أفقت.

لم يكن هناك صوت.

لم يكن هناك دفء.

ولا حتى ضوء.

فقط… إحساس غامض بأنني ما زلت حيًا.

**

رفعت جسدي ببطء،

كل ذرة فيّ كانت تصرخ،

كأن وزني تضاعف… أو أنني عدت من موتٍ لم أُدفن فيه بعد.

فتحت عيني.

كان هناك شخص…

واقف أمامي.

**

طويل، صامت.

ذو ملامح أرستقراطية من عالمٍ ليس لنا،

بشرته ناصعة،

وشَعره ينحدر بسلاسة على كتفيه كستارٍ من الليل المُضيء.

عيناه… هما ما جمّدني.

**

رينغان. نعم.

لكنها لم تكن كالتي رأيتها من قبل.

دوائر الرينغان الدوّارة…

لكن بلونٍ برتقاليّ متوهّج،

وفي مركز بؤبؤه…

فكّ ذئبٍ مفتوح.

شعرت أن تلك العين لا تراك فقط…

بل تُحللك، تُسجلك، وتقرر إن كنت تستحق البقاء.

**

كنت ما زلت أحاول فهم ما أراه،

حين قال بصوت عميق، خالٍ من الانفعال:

“أنت لم تركع.”

سكت لحظة، ثم أضاف:

“لهذا… نجا جسدك.”

اقترب خطوة واحدة.

شعرت بالأرض تهتز.

“لكن عقلك… لم ينجُ بعد.”

**

وقفت.

ما كنت أراه أمامي…

لم يكن بشريًا، ولا حتى كائنًا عليًّا فحسب.

كان ذئبًا…

بل الناب الأول في الظلال.

اقترب راكسان خطوة أخرى، حتى صار ظلّه يلامس وجهي،

رغم أن الضوء في الغرفة لم يكن واضحًا.

شعرت أنني أنظر إلى مرآة تصرخ بالصمت.

**

همست، وأنا أحاول تمالك أنفاسي:

“أنتم… من أنتم؟

أقصد… أنتم الخمسة.”

**

سكت راكسان.

ثم انحنى قليلًا، لا خضوعًا… بل كمن يُعلن اسمه في ساحة حرب.

قال بصوتٍ مستقرّ، خالٍ من التفاخر:

“نحن أبناء نيمو.”

رفع عينيه نحوي، البرتقاليّ فيهما يتوهج مع كل نبضة.

“راكسان… أنياب الفوضى.”

“سيريكا… قديسة الأفاعي.”

“هيل… خادمة الموت.”

“راكيو… مرآة الأسرار.”

“هوزين… الصدى الأبكم.”

ثم أكمل، كأن هذه الكلمات جزء من طقس مقدّس:

“نحن… ظلّ إرادته.

سيفه في الخفاء.

وإن اقتضى الأمر… نهايته أيضًا.”

**

سكتت الغرفة من حولي.

حتى صدري… نسي أن يتنفس.

هؤلاء ليسوا خدمًا.

ولا ورثةً.

بل… أنظمة موتٍ تمشي على قدمين.

وأنا… كنت وحدي أمامهم.

ساد الصمت بعد كلماته،

كأن كل اسمٍ ذكره… استقر في الهواء كسيف لا يُغمد.

ثم استدار راكسان وقال بهدوء:

“اتبعني.”

لم يكن أمرًا…

لكن جسدي تحرك قبل أن أستوعب.

**

مشيت خلفه عبر ممرٍّ لم أره من قبل.

الجدران سوداء، لكن تُضيء بنقوش حيّة تتحرك كلما مررنا،

الأرضية ناعمة كأنها من زجاج… لكنها تُصدر صدى خطواتي فقط، لا خطواته.

**

وصلنا إلى باب هائل… لا يُشبه أي شيء.

فتحه راكسان بإيماءة واحدة،

ودخل.

تبعته.

**

كانت الغرفة…

فارغة.

لكن الفراغ فيها حيّ .

الجدران تدور كدوامة سماوية بطيئة،

والأفق… لا نهاية له.

نظر إليّ وقال:

“هذه الغرفة لا تقع في زمنك.”

“كل سنة هنا… تمرّ كثلاث في عالمك.”

“لن تشيخ.

لكنك لن تعود كما كنت.”

**

اقترب، ووقف أمامي تمامًا.

“سأكون أول من يدربك من بين الخمسة.”

“المستوى الأول يبدأ الآن.”

“اثبت أنك تستحق الناب.”

**

ثم ساد الصمت.

و بدأ الاختبار.

“النجاة من الموت؟”

كررتُ كلماته وأنا أحدّق به.

“ماذا تقصد بتجنّب الموت مرّة واحدة؟”

لم يجبني.

لم يُمهلني حتى.

**

فجأة…

اختفى صوته.

اختفى صدى الغرفة.

اختفى النور.

ثم… شعرت بها.

برودة لا تنتمي لهذا الوجود.

لم أستطع حتى أن أصرخ.

في أقل من ثانية…

رأيت جسدي يُمزق.

لا من الخارج… بل من الداخل.

**

ثم استيقظت.

شهقت.

نظرت حولي.

الغرفة نفسها.

راكسان أمامي… في نفس المكان، بنفس الوقفة.

كأن شيئًا لم يحدث.

صرخت بلا وعي:

“ ماذا فعلت؟! ”

لكن راكسان لم يتحرك.

فقط قال:

“ماتت إرادتك الأولى.

والآن… النوبة الثانية.”

**

وقبل أن أفهم…

مُت.

**

ومرّة أخرى… استيقظت.

**

وثالثة…

مُت.

**

ورابعة…

ورأيت رأسي يُفصل عن جسدي.

ثم استيقظت.

**

خامسة…

رأيت الأرض تطويني كقبر حي.

سادسة…

أذابتني نيران لا لون لها.

سابعة…

سمعت صوت أمي تبكي.

ثامنة…

كنت أحترق من الداخل، ببطء.

تاسعة…

رأيت جسد يارا بين يدي.

عاشرة…

كنت وحيدًا… مُنهارًا… ثم الظلام.

**

استيقظت.

هذه المرّة… لم أصرخ.

لم أبكِ.

**

فهمت.

ليس المعنى…

بل القاعدة.

“هنا… الموت لا يُحسب.”

“ولا الوقت يتحرك.”

“هذا ليس عالماً… بل فاصل بين اللحظة والأبدية.”

**

رفعت عيني، رأيت راكسان ينظر إليّ.

قلت بصوتٍ خافت…

لكنه كان ثابتًا:

“ فلنكمل. ”

**

بعد الموت العاشر…

لم أعد أخاف.

بعد العشرين…

لم أعد أصرخ.

بعد الأربعين…

بدأت أشك في أني كنت حيًا يومًا.

**

لكنني… حاولت.

**

مرة… فعلت ختم يدي قبل أن يهجم.

مُت.

مرة… استدعيت الشاكرا للرد.

مُت.

مرة… صرخت لأوقفه.

مُت.

**

وفي الخامسة والثلاثين…

قررت أن أنظر مباشرة في عينيه.

لعلي… أفهم.

فعلت.

رأيت شيئًا…

رأيت الذئب.

وفجأة…

مُت.

**

**

في الستين… حاولت المراوغة.

ثم حاولت السقوط المتعمد.

ثم حاولت الانسحاب للخلف.

في الخامسة والتسعين…

حاولت الصمت التام.

مُت.

**

وفي المئة.

رقم بلا قيمة.

مئة موت.

نفس الغرفة.

نفس السكون.

نفس العدو.

ونفس العجز.

**

صرخت دون صوت:

“ ما المطلوب؟ ”

لكن لا شيء في الغرفة رد.

حتى راكسان…

وجهه لم يتغير.

كأنه…

كأنه لم يرَ شيئًا مما حدث.

**

شعرت أنني أنظر إلى حجرٍ يُراقب موتي.

—-

**

لم أعلم كم مر من الوقت.

هل كانت أيامًا؟

سنينًا؟

قرونًا؟

في هذا الفراغ… لا زمن يمشي،

ولا قلب ينبض بشيء سوى النجاة.

**

في البداية… كنت أُقاتل لأثبت نفسي.

ثم لأردّ الضربة.

ثم لأصمد ثانية.

لكن الآن…

لم أعد أعرف من أنا.

**

نسيت اسمي.

نسيت وجهي.

نسيت لمَ أتيت.

**

كل ما أعرفه هو شيء واحد:

“ابقَ حيًا.”

**

هذا كل ما تبقى.

لا كونوها.

لا يارا.

لا شيسوي.

لا أطفال.

لا معنى.

**

حتى الألم…

لم يعد مؤلمًا.

حتى الموت…

صار مجرد عتبة أعبرها.

ثم أعود.

**

أتنفّس لأنني لم أمت بعد.

أتحرك لأن الموت لم يصل بعد.

أحاول…

لأني لا أملك سوى المحاولة.

**

كل ما أنا عليه الآن…

ليس سامرو.

ولا شينوبي.

ولا قاتل إله.

بل…

غريزة.

غريزة واحدة.

عنيدة.

وحيدة.

أن لا أموت.

2025/05/16 · 19 مشاهدة · 902 كلمة
m6
نادي الروايات - 2025