تدفَّق الزَّائرون من بوَّابات القلعة في نهرٍ من الذَّهب والفضَّة والفولاذ المصقول، ثلاثمئة منهم، مفخَرة من حمَلة الرَّايات والفُرسان، من المُحارِبين غير النظاميِّين والسلاحداريَّة. فوق رؤوسهم رفرفَت الرَّايات الذَّهبيَّة في رياح الشَّمال وقد زيَّنها وَعل عائلة باراثيون المتوَّج. كان ند ستارك يعرف كثيرين منهم، فها هو السير چايمي لانستر بشَعره اللامع كالذَّهب المطروق، ثم السير ساندور كليجاين بوجهه المحروق البَشِع، والصَّبي الطويل إلى جواره هو بالتأكيد وليِّ العهد، والرجل الضَّئيل وراءهم لا يُمكن أن يكون غير العِفريت، تيريون لانستر.

لكن الرجل ضخم الجثَّة على رأس الرَّكب، وعلى جانبيه فارسان يرتدي كلٌّ منهما معطف الحَرس المَلكي الأبيض كالثَّلج، كاد يبدو غريبًا لند... إلى أن وثبَ من على صهوة جواده الحربي بجُؤاره المألوف وضمَّه في عناقٍ سحقَ عظامه وصاحَ: "ند! آه، حقًّا من الجميل أن أرى وجهك المتجمِّد من جديد"، ورمقَه المَلك من رأسه إلى قدميه وأضافَ ضاحكًا: "لم تتغيَّر على الإطلاق".

كان ند يتمنَّى لو أنه يستطيع أن يَرُدَّ العبارة بمِثلها. قبل خمسة عشر عامًا، عندما ركبا معًا إلى الحرب ليفوزا بالعَرش، كان سيِّد ستورمز إند حليق الوجه صافي العينين مفتول العضلات كما في أحلام العذراوات.

كان يبلغ ستَّة أقدامٍ ونِصفًا طولا، يرتقي فوق من هُم أدنى منه شأنًا، وعندما يرتدي درعه ويضع خوذة عائلته العظيمة ذات القرون البارزة، كان يصير عملاقًا حقيقيًّا. كما أنه كان يملك قوَّة عملاقٍ بالفعل، وسلاحه المختار كان عبارةً عن مطرقةٍ حربيَّةٍ تَبرُز منها أشواك من الحديد يكاد ند لا يستطيع أن يرفعها. في تلك الأيام كانت رائحة الجِلد والدَّم تعلق به كالعِطر.

أمَّا الآن فكان العِطر هو ما يعلق به كالعِطر، وصارَ عرضه بضخامة طوله نفسها. كانت آخِر مرَّةٍ رأى فيها ند المَلك قبل تسعة أعوامٍ أثناء تمرُّد بالون جرايچوي، عندما اتَّحد الوَعل مع الذِّئب الرَّهيب للقضاء على مطامع الرجل الذي نصَّب نفسه ملكًا على الجُزر الحديديَّة. منذ تلك اللَّيلة التي وقفا فيها جنبًا إلى جنبٍ في معقل جرايچوي، حيث قبل روبرت استسلام اللورد المتمرِّد وأخذَ ند ابنه ثيون كرهينةً وتابعٍ شخصي له، كان وزن الملك قد زادَ أكثر من مئة رطل، وغطَّت لحية سوداء خشنة كالأسلاك الحديديَّة فكَّه لتُخفي ذقنه المشقوقة ولُغده المَلكي المتدلِّي، لكن لا شيء كان في وسعه إخفاء بطنه العظيم والحلقات السوداء تحت عينيه.

لكن روبرت كان مَليك ند الآن وليس صديقه فحسب، فاكتفى بأن قال: "جلالة المَلك، وينترفل تحت أمرك".

كان الآخَرون قد بدأوا يترجَّلون، وهُرِعَ السَّائسون للعناية بخيولهم.

دخلَت سرسي لانستر، ملكة روبرت، على قدميها ومعها طفلاها الآخَران، لأن المركبة المجرورة التي جاءوا فيها -وهي مركبة ضخمة ذات طابقين مشيَّدة من السَّنديان المطلي بألوان الزَّيت والمعادن المذهَّبة، يَجُرُّها أربعون حصان جَرٍّ قويًا-كانت أكبر من أن تَمُرَّ من بوَّابة القلعة. ركعَ ند في الثَّلج ليلثم خاتم الملكة، بينما عانقَ روبرت كاتلين كأنها أخته التي لم يرها منذ دَهر. ثم جاءَ الطفلان وتَمَّ تقديمهما واحدًا وراء الآخَر، وتلقَّى كلٌّ منهما استحسان الجانبين.

بمجرَّد انتهاء تلك التحيَّات الرسميَّة قال المَلك لمضيفه: "إدارد، خُذني إلى السِّرداب. أريدُ أن أقدِّم احتراماتي".

أحبَّه ند من أجل هذا، من أجل تذكُّره لأخته بعد كلِّ تلك السِّنين.

طلبَ ند مشكاةً دون حاجةٍ إلى قول شيءٍ آخَر. كانت الملكة قد حاولَت الاعتراض، فهُم راكبون منذ الفَجر، والجميع يَشعُرون بالتَّعب والبَرد، ولابُدَّ من أن يستريحوا أولا. باستطاعة الموتى أن ينتظروا. لم تقل أكثر من ذلك، ولمَّا رمقها روبرت بنظرةٍ سحبَها أخوها التَّوأم چايمي من ذراعها برفق، ولم تقل هي شيئًا آخَر.

نزلا إلى السِّرداب معًا، ند ومَليكه الذي يكاد لا يتعرَّفه. كانت السَّلالم الحجريَّة المتعرِّجة ضيِّقةً، وتقدَّم ند الطريق حاملاً المشكاة، بينما قال روبرت وهو ينزل: "كنتُ قد بدأتُ أحسب أننا لن نَبلُغ وينترفل أبدًا.

الطَّريقة التي يتكلَّمون بها في الجَنوب عن مَمالكي السَّبع تجعل أيَّ رجلٍ ينسى أن نصيبك منها أكبر من السِّت الأخرى مجتمعةً".

- "هل استمتعَ جلالتك بالرِّحلة؟".

قال روبرت بامتعاض: "مستنقعات وغابات وحقول، ولا تكاد تكون هناك حانة مقبولة شَمال "العُنق". لم أرَ في حياتي مساحاتٍ فارغةً هكذا قَطُّ. أين ناسك؟!".

قال ند ساخرًا: "غالبًا كانوا أكثر خجلاً من أن يَخرُجوا". كان يَشعُر بالقشعريرة التي تتسلَّل إلى أعلى السَّلالم قادمةً من أعماق الأرض. " الملوك مشهد نادر في الشَّمال. " أصدرَ روبرت صوتًا مستهجنًا وقال: "كانوا يختبئون بين الثُّلوج بالأحرى. الثُّلوج يا ند!". كان المَلك يسند يده على الحائط ليُثَبِّت نفسه وهما ينزلان.

قال ند: "ثلوج أواخِر الصَّيف شيء طبيعي. أتمنَّى أنها لم تُزعِجكم.

إنها خفيفة في المعتاد".

صاحَ روبرت: "فليأخذ "الآخَرون" ثلوجكم الخفيفة! كيف سيكون هذا المكان في الشِّتاء؟ إنني أرتجفُ من مجرَّد الفكرة" قال ند موافقًا: "الشِّتاء عصيب بالفعل، لكن آل ستارك سيَصمُدون أمامه كما فعلوا دائمًا".

قال روبرت: "يجب أن تأتي إلى الجَنوب. إنك في حاجةٍ لتذوُّق الصَّيف قبل أن ينتهي. في هايجاردن ثمَّة حقول من الزُّهور الذَّهبيَّة على مدى البَصر، والفواكه طازجة ناضجة جدًّا لدرجة أنها تنفجر في فمك... شمَّام وخوخ وبرقوق ناري... إنك لم تتذوَّق حلاوةً كهذه في حياتك.

سترى، لقد أحضرتُ لك بعضها. حتى في ستورمز إند والرِّياح العليلة تهبُّ من الخليج يكون النَّهار شديد الحرارة حتى أنك لا تستطيع الحركة.

ويجب أن ترى البلدات يا ند، البلدات! زهور في كلِّ مكان، والأسواق تعجُّ بالأطعمة، والنَّبيذ الصَّيفي زهيد الثَّمن وشديد الجودة لدرجة أنك قد تثمل من مجرَّد تنفُّس الهواء هناك. الكلُّ سمان ثملون وأغنياء"، وضحكَ وربَّت على بطنه الضَّخمة بصوتٍ مرتفع، واستطردَ بعينين لامعتين: "والفتيات يا ند! أقسم لك أن النِّساء هناك يفقدن كلَّ ما لديهنَّ من حشمةٍ في الحَر. يسبحن عارياتٍ في النَّهر أسفل القلعة مباشرةً.

حتى في الشوارع الجَوُّ أكثر حرارةً من أن يرتدي أحد الجِلد أو الصُّوف، فيتنقَّلن في ثيابهنَّ القصيرة، من الحرير إن كنَّ يملكن قطعًا فضيَّةً تكفي، أو من القُطن إن كنَّ فقيرات، لكن لا فارق بين هذه وتلك عندما يبدأن في التصبُّب عرقًا ويلتصق القُماش بأجسامهنَّ فتبدو الواحدة منهنَّ كأنها عارية بالفعل"، وأطلقَ المَلك ضحكةً مرحة.

لطالما كان روبرت باراثيون رجلا ذا شهيَّةٍ واسعة، رجلا يعرف كيف يستمتع بملذَّات الحياة، لكن لا أحد كان بإمكانه أن يتَّهم إدارد ستارك بأنه مِثل روبرت. على أن ند لم يسعه إلا أن يُلاحِظ الأثر الذي أحدثَته تلك الملذَّات في المَلك. كان روبرت يلهث عندما بلغا نهاية السَّلالم، وجهه أحمرَ في ضوء المشكاة وظُلمة السِّرداب تحتويهما.

قال ند باحترام: "جلالة الملك"، وحرَّك المشكاة في نِصف دائرةٍ واسعة، فتحرَّكت الظِّلال وتمايلَت، ومَسَّ الضوء المتذبذب الأحجار تحت أقدامهما، وانسابَ على طابورٍ طويل من الأعمدة الجرانيتيَّة التي امتدَّت أمامهما أزواجًا في الظَّلام. بين الأعمدة جلسَ الموتى على عروشهم الحجريَّة الموضوعة أمام الجدران، تستند ظهورهم إلى الأضرحة التي تضمُّ رفاتهم. "إنها في نهاية السِّرداب، مع أبي وبراندون. " قادَ الطَّريق بين الأعمدة وتبعه روبرت صامتًا، يرتجف في البَرد القادم من تحت الأرض. كانت البرودة تسود المكان ها هنا دائمًا. تردَّد صدى وقع أقدامهما على الأرض الحجريَّة في السِّرداب أمامهما وهما يسيران بين أموات عائلة ستارك. راقبَهما سادة وينترفل وهما يَمُرَّان بملامحهم المحفورة في الأحجار التي تُغلِق كلَّ قَبر. في صفَّين طويلين جلسوا وعيونهم العمياء تُحَدِّق في ظلامٍ أبدي، بينما استقرَّ ذِئب رهيب ضخم الجثَّة عند قدمي كلِّ منهم. جعلت الظِّلال المتقلِّبة التَّماثيل الحجريَّة تبدو وكأنها تتحرَّك مع مرور الرجلين الحيَّين.

كانت الأعراف القديمة تنصُّ على أن يوضع سيف طويل من الحديد على حِجر كلِّ من كان سيِّدًا لوينترفل، من أجل أن تظلَّ الأرواح المنتقمة في قبورها. كان أقدم السُّيوف قد تحوَّل بفعل الصدأ إلى شِبه ترابٍ منذ زمنٍ طويل، فلم يترك غير بضع بُقَعٍ حمراء حيث كان المعدن يستقرُّ على الحَجر. تساءل ند إن كان ذلك يعني أن تلك الأشباح صارت تجوب القلعة حُرَّةً الآن، وتمنَّى أن يكون ذلك غير صحيح. كان سادة وينترفل الأوائل قساةً كالأرض التي حكموها، وفي القرون التي سبقَت مجيء سادة التَّنانين عبر البَحر لم يكونوا يدينون بالولاء لأيِّ أحد، إذ نصَّبوا أنفسهم ملوكًا في الشَّمال.

توقَّف ند أخيرًا ورفعَ المشكاة. امتدَّ السِّرداب أمامهما في الظَّلام، لكن بعد تلك النُّقطة كانت القبور مفتوحةً فارغةً، حُفَرًا سوداء تنتظر موتاها، تنتظره وتنتظر أبناءه. لم يكن ند يُحِبُّ التفكير في هذا.

قال للمَلك: "هنا"، فهَزَّ روبرت رأسه بصمتٍ وركعَ وحنى رأسه.

كانت هناك ثلاثة قبور مرتصَّة جنبًا إلى جنب. كان اللورد ريكارد ستارك -أبو ند-ذا وجهٍ صارمٍ طويل. كان الحجَّار الذي بنى القبر يعرفه جيِّدًا، فجلسَ بوقارٍ هادئٍ وأصابعه الحجريَّة تَقبُض بقوَّةٍ على السَّيف الموضوع على حِجره، وإن كانت السُّيوف كلها قد خذلَته في حياته. في ضريحين أصغر حجمًا على جانبيه كان ابنه وابنته.

كان براندون في العشرين من عُمره عندما ماتَ... شُنِقَ بأوامر المَلك المجنون إيرس تارجاريَن قبل أيامٍ قليلةٍ من زفافه المزمع من كاتلين تَلي ابنة ريڤررَن. يومها أجبروا أباه على مُشاهَدته وهو يموت. كان الوريث الشَّرعي، الأخ الأكبر الذي وُلِدَ ليَحكُم.

ليانا كانت في السادسة عشر فقط، امرأة طفلة ذات جمالٍ وعذوبةٍ بلا نظير. كان ند يُحِبُّها من كلِّ قلبه، وروبرت أحبَّها أكثر وأكثر، تلك التي كانت ستصير عروسه.

قال المَلك بعد صمتٍ طالَ: "كانت أجمل من هذا". ظلَّت عيناه مثبَّتتين على وجه ليانا، كأنه يستطيع إعادتها للحياة، ثم نهضَ بتثاقُلٍ أخيرًا بفعل وزنه. "آه، تبًّا يا ند! أكان يجب أن تدفنها في هذا المكان؟". كان صوته مبحوحًا مغلَّفًا بالحُزن الذي جاءَ مع اجترار الذِّكريات. "كانت تستحقُّ أفضل من الظَّلام. " قال ند بهدوء: "لقد كانت من آل ستارك وابنة وينترفل. إن مكانها هنا".

- "حريٌّ بها أن تكون على قمَّة تلٍّ في مكانٍ ما، أو تحت شجرة فاكهة، والشَّمس والسَّحاب فوقها والمطر يَغسلها. " قال ند مذكِّرًا المَلك: "لا تنسَ أني كنتُ معها عندما ماتت. لقد أرادَت أن تعود إلى ديارها لتستريح إلى جوار براندون وأبي". كان لا يزال يسمعها أحيانًا. عِدني...قالتها في غُرفةٍ معبَّقةٍ برائحة الدِّم والزُّهور...

عِدني يا ند. كانت الحُمَّى قد سلبَتها قوَّتها وصارَ صوتها خافتًا كهمسة، لكن الخوف اختفى من عيني أخته عندما أعطاها كلمته. تذكَّر ند كيف ابتسمَت لحظتها، كيف أطبقَت أصابعها بقوَّةٍ على أصابعه والحياة تنساب منها، وبتلات الزُّهور تَسقُط من راحة يدها وقد ماتت واسودَّت.

بعد ذلك كان لا يَذكُر شيئًا. وجدوه متمسِّكًا بجثمانها والصَّمت الحزين يُغَلِّفه، وفصلَ رجل المستنقعات الصَّغير هولاند ريد يدها عن يده. لا يَذكُر ند شيئًا من هذا. "أحضرُ لها الزُّهور كلما استطعتُ. ليانا كانت...

مولعةً بالزُّهور".

مَسَّ المَلك وجنتها وتحسَّست أصابعه الحجر الخَشِن برقَّةٍ كأنه لحم حي، وقال: "أقسمتُ أن أقتل ريجار لما فعله بها".

- "ولقد قتلته. " قال روبرت بمرارة: "مرَّةً واحدةً فقط".

كانا قد تقابلا وجهًا لوجهٍ في مخاضة نهر الثَّالوث والمعركة مشتعلة من حولهما، روبرت بمطرقته الحربيَّة وخوذته العظيمة ذات القرون، والأمير التارجاريَن في دِرعه السَّوداء تمامًا، وعلى صدر الدِّرع شعار عائلته المتمثِّل في تنِّينٍ ذي ثلاثة رؤوس مشغول بأكمله بالياقوت، يتألَّق كالناَّر في نور الشَّمس. جرَت مياه مخاضة 7 الثَّالوث حمراء حول حوافر جواديهما وهما يدوران ويتصادمان مرَّةً تلو الأخرى، إلى أن هوى روبرت في النهاية بضربةٍ ساحقةٍ بمطرقته هشَّمت التنِّين وصدر الأمير من تحته. عندما بلغَ ند بُقعة قتالهما أخيرًا كان ريجار ميتًا في المياه، بينما أخذَ رجال من كلا الجيشين يُنَقِّبون في الماء عن الياقوت الذي سقطَ من دِرعه.

قال روبرت: "في أحلامي أقتله كلَّ ليلة، لكن حتى ألف ميتةٍ ستظلُّ أقلَّ مما يستحق".

لم يكن ند يملك شيئًا يردُّ به على هذا، وبعد فترة صمتٍ قال: "يجب أن نعود يا جلالة المَلك. زوجتك في انتظارك".

تمتمَ روبرت بحدَّة: "فليأخذ "الآخَرون" زوجتي!"، لكنه بدأ يتحرَّك في الاتِّجاه الذي جاءا منه بخطواتٍ ثقيلة. "وإذا سمعتك تُخاطِبني بـ "يا جلالة المَلك" مرَّةً أخرى، سأعَلِّقُ رأسك على خازوق! إن ما بيننا أكبر من هذا".

أجابَ ند بهدوء: "لم أنسَ هذا"، وعندما لم يَرُدْ المَلك سأله: "حدِّثني عن چون".

هَزَّ روبرت رأسه قائلا: "لم أرَ رجلاً يمرض بهذه السُّرعة من قبل.

لقد أقمنا سلسلة مباريات احتفا بيوم ميلاد ابني. لو كنت قد رأيت چون وقتها، لكنت أقسمت إنه سيعيش إلى الأبد. ثم إنه ماتَ بعد أسبوعين.

كان المرض كالنَّار في أحشائه وأحرقَه عن آخِره"، ثم توقَّف إلى جوار عمود، أمام واحد من آل ستارك ماتَ منذ زمن، وأضافَ: "لقد أحببتُ ذلك الرجل".

قال ند: "كلانا كان يُحِبُّه"، وصمتَ لحظةً قبل أن يُردِف: "كاتلين تَشعُر بالخوف على أختها. كيف تتعامَل لايسا مع حُزنها؟" لوى روبرت فمه وقال بضيق: "إنها ليست بخير في الحقيقة. أعتقدُ أن فقدان چون أفقدَ المرأة صوابها يا ند. لقد أخذَت الصَّبي وعادَت به إلى "العُش" رغم أني لم أوافق على ذلك. كنتُ أتمنَّى أن ينشأ عند تايوين لانستر في كاسترلي روك. چون كان بلا إخوةٍ أو أبناء آخَرين، فهل كان ينبغي عليَّ أن أترك النِّساء تُرَبِّي الصَّبي؟" كان ند ليأتمن أفعىً على الصَّبي أكثر من اللورد تايوين، لكنه لم يتلفَّظ بشكوكه هذه، فبعض الجروح القديمة لا يندمل تمامًا حقًّا، ويبدأ في النَّزيف من جديدٍ مع أقلِّ كلمة. هكذا قال بحذر: "لعلَّ الأم خافت من أن تفقد ابنها، فهو لا يزال صغيرًا جدًّا".

قال روبرت: "في السَّادسة، وسقيم، وسيِّد "العُش"، لترحمنا الآلهة.

حريٌّ بلايسا أن تَشعُر بما في هذا من شرف، فاللورد تايوين لم يتَّخِذ تابعًا شخصيًّا له من قبل، ولانستر عائلة عظيمة ونبيلة. لكن لايسا رفضَت مجرَّد الفكرة، ثم إنها غادرَت في جوف اللَّيل دون أن تستأذن حتى.

سرسي كانت غاضبةً للغاية"، وتنهَّد بعُمقٍ وأضافَ: "الصَّبي مسمَّى على اسمي، هل كنت تعرف هذا؟ روبرت آرن. لقد أقسمتُ أن أحميه، فكيف أفعلُ هذا وقد فرَّت به أمه؟".

قال ند: "سآخذه تابعًا شخصيًّا لي إذا شِئت. لابُدَّ أن لايسا ستُوافِق على هذا. هي وكاتلين كانتا قريبتين في صباهما، كما أن لها مكانًا هنا كذلك".

رَدَّ المَلك: "عرض كريم يا صديقي، لكن فاتَ الأوان. اللورد تايوين أعطى موافَقته فعلا، وتنشئة الصَّبي في مكانٍ آخَر ستكون بمثابة إهانةٍ له".

- "سلامة ابن أختي تَهُمُّني أكثر من كبرياء آل لانستر".

- "لأنك لا تنام مع واحدةٍ منهم"، قال روبرت وقهقهَ لتُدَوِّي قهقهته بين القبور وتَرتدُّ عن السَّقف المقنطر، وابتسامته الواسعة تُضيء من بين أدغال لحيته السَّوداء الكثيفة. "آه يا ند، ما زلت شديد الجدِّيَّة"، ووضعَ ذراعه حول كتف ند وقال: "لابُدَّ أنك تساءلت لِمَ جئتُ أخيرًا إلى وينترفل بعد كلِّ تلك السِّنين. " كانت الشُّكوك تُخالِج ند، وإن لم يُصَرِّح بها واكتفى بأن قال بكياسة: " من أجل مُتعة صُحبتي بالتأكيد. كما أن هناك "الجِدار". يجب أن تراه يا جلالة المَلك، أن تمشي بين شُرفاته المحصَّنة وتتكلَّم مع الرجال الذين يحمونه. إن حَرس اللَّيل الآن مجرَّد ظِلٍّ لما كانوه من قبل. بنچن يقول إن...".

قاطَعه روبرت قائلا: "لا شكَّ أني سأسمعُ ما لدى أخيك قريبًا

"الجِدار" قائم منذ متى؟ ثمانية آلاف عام؟ سوف ينتظر بضعة أيامٍ أخرى.

إن لديَّ اهتمامات أكثر إلحاحًا الآن. نحن في أوقاتٍ عصيبة، وأنا أحتاجُ رجالا صالحين حولي، رجالًا مِثل چون آرن. لقد خدمَ كسيِّد "العُش" وحاكِم الشَّرق ويَدِ المَلك، ولن يكون من السَّهل أن يحلَّ أحد محلَّه".

- "ابنه..".

قال روبرت بفظاظة: "ابنه سيرث "العُش" وكلَّ دخوله وإيراداته، لا أكثر".

فاجأ الرَّدُّ ند، فتوقَّف مندهشًا والتفتَ يَنظُر إلى مَليكه قائلا: "لطالما كان أبناء آرن حكَّام الشَّرق. اللَّقب يُرافِق المقاطَعة".

قال روبرت: "ربما يستردُّ هذا الشَّرف عندما يَبلُغ، لكني أفكِّر في العام الحالي، والعام القادم. ولد في السَّادسة من عُمره ليس بقائد يا ند".

- "في زمن السَّلام يكون اللَّقب مجرَّد شرف. دعه يحتفظ به، إن لم يكن من أجله فلأجل خاطِر أبيه. لا شكَّ أنك مدين لچون بهذا على الأقل لقاء خدمته".

لم يبدُ المَلك مسرورًا بهذا، ورفعَ ذراعه عن كتف ند قائلا: "خدمة چون كانت واجبه الذي يدين به لمَليكه. أنا لستُ ناكرًا للجميل يا ند، وأنت من بين الجميع من المفترَض أن تعرف هذا، لكن الابن ليس أباه، ومجرَّد صبيٍّ لا يستطيع السَّيطرة على الشَّرق بأكمله"، ثم لانَت لهجته وقال: "لكن دعنا من هذا، فثمَّة منصب أكثر أهميَّة تنبغي مُناقَشته"، وأمسك ند من مِرفقه وقال له: "أنا في حاجةٍ إليك يا ند".

- "أنا رهن إشارتك يا جلالة المَلك". كانت كلماتٍ من المحتَّم أن يقولها، وهكذا قالها وقد انتابه القلق مما سيتبعها.

لم يبدُ أن روبرت قد سمعه أصلا، واندفعَ يقول: "تلك الأعوام التي قضيناها في "العُش"... بحقِّ الآلهة كانت أعوامًا رائعة. أريدك إلى جانبي مرَّةً أخرى يا ند، أريدك هناك في كينجز لاندنج، وليس هنا عند نهاية العالم حيث لا تفيد أحدًا بشيء"، وتطلَّع روبرت إلى الظَّلام، فبدا للحظةٍ كئيب الملامح كأحد آل ستارك. "أقسمُ لك، الجلوس على العَرش أصعب ألف مرَّةٍ من الفوز به. القوانين عمل مُرهِق، وعَدُّ القروش النُّحاسيَّة أسوأ.

والنَّاس... إنهم لا ينتهون أبدًا. أجلسُ هناك على الكُرسي الحديدي الملعون وأسمعُ شكاواهم إلى أن يُصاب ذِهني بالخَدر ومؤخِّرتي بالتقرُّحات. كلهم يريد شيئًا، المال أو الأرض أو العدالة. الأكاذيب التي يروونها... وكلُّ لورد وليدي في بلاطي ليسوا أفضل منهم بحال. إنني محاطٌ بالمُرائين والحمقى. من شأن هذا أن يصيب أيَّ رجلٍ بالجنون يا ند. نِصفهم لا يجرؤ على إخباري بالحقيقة، والنِّصف الآخَر لا يستطيع العثور عليها. تأتي عليَّ ليالٍ أتمنَّى فيها لو أننا خسرنا معركة الثَّالوث...

آه، لا، ليس حقًّا، لكن...".

قال ند بخفوت: "أفهمك".

رمقه روبرت قائلا: "أعتقدُ أنك تفعل، وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فأنت الوحيد يا صديقي القديم"، وابتسمَ وقال: "لورد إدارد ستارك، إنني أرغبُ في توليتك منصب يَدِ المَلك".

هوى ند على رُكبةٍ واحدة. لم يكن العرض مفاجئًا له، فلأيِّ سببٍ آخَر كان روبرت ليقطع كلَّ تلك المسافة؟ يَدُ المَلك كان ثاني أقوى رجلٍ في المَمالك السَّبع، يتكلَّم بصوت المَلك، يقود جيوش المَلك، ويصوغ قوانين المَلك، وفي أوقاتٍ يجلس حتى على العَرش الحديدي ليُقيم عدالة المَلك، عندما يكون المَلك غائبًا أو مريضًا أو غير متواجدٍ لسببٍ أو لآخَر. كان روبرت يعرض عليه مسؤوليَّة بضخامة البلاد ذاتها.

وكان هذا آخِر شيءٍ يريده في الدُّنيا.

قال: "جلالة المَلك، أنا لستُ جديرًا بهذا الشَّرف".

دمدمَ روبرت بنفاد صبرٍ لا تعوزه الدُّعابة: "لو أردتُ أن أشرِّفك لتركتك تتقاعَد. إنني أريدك أن تدير المَملكة وتقود الحروب بينما أقطعُ طريقي إلى قبرٍ مبكِّرٍ أك وشُربًا ونكاحًا"، وربَّت على بطنه قائلا بابتسامةٍ عريضة: "أتعرف ما يقولونه عن المَلك ويَدِه؟" كان ند يعرف القول: "ما يَحلُم به المَلك يبنيه اليَد".

- "ضاجعتُ ذات مرَّةٍ صيَّادة سمك قالت لي إن الدَّهماء لديهم طريقة أخرى يُرَدِّدونه بها: المَلك يأكل واليَدُ يمسح الخراء"، وألقى روبرت رأسه إلى الوراء وأطلقَ ضحكته المجلجلة، فتردَّد صداها في الظَّلام، ومن كلِّ مكانٍ حولهما بدا أن أموات وينترفل يُراقِبون بعيونٍ باردةٍ مُستَنكِرة.

أخيرًا خفتَ صوت الضَّحك ثم توقَّف، وكان ند لا يزال على رُكبته ولم يرفع عينيه، فقال المَلك: "تبًّا يا ند! يُمكنك أن تُجاريني بابتسامةٍ على الأقل".

قال ند بلهجةٍ محايدة: "يقولون إن البَرد يشتدُّ هنا في الشِّتاء لدرجة أن ضحكة الرجل تتجمَّد في حَلقه وتَخنُقه حتى الموت، ولربما هذا هو السَّبب الذي يجعل لدى عائلة ستارك حِسَّ دعابةٍ قلي للغاية".

- "تعالَ معي إلى الجَنوب وسأعلِّمك كيف تضحك من جديد. لقد ساعدتني على الفوز بهذا العَرش اللَّعين، فساعدني الآن على الاحتفاظ به. كان من المفترض دومًا أن نَحكُم معًا. لو كانت ليانا قد عاشَت لكنا قد صِرنا أخوين يَربُطهما الدَّم بالإضافة إلى الحُب. حسنٌ، لم يَفُت أوان هذا. أنا لديَّ ابن، وأنت لديك ابنة. ابني چوف وابنتك سانزا سيربطان بين عائلتينا كما كنتُ وليانا سنفعل من قبل".

أمَّا هذا العرض فقد فاجأه بالفعل. "سانزا في الحادية عشرة لا أكثر. " لوَّح روبرت بيده بصبرٍ نافد وقال: "كبيرة بما يكفي للخِطبة، أمَّا الزَّواج فيُمكنه أن ينتظر بضعة أعوام"، ثم ابتسمَ المَلك وقال: "والآن انهض عليك اللَّعنة وقُل نعم!"

أجابَ ند: "لا شيء يُمكنه أن يُسعدني أكثر من هذا يا جلالة المَلك"، ثم قال متردِّدًا: "كلُّ هذا التَّكريم غير متوقَّع على الإطلاق. هل لي في بعض الوقت للتَّفكير؟ ويجب أن أخبر زوجتي كذلك".

- "نعم، نعم. أخبر كاتلين. لا تتَّخذ قرارك الآن"، ومَدَّ المَلك يده وقبضَ على يد ند وسحبَه لينهض مضيفًا: "لكن لا تَترُكني منتظرًا طويلا.

أنا لستُ بالرجل الصَّبور".

لوهلةٍ أفعمَ إدارد ستارك وسواس مُقلِق. إن هذا مكانه، هنا في الشَّمال. تطلَّع إلى التَّماثيل الحجريَّة في كلِّ مكانٍ حوله وهو يتنفَّس بعُمقٍ في صمت السِّرداب البارد. كان باستطاعته أن يَشعُر بأعين الموتى المسلَّطة عليه، ويعرف أنهم كانوا يُصغون لما قيل... والشِّتاء قادِم.

2019/11/26 · 358 مشاهدة · 3059 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024