسعة المتدفِّقة، حيث ترتفع الأبراج المشيَّدة بالحجارة السوداء وسط جبالٍ شاهقةٍ ذات ألوانٍ زرقاء ورماديَّة، ويركب الفُرسان مرتدين دروعهم إلى المعارك تحت رايات سادتهم. كان الدوثراكي يُطلِقون على هذه الأرض اسم "رايِش أنداهلي"، أي "أرض الأنداليِّين" في لُغتهم. في المُدن الحُرَّة يتكلَّمون عن وستروس ومَمالك غروب الشَّمس، بينما يُطلِق أخوها عليها ببساطةٍ "أرضنا". كانت الكلمة كصلاةٍ بالنِّسبة إليه، وإذا ردَّدها بما فيه الكفاية فلابُدَّ أن الآلهة ستسمعه. "أرضنا بحقِّ الدَّم، سُلِبَت منا بالخيانة، لكنها لا تزال أرضنا، إلى الأبد أرضنا. لا أحد يسرق من التنِّين.

لا، لا... التنِّين يَذكُر كلَّ شيء".

ولربما كان التنِّين يَذكُر فعلا، لكن أنَّى لداني أن تَذكُر بدورها؟ إنها لم ترَ تلك الأرض التي يقول أخوها إنها أرضهما قَطُّ، تلك البلاد الواقعة وراء البَحر الضيِّق. الأماكن التي كان يتكلَّم عنها -كاسترلي روك و "العُش"، هايجاردن ووادي آرن، دورن وجزيرة الوجوه-لم تكن بالنِّسبة إليها أكثر من محض كلماتٍ بلا معنى حقيقي. كان ڤسيرس صبيًّا في الثامنة عندما فرَّا من كينجز لاندنج للإفلات من جيوش روبرت المُغتَصِب التي تزحف على المدينة، بينما كانت دنيرس مجرَّد جنينٍ في رحم أمهما.

على أن داني كانت في بعض الأحيان تتخيَّل كيف كانت، فقد كان أخوها كثيرًا ما يحكي لها القصَّة... الهروب في منتصف الليل إلى دراجونستون والقَمر يُنير أشرعة السَّفينة السوداء، وكيف قاتلَ أخوهما ريجار روبرت المُغتَصِب وسط مياه الثَّالوث الدَّامية قبل أن يُقتَل في سبيل المرأة التي أحبَّها... نَهب كينجز لاندنج على يد من ينعتهم ڤسيرس بكلاب المُغتَصِب، اللورد لانستر واللورد ستارك وغيرهما... توسُّل الأميرة الدورنيَّة إليا مارتل طلبًا للرَّحمة إذ انتزعوا وريث ريجار الرَّضيع من بين يديها وقتلوه أمام عينيها... جماجم آخِر التَّنانين المصقولة وهي تُحَدِّق بصمتٍ من مكانها على جدران قاعة العَرش بينما شَقَّ قاتِل المَلك حَلق أبيها بسيفٍ ذهبي.

لقد وُلِدَت في دراجونستون بعد تسعة أقمارٍ من فرارهما، بينما تُهَدِّد عاصفة صيفٍ عاتية بتمزيق الجزيرة بالقلعة التي عليها تمزيقًا.

قالوا إن العاصفة كانت رهيبةً لحدٍّ منقطع النَّظير، فتحطَّم أسطول تارجاريَن وهو راسٍ في مرفأه، وانتُزِعَت في غير موضعٍ القوالب الحجريَّة الضَّخمة من أسوار وجدران القلعة لتهوي في مياه البَحر الضيِّق الثَّائرة. ماتت أمها وهي تضعها، الشيء الذي لم يُسامِحها عليه أخوها ڤسيرس قَطُّ.

وهي لا تَذكُر دراجونستون كذلك، فقد عادَت تفرُّ من جديد قبل أن يُبحِر أخو المُغتَصِب بأسطوله الجديد مباشرةً، وفي ذلك الحين كانت دراجونستون نفسها فقط -وهي مقرُّ عائلتها العتيق-الوحيدة التي تبقَّت من المَمالك السَّبع التي كانت خاضعةً لهم من قبل، ثم إنها لم تبقَ كذلك لفترةٍ طويلة. كانت الحامية مستعدَّةً لأن تبيعهما للمُغتَصِب، لولا أن جاءَت ليلة اقتحمَ فيها السير ويلم داري وأربعة من الرجال المُخلِصين غُرفة الرُّضَّع واختطفوهما ومعهما مُرضِعتها، ثم أبحَروا تحت جُنح الظَّلام إلى حيث أمان السَّاحل البراڤوسي.

كانت تَذكُر السير ويلم داري، الرجل الأشيب الضَّخم كدُبٍّ ونِصف الأعمى، الذي كان يهدر ويزعق بالأوامر من فِراش المرض. كان الخدم يعيشون في رُعبٍ منه، لكنه دائمًا ما كان لطيفًا مع داني، وأحيانًا ما كان يُناديها بألقابٍ مِثل "الأميرة الصَّغيرة" و "سيِّدتي"، وكانت يداه ناعمتين كالجِلد القديم. لم يكن السير ويلم يُغادِر فِراشه، وعلقَت به رائحة المرض ليل نهار، رائحة قوامها السُّخونة والرُّطوبة والسَّقم. كان هذا أثناء إقامتها وأخيها في براڤوس، في المنزل الكبير ذي الباب الأحمر. هناك كانت لدى داني غُرفتها الخاصَّة، حيث كانت نافذتها تطلُّ على شجرة ليمون. بعد وفاة اللورد ويلم سرقَ الخدم المال القليل الذي تبقَّى معهما، ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يُطرَدا من المنزل، وبكَت داني بحرارةٍ عندما انغلقَ الباب الأحمر وراءهما إلى الأبد.

منذ ذلك الحين وهما هائمان، من براڤوس إلى مير، ومن مير إلى تايروش، ومنها إلى ڬوهور وڤولانتيس ولِيس، دون أن يظلا لفترةٍ طويلةٍ في مكانٍ واحد، فلم يكن أخوها ليسمح بذلك، ويصرُّ على أن قتلة المُغتَصِب المأجورين لا يبعدون كثيرًا عنهما، على الرغم من أن داني لم ترَ واحدًا منهم قَطُّ.

في البدء كان الماچسترات والعواهل والأمراء التُّجَّار يستقبلون آخِر من تبقَّى من آل تارجاريَن في بيوتهم وعلى موائدهم بترحاب، لكن إذ مرَّت الأعوام وظَلَّ المُغتَصِب يجلس على العَرش الحديدي، أُغلِقَت الأبواب في وجيهما وصارت حياتهما أكثر مشقَّة، ولم تمضِ أعوام قليلة حتى اضطرَّا لبيع آخِر مقتنياتهما الثَّمينة القليلة، ثم أُنفِقَ المال الذي باعا بيه تاج أمهما عن آخِره، وفي أزقَّة وحانات پنتوس كانوا يُلَقِّبون أخاها بـ "المَلك الشحَّاذ"، ولم تشأ داني أن تعرف بمِ كانوا يُلَقِّبونها هي.

كان يقول لها واعدًا: "سنستردُّ كلَّ شيءٍ يا شقيقتي العزيزة".

أحيانًا كانت يداه ترتعشان وهو يتكلَّم عن الوطن. "الجواهر والحرير، دراجونستون وكينجز لاندنج، العَرش الحديدي والمَمالك السَّبع، سنستردُّ كلَّ ما سلبوه منا". كان ڤسيرس يعيش من أجل ذلك اليوم، لكن كلَّ ما أرادت دنيرس استرداده هو المنزل الكبير ذا الباب الأحمر وشجرة اللَّيمون خارج نافذتها، الطُّفولة التي لم تعرفها.

سمعَت طرقةً خفيفةً على الباب، فالتفتَت بعيدًا عن النَّافذة قائلة: " ادخل"، ودخلَت اثنتان من خدم إليريو وانحنيتا لها، ثم بدأتا تُمارِسان عملهما. كانتا أمَتين، هديَّةً من أحد أصدقاء الماچستر الدوثراكي الكُثْر.

لم يكن هناك رِقٌّ في مدينة پنتوس الحُرَّة، وإن كان هناك رقيق على الرغم من ذلك. كانت المرأة العجوز شيباء ضئيلة الحجم كفأرٍ صغير، ولم تنبس ببنت شفة، لكن الفتاة عوَّضت صمتها. كانت المفضَّلة لدى إليريو، فتاة في السادسة عشر من عُمرها، ناعمة الشَّعر زرقاء العينين لم تَكُفْ عن الثرثرة وهي تعمل.

ملأت الخادمتان المغطس بالماء السَّاخن الذي جاءَتا به من المطبخ وعطَّرتاه بالزُّيوت الفوَّاحة، ثم خلعتا سُترتها القُطنيَّة الخشنة وساعدتاها على النُّزول إلى المغطس. كان الماء ساخنًا جدًّا، لكن داني لم تُجفِل أو تُطلِق صيحة ألم. كانت تحبُّ الحرارة، والحرارة كانت تُشعِرها بالنَّظافة، كما أن أخاها كان يقول لها دائمًا إن لا شيء أكثر حرارة من أن يحتمله أحد أبناء تارجاريَن. "عائلتنا هي عائلة التنِّين، والنَّار في دمائنا. " غسلَت العجوز شَعرها الفضِّي الشَّاحب ومشَّطت ما فيه من عُقَد بصمتٍ تام، وحكَّت الفتاة ظَهرها وقدميها وقالت لها كم هي محظوظة بحق. "دروجو فاحِش الثَّراء لدرجة أن عبيده أنفسهم يرتدون أطواقًا من الذَّهب حول أعناقهم، وهناك مئة ألف رجلٍ يركبون في الگالاسار الذي يقوده، وقصره في ڤايس دوثراك يضمُّ مئتي غُرفةٍ وأبوابًا من الفضَّة الخالصة". وظلَّت الفتاة تتكلَّم وتتكلَّم عن أشياءَ أخرى كثيرةٍ جدًّا، عن أن الگال رجل شديد الوسامة، قوي فارِع الطُّول، لا يعرف الخوف في المعارك، أفضل من امتطى حصانًا على الإطلاق، يرمي بالقوس والسَّهم كشيطان. لم تقل دنيرس شيئًا. كانت قد افترضَت دومًا أنها ستتزوَّج ڤسيرس عندما تَبلُغ، فطوال قرونٍ وآل تارجاريَن يُزَوِّجون الإخوة من أخواتهم، منذ جعلَ المَلك إجون الفاتِح من أخته عروسًا له.

قال ڤسيرس لها ألف مرَّةٍ إن السُّلالة يجب أن تظلَّ نقيَّةً، فدماؤهم هي دماء الملوك، دماء ڤاليريا الذَّهبيَّة، دماء التنِّين. التَّنانين لا تتزاوَج مع دواب الحقول، وآل تارجاريَن لا يخلطون دمهم بدم من هُم أدنى منهم شأنًا. لكن ها هو ڤسيرس يُدَبِّر لبيعها إلى رجلٍ غريب، رجلٍ بربري.

عندما صارت نظيفةً تمامًا ساعدَتها الأمَتان على الخروج من المغطس وأحضرتا المناشف لتجفيف جسدها. مشَّطت الفتاة شَعرها حتى تألَّق كالفضَّة المصهورة، بينما ضمَّختها العجوز بعِطر زهرة العَرار القادمة من سهول الدوثراكي، مسحة على كلِّ معصم ووراء أذنيها وعلى حافَّتي نهديها، ثم مسحة باردة أخيرة على الشَّفرين بين ساقيها. بعدها ألبسَتها الاثنتان الثِّياب التحتيَّة التي أرسلها الماچستر إليريو، وفوقها الفُستان الحريري ذا اللون الأرجواني المائل إلى الأزرق الذي يُبرِز لون عينيها البنفسجيَّتين، ثم وضعَت الفتاة قدميها في الصَّندل المموَّه بالذَّهب، بينما ثبَّتت العجوز التَّاج المرصَّع بالجواهر على رأسها، ووضعَت الأساور الذَّهبيَّة المزيَّنة بالجَمَشْت حول معصميها، وفي النهاية كان الطَّوق الذَّهبي الذي نُقِشَت عليه رموز بالڤاليريَّة القديمة.

قالت الفتاة مبهورةً: "الآن تبدين كأميرةٍ حقًّا". رمقَت داني انعكاسها في المرآة ذات الإطار الفضِّي التي تكرَّم إليريو بتزويدها بها. أميرة...

لكنها تذكَّرت ما قالته الفتاة، كيف أن گال دروجو فاحِش الثَّراء لدرجة أن عبيده أنفسهم يرتدون أطواقًا من ذهبٍ حول أعناقهم، فشعرت داني ببرودةٍ مباغتة، وسرَت رعدة في ذراعيها المكشوفتين.

كان أخوها ينتظر في قاعة الدُّخول ذات النسَّائم الباردة، يجلس على حافَّة البرِكة ويُمَرِّر يده على صفحة الماء، ونهضَ عندما رآها ورمقها بنظرةٍ فاحصةٍ وقال آمرًا: "قفي مكانك"، ثم "استديري. نعم، عظيم. تبدين...".

- "... بهيَّةً كملكة"، قالها الماچستر إليريو وهو يدلف من أحد المداخل المقنطرة. كان يتحرَّك بخفَّةٍ مدهشة بالنِّسبة لرجلٍ ضخم الجثَّة مثله. تحت دُثُرٍ فضفاضة من الحرير ذي لون اللَّهب كانت أكوام من الشَّحم تترجرج وهو يتحرَّك، وتألَّقت الأحجار الكريمة على كلٍّ من أصابعه، ولمعت لحيته الصفراء المتشعِّبة حتى بدت كأنها من الذَّهب الحقيقي بعد أن دهنها خادمه بالزَّيت.

قال الماچستر وهو يلتقط يدها: " عسى أن يَغمُرك رب الضِّياء بالبركات في هذا اليوم السعيد أيتها الأميرة دنيرس"، وحنى رأسه فبدت لمحة من أسنانه الصفراء المعوجَّة من بين هب لحيته، وقال لأخيها: "إنها تسرُّ النَّاظرين حقًّا يا جلالة المَلك.

سيَطرَب دروجو بلا شك".

قال ڤسيرس: "إنها نحيفة جدًّا". كان شَعره الأشقر الفضِّي كشَعرها قد ضُمَّ بإحكامٍ وراء أذنيه وثُبِّتَ بدبُّوس زينةٍ مصنوع من عِظام التنِّين. كان مظهرًا صارمًا أبرزَ ملامح وجهه القاسي المعروق. أراحَ يده على مقبض السَّيف الذي أعطاه إياه إليريو، وقال: "هل أنت واثق من أن گال دروجو يحبُّ نساءه صغيرات سنًّا هكذا؟".

- "لقد طمثَت. إنها كبيرة بما يكفي للگال"، قال إليريو لأخيها كما سبقَ أن قال له مرارًا. "انظر إليها... هذا الشَّعر الأشقر الفضِّي، هاتان العينان الأرجوانيَّتان... إنها من دم ڤاليريا القديمة لا شك، لا شك... وكريمة المحتد، ابنة المَلك القديم وأخت المَلك الجديد. لا يُمكنها ألا تفتن عزيزنا دروجو". وجدَت دنيرس نفسها ترتجف عندما تخلَّى إليريو عن يدها.

قال أخوها بريبة: "أظنُّ هذا. الهمجيُّون لديهم أذواق شاذَّة، غلمان وخيول وغنم".

أسرعَ إليريو يقول: "لكن لا تقل شيئًا من هذا لگال دروجو".

التمعَ الغضب في عيني أخيها الأرجوانيَّتين وهو يقول: "هل تحسبني أحمقَ؟" انحنى الماچستر بعض الشيء وقال: "أحسبك ملكًا، والملوك يفتقرون إلى حذر العامَّة في كلامهم. أعتذرُ إذا كنتُ قد أسأتُ إليك"، والتفتَ وصفَّق بيديه مناديًا الحمَّالين.

كانت شوارع پنتوس غارقةً في ظلامٍ دامس عندما خرجوا في هودج إليريو ذي النُّقوش الأنيقة، فتقدَّم اثنان من الخدم يحمل كلُّ منهما مصباح زيتٍ ذا ألواحٍ زجاجيَّةٍ زرقاء مزخرَفة، بينما رفعَ دستة من الرجال أعمدة قوائم الهودج على الأكتاف. كان الجوُّ دافئًا مكتومًا في الداخل وراء السَّتائر. كانت داني تشمُّ الرائحة الكريهة الصَّادرة من جِسم إليريو على الرغم من كلِّ العطور الثَّقيلة التي تضمَّخ بها.

أمَّا أخوها، الذي اضطجعَ على وسادته إلى جوارها فلم يُلاحِظ.

كان عقله في مكانٍ آخَر بعيد عبر البَحر الضيِّق. "لسنا نحتاج گالاساره كله"، قالها ڤسيرس وهو يُداعِب مقبض سيفه المستعار، وإن كانت داني تدري جيِّدًا أنه لم يستخدم سيفًا في قتالٍ حقيقي على الإطلاق. " عشرة آلاف يكفونني. يُمكنني اكتساح المَمالك السَّبع بعشرة آلاف من الدوثراكي الصَّارخين، وسوف تنتفض البلاد من أجل مَلكها الشَّرعي.

تايرل، ردواين، داري، جرايچوي... كلُّ هؤلاء لا يُكِنُّون للمُغتَصِب حُبًّا أكثر مني. الدورنيُّون يتحرَّقون شوقًا للانتقام لإليا وطفليها. عامَّة النَّاس سيكونون معنا كذلك. إنهم في أمسِّ الحاجة إلى مَلكهم"، ورمقَ إليريو مضيفًا بقلق: "أليس كذلك؟".

قال الماچستر إليريو بكياسة: "إنهم شعبك الذي يُحِبُّك. في كلِّ معقلٍ في جميع أنحاء البلاد يرفع الرجال الأنخاب في صحَّتك وتحيك النِّساء رايات التنِّين ويُخَبِّئنها حتى يوم عودتك عبر البَحر"، ثم هَزَّ كتفيه الضَّخمتين وأردفَ: "أو هكذا يُخبِرني عيوني".

لم يكن لدى داني أيُّ عُملاء، ولا سبيل لمعرفة ما يفعله أو يُفَكِّر فيه أحد هناك عبر البَحر الضيِّق، لكنها كانت ترتاب في كلمات إليريو المعسولة، وترتاب في كلِّ ما يخصُّه، إ أن أخاها كان يهزُّ رأسه بلهفةٍ. " سأقتلُ المُغتَصِب بنفسي"، قالها ذلك الذي لم يَقتُل أحدًا في حياته كمن يَعِدُ بأمرٍ مفروغٍ منه. "تمامًا كما قتلَ أخي ريجار، ولانستر قاتِل المَلك أيضًا، من أجل ما فعله بأبي. " قال الماچستر إليريو: "سيكون هذا عاد تمامًا". رأت داني لمحةً ضئيلةً جدًّا من ابتسامةٍ تتلاعَب على شفتيه الممتلئتين، لكن ڤسيرس لم يُلاحِظ هذا أيضًا، وهَزَّ رأسه وأزاحَ السِّتار المجاور له ليَرمُق اللَّيل في الخارج، فأدركَت داني أنه يخوض معركة الثَّالوث مرَّةً أخرى.

كان إيوان گال دروجو ذو الأبراج التسعة يطلُّ على مياه الخليج، وقد غطَّى اللَّبلاب باهِت اللون جُدرانه الطُّوب العالية. كان إليريو قد أخبرَهما أن ماچسترات پنتوس أعطوه للگال، فلطالما أجزلَت المُدن الحُرَّة العطاء لسادة الخيول. كان إليريو يقول لهما مفسِّرًا بابتسامة: "المسألة ليست أننا نخشى هؤلاء الهمجيِّين، فربُّ الضِّياء يستطيع أن يحمي أسوار هذه المدينة من مليون دوثراكي دفعةً واحدةً، أو هذا ما يَعِدُ به الكهنة الحُمر، لكن لِمَ المجازفة وصداقتهم رخيصة الثَّمن جدًّا؟" توقَّف هودجهم عند البوَّابة، وأزاحَ أحد الحَرس السَّتائر بخشونة. كان ذا بشرةٍ كالنُّحاس وعينين لوزيَّتين داكنتين ككلِّ الدوثراكي، لكن وجهه كان حليقًا، ويرتدي القبَّعة البرونزيَّة التي يَبرُز منها رمح صغير كما يفعل الجنود المطهَّرون. حدَّق فيهم ببرود، ودمدمَ الماچستر إليريو له بشيءٍ ما بلُغة الدوثراكي الخشنة، فأجابه الحارس باللُّغة نفسها قبل أن يشير إليهم بالدخول.

لاحظَت داني أن أخاها كان يُطبِق بإحكامٍ على مقبض سيفه المستعار، وبدا لها أنه يَشعُر بالخوف نفسه الذي يملأها. غمغمَ ڤسيرس والهودج يتحرَّك متمايلا صوب الإيوان: "خَصيٌّ وقح!"

قال الماچستر إليريو بعذوبةٍ كالعسل: "رجال مهمُّون كثيرون سيحضرون المأدبة اللَّيلة، ورجال كهؤلاء لديهم أعداء. يجب أن يحمي الگال ضيوفه، خصوصًا أنت يا جلالة المَلك. لا شكَّ أن المُغتَصِب سيدفع كثيرًا مقابل رأسك".

بطأت حركة الهودج ثم توقَّف تمامًا، وأزيحت السَّتائر وساعدَ أحد العبيد دنيرس على النزول، ولاحظَت هي أن الطَّوق المحيط بعُنقه كان من البرونز العادي. تبعها أخوها ويده لا تزال تُطبِق على مقبض السَّيف، أمَّا الماچستر إليريو فاحتاج لرجلين قويَّين كي ينزل.

كان الهواء داخل الإيوان معبَّقًا بروائح التوابل والمُر الحرِّيف واللَّيمون الحلو والقرفة، واصطُحِبَ ثلاثتهم عبر قاعة الدُّخول حيث كانت لوحة من الزُّجاج الملوَّن مرسومة بالفسيفساء تُصَوِّر هلاك ڤاليريا. احترقَ الزَّيت في فوانيسٍ من الحديد الأسود مثبَّتة بطول الجدران، ومن تحت قنطرةٍ من أوراق الأشجار الحجريَّة المتشابكة أعلنَ واحد من الخِصيان عن وصولهم بصوتٍ عالٍ عذب: "ڤسيرس الثَّالث سليل عائلة تارجاريَن، مَلك الأنداليِّين والروينار والبَشر الأوائل، سيِّد المَمالك السَّبع وحامي البلاد. شقيقته دنيرس وليدة العاصفة، أميرة دراجونستون. مضيفه المبجَّل إليريو موپاتيس، ماچستر مدينة پنتوس الحُرَّة".

تجاوَزوا الخَصي ليَدخلوا ساحةً محاطةً بالأعمدة المغطَّاة بفروع اللَّبلاب الشَّاحب، وظلَّل نور القَمر الأوراق بدرجاتٍ من ألوان العظام والفضَّة والضيوف ينتشرون بينها. كثيرون منهم كانوا من الدوثراكي سادة الخيول، رجالًا ضخام الجثَّة ذوي بشرةٍ بُنِّيَّةٍ مائلة إلى الاحمرار، شواربهم المتدلِّية الطَّويلة رُبِطَت فيها خواتم من المعدن، وشَعرهم الأسود مدهون بالزَّيت ومضفَّر ومزيَّن بالأجراس. على أن بعض مبارزي البراڤو والمُرتَزِقة من پنتوس ومير وتايروش كانوا يتحرَّكون بينهم، بالإضافة إلى كاهنٍ أحمرَ أكثر بدانةً من إليريو نفسه، ورجالٍ مُشعِرين من ميناء إيبن، وسادةٍ من جُزر الصَّيف ذوي بشرةٍ سوداء كالأبنوس. تطلَّعت دنيرس إليهم جميعًا بدهشة، ثم أدركَت والخوف يعتريها فجأةً أنها المرأة الوحيدة الموجودة في المكان.

قال إليريو لهما همسًا: "هؤلاء الثلاثة هناك هُم خيَّالة دم دروجو، وهذا عند العمود هو گال مورو ومعه ابنه روجورو. الرجل ذو اللِّحية الخضراء هو أخو حاكِم تايروش، والرجل الذي وراءه هو السير چورا مورمونت".

لفتَ الاسم الأخير انتباه دنيرس، فقالت: "فارس؟" ابتسمَ إليريو من وراء لحيته مجيبًا: "لا أقل. السِّپتون الأعلى مرَخه بالزُّيوت السَّبعة بنفسه".

اندفعَت قائلة: "ماذا يفعل هنا؟".

قال لهما إليريو: "المُغتَصِب يريد رأسه. كانت مجرَّد مخالفةٍ تافهة لا أكثر، لم يفعل شيئًا غير أنه باعَ بضعة لصوصٍ لنخَّاسٍ تايروشي بدلًا من تسليمهم لحَرس اللَّيل. قانون سخيف. من المفترَض أن يكون لكلِّ رجلٍ الحق في أن يفعل كما يشاء بأملاكه".

قال أخوها: "يجب أن أتكلَّم مع السير چورا قبل نهاية اللَّيلة". وجدَت داني نفسها تتفحَّص الفارس بنظراتها بفضول. كان متقدِّمًا نوعًا في السِّن، تجاوزَ الأربعين وبدأ الصَّلع يزحف إلى رأسه، لكنه ما زال يتحلَّى بالقوَّة واللِّياقة. كان يرتدي الصُّوف والجِلد بدلًا من الحرير والقُطن، وكانت سُترته ذات لونٍ أخضرَ داكِن ومطرَّزةً بشكلٍ دُبٍّ أسودَ يقف على قائمتيه الخلفيَّتين.

كانت لا تزال تتطلَّع إلى هذا الرجل الغريب الآتي من بلادها التي لم ترها قَطُّ، عندما وضعَ الماچستر إليريو يدًا رطبةً على كتفها المكشوفة وهمسَ: "وهناك يا أمريتنا الجميلة الگال نفسه".

أرادَت داني أن تفرَّ وتختبئ، لكن أخاها كان يَنظُر إليها، وكانت تعرف أنها ستوقظ التنِّين إذا أثارَت غضبته. بتوتُّرٍ التفتَت ونظرَت إلى الرجل الذي يأمل ڤسيرس أنه سيَطلُب يدها قبل أن تنتهي اللَّيلة.

خطرَ لها أن الأَمة لم تكن مخطئةً تمامًا. كان گال دروجو أطول برأسٍ كاملٍ من أطول رجلٍ في المكان، لكن بشكلٍ ما خفيف الحركة، رشيق كالنمر الذي في معرض الوحوش الذي يملكه إليريو. كان أصغر سنًّا مما توقَّعت، لا يزيد عُمره عن الثلاثين، بشرته كالنُّحاس المصقول، والخواتم الذَّهبيَّة والبرونزيَّة مربوطة في شاربه الكَث.

قال الماچستر إليريو: "يجب أن أذهب وأقدِّم فروض الطَّاعة. انتظرا هنا وسآتي به إليكما".

أطبقَ أخوها على ذراعها بينما تحرَّك إليريو مترجرجًا نحو الگال، وغاصَت أصابعه في اللحم لدرجةٍ آلمَتها وهو يقول: "هل ترين ضفيرته يا شقيقتي العزيزة؟" كانت ضفيرة دروجو سوداء كمنتصف اللَّيل ومدهونةً بزيتٍ عطري ثقيل، عُلِّقت فيها أجراس صغيرة الحجم يتصاعَد رنينها النَّاعم مع حركته، وكانت الجديلة تصل إلى ما تحت حزامه، بل إلى ما تحت ردفيه في الواقع، وطرفها يمسُّ فخذيه من الوراء.

قال ڤسيرس: "هل ترين كم هي طويلة؟ عندما يُهزَم الدوثراكي في معركةٍ ما، يَقُصُّون ضفائرهم من الخزي، كي يعرف العالم كله عارهم.

گال دروجو لم يُهزَم في معركةٍ قَطُّ. إنه إجون سيِّد التَّنانين وقد بُعِثَ من جديد، وأنتِ ستكونين ملكته".

نظرَت داني إلى گال دروجو. كان وجهه جامد الملامح قاسيًا، وعيناه باردتان داكنتان كالجَزْع. كان أخوها يؤذيها أحيانًا عندما توقظ التنِّين، لكنه لم يُثِر رُعبها كما فعلَ هذا الرجل، وسمعَت نفسها تقول بصوتٍ خافتٍ ضعيف: "لا أريدُ أن أكون ملكته. ڤسيرس، أرجوك، أرجوك، لا أريد. أريدُ أن أعود إلى الدِّيار".

- "الدِّيار؟". كان قد حافظَ على نبرة صوتٍ خفيضة، لكن غضبه كان جليًّا تمامًا. "وكيف نعود إلى الدِّيار يا شقيقتي العزيزة؟ لقد أخذوا ديارنا منا!"، وسحبها إلى ركنٍ قصيٍّ من القاعة بعيدًا عن الأنظار وأصابعه تغوص في لحمها وكرَّر: "كيف نعود إلى الدِّيار؟". كان يَقصِد كينجز لاندنج ودراجونستونو وجميع البلاد التي فقدوها.

أمَّا داني فكانت تَقصِد في الحقيقة مسكنهما في ضيعة إليريو. هو ليس دارًا بالتأكيد، وإن كان كلَّ ما لديهما، لكن أخاها لم يشأ أن يسمع شيئًا من هذا. هذا المكان ليس بداره، وحتى المنزل الكبير ببابه الأحمر لم يكن داره. غاصَت أصابعه في ذراعها أكثر فأكثر منتظرًا إجابتها، فقالت أخيرًا بصوتٍ راجفٍ والدموع تترقرق في عينيها: "لا أعرف".

قال بحدَّة: "أنا أعرف. سنعود إلى الدِّيار بجيشٍ يا شقيقتي العزيزة، جيش گال دروجو. تلك هي وسيلة العودة، وإذا كان المقابل أن تتزوَّجيه وتُعاشِرينه، فهذا ما ستفعلين"، وابتسم مضيفًا: "سأتركُ گالاساره كله يُضاجِعكِ إذا دعَت الحاجة يا شقيقتي العزيزة... الأربعون ألف رجلٍ جميعًا، وخيولهم كذلك إذا كان هذا ما يتطلَّبه حصولي على جيشي.

عليكِ أن تَشعُري بالامتنان أنه دروجو وحده إذن. قد تتعلَّمين أن تُحِبِّيه مع مرور الوقت حتى. والآن جفِّفي عينيك. إليريو قادم ومعه الگال، ولن يراكِ تبكين".

التفتَت داني ورأت أنهما قادمان بالفعل. كان الماچستر إليريو يبتسم وينحني بلا توقُّفٍ وهو يصحب گال دروجو إلى حيث كانا، ومسحَت داني دموعها التي لم تَسقُط بظَهر يدها.

قال ڤسيرس بعصبيَّة ويده تَسقُط إلى مقبض سيفه: "ابتسمي، وقِفي معتدلةً. دعيه يرى أن لديكِ نهدين. تعلم الآلهة أنهما صغيران أصلا".

واعتدلَت داني في وقفتها ورسمَت بسمةً على شفتيها.

2019/11/26 · 347 مشاهدة · 3412 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024