كان الليل قد بدأ يرخي سدوله على المعسكر الأول.
الخيام نُصبت على أطراف السهول المتاخمة لأرض الرياح. الرمال بدأت تتسلل تحت الأقدام، كأنها ترحب بالغزاة على طريقتها الخاصة.
أصوات الجنود كانت منخفضة. الهمسات أكثر من الكلمات، والسكون يُخيّم على المكان. رائحة الخشب المحترق امتزجت برائحة القماش والعرق… ورائحة الخوف الذي يحاول الجميع إخفاءه.
جلستُ على صخرة صغيرة، أراقب اللهب الصغير أمامي وهو يتراقص مع نسيم المساء.
في الأفق، كانت التلال الرملية تبدو مثل أمواج مجمدة تخفي خلفها مصيراً لا يعلمه إلا الله.
هذه هي اللحظة التي يتوقف فيها الزمن.
قبل أن تتكلم السيوف، تصمت القلوب.
خلفي، كان الجنود يتحركون كالنمل، كلٌّ يؤدي مهمته.
فتيان وفتيات لم يتجاوز بعضهم السابعة عشرة، يحملون على أكتافهم أعلام كونوها، وعلى ظهورهم حقائب ممتلئة بالشرائط المتفجرة واللفائف الطبية.
بعضهم جالسين قرب النيران يتبادلون القصص بهمس.
آخرون يصلحون أسلحتهم بصمت.
وآخرون… يكتبون الرسائل الأخيرة التي قد لا تصل أبداً.
دخلتُ مركز القيادة. كان ساكامو واقفاً أمام الطاولة الكبيرة المفروشة بالخريطة.
إلى يمينه جلس إيزونها أوتشيها، شيخ عشيرة الأوتشيها، ملامحه صارمة وعيناه لا تغفلان عن الخريطة.
إلى يساره جلس شينتارو نارا، شيخ النارا، بعينيه نصف المغمضتين كعادته، كأنه يرى المستقبل قبل أن يحدث.
تسونادي وقفت بذراعيها المعقودتين، نظرة القائد الطبي الذي يعرف أن كل قرار عسكري يعني حياة أو موتاً للمئات.
أما أنا… فوقفتُ بجانب الحائط بصمت.
لم يكن مكاني على الطاولة، ولم يكن دوري أن أنطق.
أنا هنا مثل الظل… لا أحد يستشيره في العلن، لكن الكل يراقب ردود أفعاله في الخفاء.
قال ساكامو وهو يشير إلى الخريطة:
“الاستطلاع يؤكد أن قوات الرمال تتحرك قرب وادي الرياح الجنوبي. يبدو أنهم يستعدون لهجوم مباغت.”
قال إيزونها بصوته العميق:
“الساند سيحاولون جرنا إلى معركة مفتوحة في ساحة يعرفونها.”
أضاف شينتارو:
“أو سيجعلوننا نلاحق السراب قبل أن يقودونا إلى كمائنهم. الرمال تخفي أكثر مما تظهر.”
قالت تسونادي:
“أي تأخير سيزيد من صعوبة دعمنا الطبي. إذا حوصرنا بعيداً عن نقاط الإمداد، ستصبح خسائرنا فادحة.”
ساكامو أومأ ببطء:
“الخطة كما حددناها. فرق الطلائع تتحرك فجراً للاستطلاع والدفاع المتقدم. القوات الرئيسية تستعد للزحف نحو وادي الرياح الجنوبي. الدعم الطبي يبقى قريباً من الخط الخلفي، لكن بفرق صغيرة ترافق المقدمة.”
رفع بصره إلى مستشاريه فقط:
“أي اعتراض؟”
أومأ الجميع بالموافقة.
وأنا بقيت صامتاً. لم يُطلب رأيي، ولم أتوقع أن يُطلب.
هذه هي طبيعة الحرب.
لكن شيئاً ما لم يكن مريحاً.
بينما ركز الجميع على تحركات الرمال التي نقلتها فرق الاستطلاع، لاحظتُ ما لم يروه.
الخريطة كانت واضحة… أكثر من اللازم.
تحركات العدو تبدو تقليدية، مكشوفة، وكأن الرمال قررت فجأة أن تكون صادقة مع أعدائها.
“الساند لا يكشف أوراقه بهذه السهولة. هذا ليس أسلوبهم.”
حدسي بدأ يهمس في أذني.
هناك حركة لم تُحسب. خطة لا تزال مخفية.
كان في رأسي شعور غامض… مثل رائحة عاصفة تسبق المطر.
خرجتُ من الخيمة متجهاً إلى أطراف المعسكر.
هناك، كان فوجاكو يجلس قرب نار صغيرة، يحدق في اللهب بصمت.
“ليلة ثقيلة، أليس كذلك؟” قلتُ له.
أومأ دون أن ينظر إليّ.
“هذه أول حرب حقيقية لي. أعترف… لم أتوقع أن تكون الرمال ثقيلة هكذا.”
جلستُ بجانبه.
“الوزن الحقيقي ليس وزن الرمال يا فوجاكو. إنه وزن القرارات.”
نظر إليّ هذه المرة.
“أتعني أن كل خطوة الآن يمكن أن تقودنا للنصر… أو للهلاك؟”
أومأت.
“تماماً. الساحة لا تقتل. القرارات تفعل.”
ابتسم بخفة، لكني رأيت في عينيه ذلك البريق الذي يميز أولئك الذين سيصبحون قادة يوماً ما.
“إيزونها جلبه هنا ليتعلم. وهو يتعلم.”
في المساء، قبل الفجر بساعات، لاحظتُ حركة غريبة عند خط الأفق.
ظلال تتحرك بين الكثبان الرملية. ليست بحجم جيش، لكنها ليست قلة أيضاً.
استدعيتُ ضابط الحراسة.
“هل رصدتَ تحركات غير معتادة الليلة؟”
هز رأسه. “لا سيدي. كل شيء هادئ.”
لكني لم أقتنع.
“هدوء الرمال خدعة.”
مع اقتراب الفجر، دوى صوت البوق.
جنود الطلائع تجمعوا بسرعة. أمسكتُ سيفي، وضعتُ القناع فوق وجهي.
“الآن يبدأ العمل الحقيقي.”
قبل أن أخطو إلى خارج الخيمة، جاء ضابط الاستطلاع يركض، وجهه شاحب.
“سيدي! قوات الرمال تحركت بسرعة غير متوقعة. فرقة حرس السهول الأولى تعرضت لهجوم مباغت!”
ارتفع صوت الطبول في المعسكر.
صوت القائد ينادي:
“إلى مواقعكم! المعركة بدأت!”
وقفتُ. قلبتُ سيفي بين يدي.
“إذاً، الساند لم ينتظروا أن نأتي إليهم. قرروا إحضار الحرب إلينا. الخطر الذي شعرتُ به لم يكن وهماً.”
استدرتُ إلى فوجاكو الذي كان يقف بالفعل، عينيه مشتعلة بالعزيمة.
“جاهز؟”
قال بصوت ثابت:
“دائماً.”
نظرتُ إلى الأفق حيث بدأت الرمال تتحرك مثل موجة صامتة.
“لنخترق الرمال.”