كانت هناك مرَّات -قليلةٌ وليست كثيرةً-يَشعُر فيها چون بالسُّرور لأنه نغل، وخطرَ له وهو يملأ كوب النَّبيذ من إبريقٍ يَمُرُّ به أحد الخدم أن هذه اللَّيلة قد تكون واحدةً من تلك المرَّات. هكذا استرخى في مكانه على الدِّكَّة بين مُرافِقي الفُرسان الأقرب إليه سِنًّا ورشفَ من كوبه باستمتاع، فملأَ مذاق النَّبيذ الصَّيفي الحُلو المليء بنكهة الفاكهة فمه ورسمَ ابتسامةً على شفتيه.

كانت قاعة وينترفل الكُبرى غائمةً من فرط الدُّخَّان وتفوح فيها رائحة اللَّحم المشوي والخُبز الطَّازج، والجدران الحَجريَّة ذات اللَّون الرَّمادي أسدِلَت عليها الرَّايات البيضاء والذَّهبيَّة والقرمزيَّة: ذِئب ستارك الرَّهيب، وَعل باراثيون المتوَّج، وأسد لانستر. كان هناك مُغَنٍّ يعزف على القيثارة السَّامية 8 ويُرَدِّد أغنيَّةً شعبيَّة، لكن هنا في هذا الرُّكن من القاعة كان صوته يكاد لا يُسمَع فوق طقطقة النَّار وجلبة الأطباق والأكواب المصنوعة من القصدير، والهمهمة الخفيضة الصَّادرة عن مئة محادثةٍ بين السَّكارى.

كانت ساعات أربع قد مرَّت منذ بدأت المأدبة التي أقيمَت ترحيبًا بالمَلك. جلسَ إخوة چون وأختاه مع الأطفال الملكيِّين أدنى المنصَّة المرفوعة التي استضافَ عليها اللورد والليدي ستارك المَلك والمَلكة.

لا شكَّ أن أباه سيسمح لكلٍّ من أطفاله بأن يحتسي كأسًا من النَّبيذ بهذه المناسَبة، لكن لا أكثر من هذا، لكن هنا بين الدِّكَكِ لم يكن هناك ما يمنع چون من أن يروي ظمأه كما يشاء.

ولقد وجدَ أنه يملك ظمأ رجلٍ بالِغ، ما أثارَ سرور الشَّباب الخشنين من حوله، الذين حثُّوه على شُرب كوبٍ جديد كلما فرغَ من واحد. كانوا رفقةً لا بأس بها، وشعرَ چون بالاستمتاع بالحكايات التي يتبادلونها، حكايات عن الغزوات الحربيَّة والغراميَّة، وحكايات عن الصَّيد. كان على ثقةٍ بأن صُحبة رفاقه أمتع كثيرًا من صُحبة أبناء المَلك، ولقد أشبعَ فضوله نحو الزَّائرين بالفعل أثناء دخولهم، فالموكب كان يمرُّ على بُعد خطواتٍ معدودةٍ من مكانه على الدِّكَّة، وفحصَهم چون جميعًا بنظراته.

دخلَ السيِّد والده أو مصاحبًا المَلكة. كانت جميلةً حقًّا كما قال الرجال، يتألَّق تاج مرصَّع بالجواهر بين خصلات شَعرها الذَّهبي الطَّويل، وما فيه من زمرُّد نظير مثالي لأخضرَ عينيها. ساعدَها أبوه على الصُّعود إلى المنصَّة وقادَها إلى مقعدها، لكن المَلكة لم تُكَلِّف نفسها أن تَنظُر له مرَّةً واحدةً، وحتى في سِنِّ الرابعة عشر كان باستطاعة چون أن يرى ما وراء ابتسامتها المصطنَعة.

ثم جاءَ المَلك روبرت نفسه والليدي كاتلين تتأبَّط ذراعه. كان المَلك بمثابة خيبة أملٍ عظيمةٍ لچون، خصوصًا بعد كلام أبيه الكثير عنه...

روبرت باراثيون الرجل مُنقَطِع النَّظير، شيطان الثَّالوث، أقوى مُحارِب في البلاد، العملاق بين الأمراء. غير أن چون لم يرَ إلا رجلا بدينًا محمرَّ الوجه تحت لحيته، تتشرَّب ثيابه الحريريَّة العرَق الذي يتصبَّب من مسامِّه.

بعدهم جاءَ الأطفال، ريكون الصَّغير أو في مشيته الطَّويلة بكلِّ ما يستطيع طفل في الثالثة من عمره تدبيره من وقار، وحثَّه چون على التقدُّم عندما توقَّف عنده ليُلقي التحيَّة. بعده مباشرةً جاءَ روب وقد ارتدى الصُّوف الرَّمادي الموشَّى بالأبيض كألوان آل ستارك، والأميرة مارسلا تتأبَّط ذراعه.

كانت فتاةً نحيلةً، لم تَبلُغ الثامنة من العُمر بعد، شَعرها شلَّال من الجدائل الذَّهبيَّة تحت شبكةٍ محلاة بالجواهر. لاحظَ چون النَّظرات الخجول التي كانت تَرمُق روب بها وهما يمرَّان بين الموائد، والابتسامات المستحية التي كانت تمنحه إياها، وقرَّر أنها فتاة حمقاء تافهة. روب لم يتحلَّ بالإدراك الكافي ليرى كم هي بَلهاء، وكان يبتسم كالحمقى بدوره.

اصطحبَت أختاه غير الشَّقيقتين الأميرين، آريا مع تومن الصَّغير ذي الجِسم الممتلئ الذي كان شَعره الأشقَر أطول من شَعرها، وسانزا -الأكبر منها بعامين-مع ولي العهد، الأمير چوفري باراثيون. كان في الثانية عشرة من عُمره، أصغر من چون وروب، لكن أطول من الاثنين قامةً، الأمر الذي أثار ضيق چون إلى أقصى حد. كان الأمير چوفري يملك شَعر أخته وعيني أمه الخضراوين العميقتين، وتدلَّى شَعره الأشقَر الكثيف بَعد القلادة الذَّهبيَّة التي تُطَوِّق عنقه وياقته المخمليَّة العالية. بدَت سانزا بهيَّةً حقًّا وهي تمشي إلى جواره، لكن لم تَرُقْ لچون على الإطلاق الطريقة التي يَزُمُّ بها چوفري شفتيه الممتلئتين، ولا النَّظرات الهازئة الملول التي أخذَ يَرمُق بها قاعة وينترفل الكُبرى.

كان مهتمًّا أكثر بالاثنين اللذين جاءا بعدهم. إنهما شقيقا المَلكة، الأخوان لانستر ابنا كاسترلي روك، الأسد والعِفريت. لم يكن هناك مجال للخلط بينهما. كان السير چايمي لانستر شقيق المَلكة سرسي التَّوأم، طويل القامة ذهبي الشَّعر، عيناه الخضراوان تتألَّقان وابتسامته تقطع كالسِّكِّين. كان يرتدي ثوبًا من الحرير القُرمزي وحذاءً أسودَ طويل العُنق ومعطفًا من السَّاتان الأسود، وعلى صَدر سُترته طُرِّز الأسد –شعار عائلته-بخيوطٍ ذهبيَّةٍ ليبدو كأنه يزأر بتحدٍّ.

كانوا يُخاطبونه بلقب "أسد لانستر" في وجهه، ومن وراء ظهره ينعتونه بـ "قاتِل المَلك".

وجدَ چون أن من الصَّعب حقًّا أن يُبعِد عينيه عنه، وفي قرارة نفسه فكَّر والسير چايمي يمرُّ به: هكذا من المفترَض أن يبدو المَلك.

ثم إنه رأى الآخَر، يمشي متمايلًا نِصف متوارٍ إلى جوار أخيه. تيريون لانستر، أصغر أبناء اللورد تايوين وأقبحهم على الإطلاق. كلُّ ما أعطته الآلهة لسرسي وچايمي حرمَت تيريون منه. كان قزما، يَبلُغ نِصف طول أخيه تقريبًا، يُكافِح ليُجاري مشية أخيه بقدميه ناقصتي النُّمو. كان رأسه كبير الحجم جدًّا مقارَنةً بجسده، وله وجه غليظ مسحوب إلى الدَّاخل تحت جبهته المنتفخة. عين خضراء وعين سوداء كانتا تُحَدِّقان من تحت شَعره الخفيف الأشقَر جدًّا حتى كاد يكون أبيضَ. بدهشةٍ شديدةٍ راقبَه چون وهو يمرُّ.

آخِر من دخلَ من كبار السَّادة كان عمه بنچن ستارك رجل حَرس اللَّيل، وتابِع أبيه الشَّخصي ثيون جرايچوي. منحَ بنچن چون ابتسامةً دافئةً أثناء مروره به، بينما تجاهَله ثيون تمامًا، وهو شيء ليس بالجديد على كلِّ حال. بعد أن جلسَ الجميع ورُفِعَت الأنخاب وتم توجيه الشُّكر وتلقِّيه، بدأت المأدبة بدأ چون يشرب من جديد ولم يتوقَّف.

احتكَّ شيء بساقه تحت المائدة، ورأى چون عينين حمراوين تُحَدِّقان فيه، فسألَ: "جُعت ثانيةً؟". كان هناك نِصف دجاجةٍ مشويةٍ بالعسل لا يزال موضوعًا في منتصف المائدة، فمَدَّ چون يده ليقطع مِنه ساقًا، ثم خطرَت له فكرة أفضل. هكذا دَسَّ سكِّينًا في الطَّائر المطهي وتركه يَسقُط على الأرض تحت قدميه، وبدأ جوست يُمَزِّقه بأسنانه بضراوةٍ صامتة. لم يكن مسموحًا لإخوته وأختيه أن يجلبوا ذِئابهم إلى المأدبة، لكن في هذا الرُّكن من القاعة كانت هناك كلاب أكثر مما يستطيع چون أن يُحصي، ولم يُعَلِّق أحد بكلمةٍ على وجود ذِئبه الصَّغير.

قال لنفسه إنه محظوظ لهذا السَّبب كذلك.

شعرَ بلسعةٍ في عينيه، فحكَّهما بقوَّةٍ لاعنًا الدُّخَّان، وابتلعَ جَرعةً أخرى من النَّبيذ وراقبَ ذِئبه وهو يلتهم لحم الدَّجاجة.

تحرَّكت الكلاب بين الموائد في أثر الخادمات. واحدة منها، هجينةً سوداء ذات عينين صفراوين واسعتين، التقطَت رائحة الدَّجاجة، فتوقَّفت ودسَّت نفسها تحت الدِّكَّة لتنال نصيبًا من اللَّحم. راقبَ چون المواجَهة... أطلقَت الكلبة زمجرةً خفيضةً ودنَت أكثر، ورفعَ جوست عينيه بصمتٍ تامٍ وركَّز نظرات هاتين العينين الحمراوين النَّاريَّتين على الكلبة، فأطلقَت هي نباحًا غاضبًا مليئًا بالتحدِّي. كانت أكبر حجمًا من الذِّئب الصَّغير بثلاث مرَّاتٍ كاملة، لكن جوست لم يتحرَّك من مكانه، بل وقفَ فوق غنيمته وفغرَ فاهه ليكشف عن أنيابه. عندها توتَّرت الكلبة وأطلقَت نباحًا آخَر، ثم قرَّرت أ تخوض ذلك الشِّجار، واستدارَت وانسلَّت مبتعدةً بعد أن نبحَت مرَّةً أخيرة لحِفظ ماء وجهها، بينما عادَ جوست إلى وجبته.

ابتسمَ چون ومَدَّ يده وداعبَ الفرو الأبيض المبعثَر، فرفعَ الذِّئب الرَّهيب عينيه إليه، وعضعضَ يده برِفق، ثم واصلَ الأكل.

- "أهذا أحد الذِّئاب الرَّهيبة التي سمعتُ الكثير عنها؟"، قال صوت مألوف على مقربةٍ منه، ورفعَ چون عينيه بسعادةٍ وعمُّه بن يضع يده على رأسه ويُنفش شَعره تمامًا كما فعلَ چون مع ذِئبه.

أجابَ مبتسمًا: "نعم، اسمه جوست".

قاطعَ أحد مُرافِقي الفُرسان القصَّة البذيئة التي كان چون يحكيها، ليُفسِح مكانًا على المائدة لأخي سيِّده، وجلسَ بنچن ستارك على الدِّكَّة مباعدًا بين قدميه الطويلتين، وأخذَ كوب النَّبيذ من يد چون، ثم تذوَّقه وقال: "نبيذ صيفي... لا شيء يُضاهي حلاوته. كم كوبًا شربت يا چون؟" رَدَّ چون بابتسامة، فأطلقَ بن ستارك ضحكةً وقال: "آه، كما خشيتُ.

حسن، حسن. أعتقدُ أني كنتُ أصغر منك عندما ثملتُ أول مرَّةٍ كما ينبغي أن يكون الثَّمل"، واختطفَ بصلةً مشويَّةً يسيل منها المَرق البنِّي من على صحفةٍ قريبةٍ وقضمَ منها لتُصدِر صوت قرمشة.

كان عمُّه نحيلاً حادَّ الملامح، لكن في عينيه الزَّرقاوين المائلتين إلى الرَّمادي كانت هناك دائمًا لمحة من الضَّحك. كان مُتَّشِحًا بالأسود كما يفعل جميع رجال حَرس اللَّيل، وإن كان يرتدي اللَّيلة معطفًا مخمليًّا ثمينًا، مع حذاءٍ جِلديٍّ عالٍ وحزامٍ ذي إبزيم فضِّي، بينما طوَّقت سلسلة فضِّية ثقيلة عُنقه. راقبَ بنچن الذِّئب جوست باستمتاع وهو يلتهم بصلته، وقال معلِّقًا: "ذِئب هادئ للغاية".

قال چون: "إنه ليس مِثل الآخَرين، لا يُصدِر صوتًا أبدًا. لهذا سمَّيته جوست، ولأنه أبيضَ كذلك. الآخَرون كلهم داكِنو اللَّون، إمَّا أسودَ أو رمادي".

قال بنچن ستارك: "ما زالت هناك ذِئاب رهيبة وراء "الجِدار". إننا نسمعها في جولاتنا"، ثم رمقَ چون بنظرةٍ طويلةٍ وسأله: "ألا تأكل مع إخوتك على المائدة عادةً؟" أجابَ چون بلهجةٍ محايدة: "في معظم الأوقات، لكن اللَّيلة كان رأي الليدي ستارك أن جلوس نغل بين أفراد العائلة الملكيَّة قد يكون إهانةً لهم".

- "هكذا إذن". ألقى عمُّه نظرةً من وراء كتفه على المنصَّة المرفوعة في نهاية القاعة البعيدة، ثم قال: "أخي لا يبدو في مزاجٍ احتفالي اللَّيلة".

كان چون قد لاحظَ هذا بالفعل. على النَّغل أن يتعلَّم كيف يُلاحِظ الأشياء، أن يقرأ الحقائق التي يُخفيها النَّاس وراء نظراتهم. كان أبوه يُشرِف بنفسه على كلِّ المجامَلات الضروريَّة، وإن كان يبدو أنه يعاني من ضيقٍ لم يرَه چون فيه من قبل إلا نادرًا. كان قليل الكلام، يتطلَّع إلى أنحاء القاعة بعينين تشوَّشت فيهما الرُّؤية فلا تريان. على بُعد مقعدين كان المَلك يشرب بنهمٍ منذ بداية اللَّيلة، وتورَّد وجهه العريض بشدَّةٍ من وراء لحيته السوداء الضَّخمة. رفعَ أنخابًا كثيرة، وضحكَ بصوتٍ مدوٍّ على كلِّ دعابة، وانقضَّ على كلِّ طبقٍ وُضِعَ أمامه كرجلٍ يتضوَّر جوعًا، بينما إلى جواره جلسَت المَلكة صامتةً باردةً كتمثالٍ من ثلج.

قال چون لعمِّه بصوتٍ هادئٍ خفيض: "المَلكة غاضبة أيضًا. أبي اصطحبَ المَلك إلى السَّراديب اليوم بعد الظُّهر، لكن المَلكة لم تُرِده أن يذهب".

رمقَ بنچن ابن أخيه بنظرةٍ فاحصةٍ طويلة، ثم قال: "أشياءَ قليلة تفوتك، أليس كذلك؟ إننا في حاجةٍ إلى رجالٍ مثلك على "الجِدار"".

شعرَ چون بأنه ينتفخ من فرط الفَخر، وقال: "روب أقوي مني في استخدام الحَربة، لكني أفضل منه في القتال بالسَّيف، وهالن يقول إني أستطيعُ قيادة الخيول كأيِّ رجلٍ في هذه القلعة".

- "إنجازات بارزة. " قال چون باندفاعٍ مفاجئ: "خُذني معك عندما تعود إلى "الجِدار".

سيسمح أبي بأن أذهب إذا سألته أنت، أنا واثقٌ من هذا"

تطلَّع عمُّه بنچن إلى وجهه بإمعان، وقال: ""الجِدار" مكان قاسٍ عليك يا بُني".

قال چون معترضًا: "إنني أكادُ أصبح رجلا بالغًا. سوف أبلغُ الخامسة عشر يوم ميلادي القادِم، كما أن المِايستر لوين يقول إن النَّغل ينضج قبل الأطفال الآخَرين".

مَطَّ بنچن شفتيه وقال: "هذا صحيح"، ورفعَ كوب چون وملأه من إبريقٍ قريب، وأخذَ منه جرعةً طويلة.

قال چون: "دارن تارجاريَن كان في الرابعة عشرة فقط عندما غزا دورن". كان المَلك الملقَّب بالتنِّين الصَّغير واحدًا من أبطاله المفضَّلين.

أشارَ عمُّه بإصبعه قائلا: "الغزوة التي دامَت صيفًا كاملا. مَلكك الصَّبي خسرَ عشرة آلاف رجل لمجرَّد أن يستولي على المكان، ثم خمسين ألفًا في المحاولة للسيطرة عليه. كان يَجدُر بأحدهم أن يقول له إن الحرب ليست لعبةً"، وأخذَ رشفةً أخرى من النبَّيذ وأضافَ وهو يمسح فمه: "كما أن دارن تارجاريَن كان في الثامنة عشر فقط عندما مات، أم أنك نسيت هذا الجزء؟".

قال چون بثقة: "أنا لا أنسى شيئًا". كان النَّبيذ قد مدَّه بالجرأة، وحاولَ أن يجلس مستقيمًا تمامًا كي يجعل نفسه يبدو أطول. "أريدُ أن أخدم في حَرس اللَّيل يا عمَّاه. " لقد فكَّر في الأمر طويلاً وكثيرًا وهو مستلقٍ في الفِراش ليلًا وقد غاب إخوته في النَّوم حوله. روب سوف يَرِثُ وينترفل ذات يومٍ ويقود جيوشًا جرَّارةً بصفته حاكِم الشَّمال... بران وريكون سيكونان من حاملي راية روب، ويَحكُم كلٌّ منهما قلعةً باسمه... أختاه آريا وسانزا تتزوَّجان من وريثين من كُبرى العائلات الأخرى وترحلان إلى الجَنوب حيث تصير كلٌّ منهما سيِّدةً لقلعتها الخاصَّة... أيُّ مكانةٍ إذن يتطلَّع النَّغل إليها؟ - "

أنت لا تعي ما تَطلُبه يا چون. حَرس اللَّيل إخوان تحت القَسم، ليست لدينا عائلات، ولا أحد منا سيُنجِب أبناء أبدًا. زوجتنا هي الواجب، وعشيقتنا هي الشَّرف".

قال چون: "حتى النَّغل يستطيع أن ينال الشَّرف في مكانٍ ما. أنا مستعدٌّ لأن أُقسِم قَسمكم".

قال بنچن: "أنت صبي في الرابعة عشر، ولست رجلا، ليس بعد. لن تستوعب أبدًا ما ستتخلَّى عنه حتى تعرف امرأةً ما".

صاحَ چون بحرارة: "لا أبالي بهذا!"

غمغمَ بنچن برفق: "قد تُبالي إذا عرفت معناه. لو علمت ما سيُكَلِّفك إياه هذا القَسم، فقد تخبو حماستك لدفع الثَّمن يا بُني".

شعرَ چون بالغضب يتمكَّن منه، وهتفَ: "أنا لستُ ابنك!"

نهضَ بنچن ستارك قائلا: "وهذا ما يُرثى له أكثر"، ووضعَ يده على كتف چون مُردِفًا: "كلِّمني عندما تُنجِب بضعة أبناء غير شرعيِّين بنفسك، وسنرى كيف تَشعُر حينها".

ارتجفَ چون وقال ببطء: "لن أنجِب أبناءً غير شرعيِّين أبدًا"، ورمقَ عمَّه مكرِّرًا الكلمة كأنه يَبصُق سُمًّا من فمه: "أبدًا!"

لاحظَ فجأةً أن جميع الجالسين إلى المائدة قد لاذوا بالصَّمت ويُحَدِّقون فيه، وشعرَ بالدُّموع تتجمَّع في عينيه، فدفعَ نفسه ناهضًا من مكانه.

- "أستأذنكم"، قال بما تبقَّى لديه من كرامة، ودارَ على عقبيه واندفعَ مغادرًا قبل أن يروه يبكي. لكن يبدو أنه شربَ نبيذًا أكثر مما حسبَ، فقد اشتبكَت قدماه تحته وهو يُحاوِل الانصراف، وترنَّح جانبًا ليرتطم بواحدةٍ من الخادمات ليَسقُط إبريق النَّبيذ المتبَّل الذي تحمله ويتحطَّم على الأرض. دوَّت الضَّحكات من حوله، وشعرَ چون بالدُّموع السَّاخنة تسيل على وجنتيه. حاولَ أحدهم مساعَدته على الوقوف، لكنه تملَّص منه بعنفٍ وركضَ دون أن يرى تقريبًا نحو الباب، وتحرَّك جوست في أعقابه ليَخرُج معه إلى ظلام اللَّيل.

كانت السَّاحة خالية هادئة، ووقفَ حارس وحيد عاليًا في شُرفة حِصن الجِدار الدَّاخلي، وقد ضَمَّ معطفه حول جسده بإحكامٍ ليتَّقي البَرد. بدا ضَجِرًا بائسًا وهو رابض هناك وحده، لكن چون كان ليتبادل الأماكن معه في غمضة عين. فيما عدا ذلك كانت القلعة مظلمةً مهجورةً. كان چون قد رأى قلعةً مهجورةً ذات مرَّة، مكانًا كئيبًا موحشًا لا يتحرَّك شيء فيه غير الرِّياح ولا تُفصِح فيه الحجارة عن شيءٍ عن كلِّ من عاشوا هناك. اللَّيلة ذكَّرته وينترفل بتلك القلعة.

جاءَت أصوات الموسيقى والأغاني من النَّافذة من ورائه، وكانت آخِر ما يرغب چون في سماعه. مسحَ دموعه بكُمِّ قميصه شاعرًا بالغضب الشَّديد لأنه تركها تَسقُط، واستدارَ ليُغادِر المكان.

- "أيها الصَّبي"، ناداه الصَّوت فالتفتَ چون. كان تيريون لانستر جالسًا على الإفريز فوق باب القاعة الكُبرى، ليبدو كالكراجل 9 من مكانه هذا.

ابتسمَ القزم وهو يَرمُقه من أعلى قائلا: "هذا الحيوان، أهو ذِئب؟".

قال چون: "ذِئب رهيب. اسمه جوست"، ونظرَ إلى الرجل الصَّغير وقد نسي خيبة أمله فجأةً، وسأله: "ماذا تفعل عندك؟ لماذا لست مع الآخَرين في المأدبة؟" أجابَ القزم: "الكثير من الحَر والكثير من الضَّوضاء، كما أني شربتُ الكثير جدًّا من النَّبيذ. لقد تعلَّمتُ منذ زمنٍ طويل أن من الحماقة أن تتقيَّأ على أخيك. هل تسمح أن ألقي نظرةً أقرب على ذِئبك؟" تردَّد چون، ثم هَزَّ رأسه ببطء وقال: "هل تستطيع النُّزول أم أحضِر لك سُلَّمًا؟".

قال الرجل الصَّغير: "لا عليك بهذا السُّخف"، ودفعَ نفسه من مكانه على الإفريز في الهواء المفتوح، فشهقَ چون وشاهدَ بانبهارٍ إذ دارَ تيريون لانستر كالكُرة ثم هبط بخفَّةٍ على يديه، قبل أن يثب إلى الخلف ليستقرَّ على قدميه.

وتراجعَ جوست مبتعدًا عنه بتوتُّر.

نفضَ القزم الغبار عن نفسه وضحكَ قائلا: "أعتقدُ أني أخفتُ ذِئبك. تقبَّل اعتذاري".

قال چون: "إنه ليس خائفًا"، وركعَ ونادى: "جوست، تعالَ، تعالَ هنا، هَلُمَّ".

اقتربَ الذِّئب الصَّغير منه وحَكَّ أنفه بوجه چون، لكنه ظَلَّ يُراقِب تيريون لانستر بعينين حذرتين، وعندما مَدَّ القزم يده ليُداعِبه، تراجعَ وكشفَ عن أنيابه مُطلِقًا زمجرةً صامتة، فقال لانستر: "يبدو أنه خجول، أليس كذلك؟" من كنائس العصور الوُسطى على شكل ميزاب ناتئ.

قال چون آمرًا: "جوست، اجلس. نعم، هكذا، اثبت في مكانك"، ثم رفعَ عينيه إلى القزم وقال: "يُمكنك أن تلمسه الآن. لن يتحرَّك حتى آمره. إنني أدرِّبه منذ فترة".

غمغمَ لانستر: "مفهوم"، وداعبَ الفرو الأبيض كالثَّلج بين أُذني جوست، وقال: "ذِئب لطيف".

قال چون: "لو لم أكن هنا لمزَّق عُنقك". لم يكن هذا صحيحًا بعد في الحقيقة، لكنه سيكون كذلك.

قال القزم: "من الأفضل أن تبقى قريبًا إذن في هذه الحالة"، وحنى رأسه الكبير إلى الجانب ورمقَ چون بعينيه غير المتماثلتين وقال: "أنا تيريون لانستر".

- "أعرفُ"، قالها چون ونهضَ. كان أطول قامةً من القزم وهو واقفٌ على قدميه، ما جعله يَشعُر بشعورٍ غريب.

- "أنت نغل ند ستارك، أليس كذلك؟" شعرَ چون ببرودةٍ تسري في جسده، فضغطَ شفتيه معًا ولم يقل شيئًا.

قال لانستر: "هل ضايقتك؟ معذرةً، لكن ليس من الضروري أن يكون الأقزام لبقين. أجيال من المهرِّجين المتواثبين في ثيابهم متنافرة الألوان منحَتني الحقَّ في أن أرتدي ملابس غير لائقةٍ وأقول أيَّ شيءٍ يَخطُر على بالي"، وابتسمَ مُردِفًا: "لكنك النَّغل رغم كلِّ شيء".

قال چون بجمود: "اللورد إدارد ستارك أبي".

تطلَّع القزم لانستر إلى ملامحه وقال: "نعم، أستطيعُ أن أرى هذا. إن فيك من الشَّمال أكثر من إخوتك".

- "إخوتي غير الأشقَّاء". كان مسرورًا من تعليق القزم الأخير، لكنه أخفى شعوره هذا.

قال لانستر: "دعني أعطيك نصيحةً صغيرةً أيها النَّغل. إياك أن تنسى ماذا تكون أبدًا، لأن العالم بكلِّ تأكيد لن ينسى. اجعل من هذا قوَّتك، فلا يكون نقطة ضعفٍ لك أبدًا. درِّع نفسك بهذه الحقيقة ولن تُستَخدم لأذيَّتك أبدًا".

لم يكن چون في مزاجٍ لأيِّ نصائحٍ من أحد، وقال بحدَّة: "ما الذي تعرفه عن كون أحدهم نغلا؟".

- "كلُّ قزمٍ في العالم نغلٌ في عيني أبيه".

- "لقد ولدتك أمك ابنًا شرعيًّا لعائلة لانستر. " قال القزم بتهكُّم: "أأنا كذلك حقًّا؟ قُل هذا لأبي إذن من فضلك. لقد ماتت أمي وهي تلدني، وهو لم يثق قَطُّ بكوني ابنه".

قال چون: "أنا لا أعرفُ من كانت أمي أصلا".

- "كانت امرأةً ما لا شك. معظمهنَّ كذلك"، ورمقَ چون بابتسامةٍ حزينةٍ وقال: "تذكَّر هذا أيها الصَّبي. قد يكون كلُّ قزم نغلًا، لكن ليس من المحتَّم أن يكون كلُّ نغلٍ قزما".

قالها واستدارَ واتَّجه متهاديًا صوب المأدبة وهو يُصَفِّر لحنًا ما. عندما فتحَ الباب، ألقى الضوء القادم من الدَّاخل ظلَّه عبر السَّاحة، وللحظةٍ عابرةٍ وقفَ تيريون لانستر مديد القامة كمَلك

2019/11/26 · 355 مشاهدة · 2762 كلمة
Adk3RAK
نادي الروايات - 2024