هاطلٌ هو المطر فوق أرض كونوها، كأن السماء تسكب غضبها ببطء، تدقّ بأنامل باردة فوق أسطح البيوت العتيقة، وتشبع التربة العطشى التي امتلأت برائحة التراب والمطر المختلط. كانت الغيوم الرمادية تتدحرج فوق رؤوسهم، تخفي الشمس، وتترك القرية غارقة في عتمة صامتة كأنها تُنذر بشيء آتٍ لا محالة.
في الركن البعيد من أراضي عشيرة الهاتاكي، حيث الأشجار تنحني تحت ثقل المياه، كان فتى في الثالثة عشرة من عمره يقف وسط ساحة تدريب موحلة. أطراف أصابعه مشدودة على مقبض سيف خشبي متشقق، يتصبب المطر على شعره الفضي القصير، يخط طريقه إلى عينيه الرماديتين الباردتين.
هاتاكي سامورو.
ضرب الجذع المهترئ أمامه بضربة جانبية، لكن السيف انزلق مع رطوبة الخشب، وفشل الصوت الذي كان ينتظره في الارتداد. أطلق تنهيدة خافتة، وتراجع خطوة، ساقاه تغوصان في الوحل الرخو تحت قدميه.
صوت خفيف قطع خلوته، وقع خطوات هادئة، وابتسامة مألوفة تسبقها.
“لو جمعتَ ريوًا واحدًا عن كل ضربة فاشلة، لصار لدينا نصف تمويل القرية.”
تلك النبرة الساخرة لم تكن لغيره. التفت سامورو، دون استعجال، فرأى ظلًا طويلًا بشعر فضي أطول من شعره، وسيف حاد مثبت على ظهره.
هاتاكي ساكامو.
أخوه الأكبر.
مثله الأعلى… وغريمه اللدود في كل شيء.
“أهلاً، ني-سان…” قال سامورو مبتسمًا بسخرية، وهو يرفع سيفه ثانية، “جئت تنتقد أم تعلّق؟”
ساكامو اقترب بخطى ثابتة، راقب الجذع المتشقق وقال دون أن ينظر إلى أخيه: “كلاهما. أنت تحتاج للاثنين بوضوح.”
رفع سامورو السيف، استدار بخفة، وأطلق ضربة مائلة أخرى، أصابت الجذع، لكنها انزلقت مع رطوبة الخشب.
“تسرعت.” قال ساكامو بنبرة محايدة.
“لو كنت خصمًا حقيقياً، لأسقطته قبل أن يصحو.” قال سامورو بتأفف.
“ولو كان خصمك خصماً حقيقياً، لما أمهلك أصلاً.” رد ساكامو وهو يعقد ذراعيه.
جلس ساكامو على جذع قريب، مستندًا بظهره إلى الشجرة.
“ماذا حدث لحديثك القديم عن الرؤية فيما وراء الضربة؟”
تجمدت يد سامورو للحظة.
ذاكرة قديمة لوجهٍ غامض، وصوت خافت، كان يهمس له:
لا تضرب الجسد… اضرب الشعور قبل أن يتحرك.
طرد الذكرى من عقله بسرعة.
“مجرد كلام قديم… لم يعد يصلح اليوم.” قال سامورو بلا اهتمام.
“بعض الكلمات لا تصدأ.” رد ساكامو بلهجة جادة، ثم أضاف وهو يغلق عينيه: “كل خطوة تخطوها نحو القوة… لا تعني أنك نسيت من علمك كيف تخطو.”
صمت ثقيل غلف المكان، المطر يتزايد فوق رؤوسهم.
أدار سامورو وجهه قليلاً ليخفي نظرة ثقيلة غزت ملامحه.
“أحياناً… أتمنى لو لم أسمعها أبداً.” همس بالكلمات.
نهض ساكامو، اقترب ووضع يده الثقيلة على رأس أخيه، يبعثر شعره المبلل بالمطر.
“الأمنيات الساذجة لا تليق بمن يحمل سيفًا. إن كنت ستسير في هذا الطريق… فتعلم أن تحمل الذكرى كدرع، لا كحِمل.”
ابتسم سامورو ابتسامة مشوهة، مزيج من السخرية والألم.
“كأنك تجعل الحياة تبدو سهلة، ني-سان.”
“ليست سهلة… لكنها أوضح مما تظن.”
وعندما همّ أن يتابع، ظهرت ظل أنثوي يقترب بخطوات خفيفة من حافة الساحة.
ميو هاتاكي، زوجة ساكامو.
كانت ترتدي عباءة خفيفة بيضاء رغم المطر، شعرها البني القصير يلتصق بوجهها، لكنها تسير بثبات.
“تعذب الصغير مجددًا تحت المطر، ساكامو؟” سألت بابتسامة دافئة.
“هو من يعذب نفسه. أنا مجرد متفرج مأجور.” أجاب ساكامو وهو يتراجع خطوة.
ميو ركعت قرب سامورو، ومدت له منشفة بيضاء كانت تخبئها تحت عباءتها.
“يكفي لهذا اليوم، يا سامورو. لا حاجة أن تذيب نفسك قبل أن تذيب الحرب أحلامنا.”
تردد سامورو، ثم أخذ المنشفة ومسح بها وجهه.
من خلف الأشجار، اندفع كلب أبيض ضخم، كين، بتلك العيون الرمادية التي تشبه عيون سامورو، ووقف إلى جانبه، يهز ذيله بلطف.
سامورو ربّت على رأس كين، وهمس له: “أنت الوحيد الذي لا ينتقدني.”
ضحكت ميو، ثم سألت وهي تساعده على حمل معداته:
“وماذا عن كوشينا ويارا؟ ألم يكن من المفترض أن تتدرب معهم اليوم؟”
“كوشينا مشغولة بتحطيم الأشياء، ويارا مشغولة بتحطيم نفسي.” قالها ساخراً.
“وهل ترى نفسك تستعد جيدًا لما هو قادم؟” سألت ميو بنبرة أمومية لطيفة.
سامورو ألقى نظرة فارغة إلى السماء الرمادية.
“أستعد… للنوم جيدًا قبل أن تستيقظ الحرب.”
ضحك ساكامو بخفة، فيما كين ركض أمامهم نحو البيت الخشبي المضاء بحرارة المدفأة.
داخل المنزل، جلست ميو على الطاولة الصغيرة، تعد الطعام، بينما جلس سامورو قرب المدفأة مع ساكامو.
المطر مستمر بالخارج، لكن في الداخل، كان الدفء يسود المكان.
“لا وقت للمزاح، سامورو.” قال ساكامو وهو يتأمل أخاه.
“من قال أني أمزح؟” رد سامورو بابتسامة ميتة.
ميو وضعت الحساء أمامهم بهدوء.
“كوشينا كانت تبحث عنك اليوم، على فكرة.” قالت.
“أوه، رائعة… سأجهز خوذة حماية أولاً.” علق سامورو.
ثم أكملت ميو:
“ويارا؟ لم نرها منذ مدة.”
“يارا…” تمتم سامورو.
لحظة قصيرة من السكون سقطت.
“مشغولة بالتدريب. هي لا تعرف معنى الراحة.”
ميو اكتفت بالنظر إليه بعينين مليئتين بالشفقة الصامتة.
ساكامو ألقى نظرة خفيفة على أخيه الأصغر.
ورأى خلف ابتسامته المعلقة، كل تلك الكآبة المختبئة.
أنهوا عشاءهم بهدوء، ثم نهض سامورو، وارتدى عباءته مجددًا.
“إلى أين؟” سألته ميو.
“تحت المطر.” رد ببساطة.
ساكامو استدار نحو النافذة، يراقبه وهو يخرج مع كين خلفه، تحت المطر المتساقط.
“يبتسم كثيرًا…” قالت ميو.
“لأنه لو لم يفعل… لانكسر.” أجاب ساكامو.
وفي الخارج، تحت أمطار لم تهدأ، كانت خطى سامورو تمضي بثبات… نحو قدر لا يرحم.