هاطلٌ المطر هذه الليلة، ثقيلٌ على جلدي، أثقل على صدري.
أسير وسط الغابة المعتمة، حيث لا طريق ولا نار ولا بشر. هذا جيد.
لا أريد أن يراني أحد.
لا أريد أن يرى أحد الوجه الذي أدفنه كل يوم خلف ابتسامة بلهاء وضحكة فارغة.
سيفي الخشبي يتأرجح خلف ظهري، يضرب خاصرتي مع كل خطوة.
صوت أنفاسي يعلو في أذني رغم المطر، كأنني مكشوف أمام كل الأرواح التي قضيتها سدىً.
وصلت إلى البقعة التي اخترتها.
مكان يعرفه المطر جيداً… ووحدتي تعرفه أفضل.
ركعت، وضعت كفي على الأرض المبتلة.
أغمضت عيني.
“لا تضرب الجسد… اضرب الشعور قبل أن يولد.”
ذلك الصوت… الخافت الذي يلاحقني حتى هنا.
أسمع كلماته كأنها وُشمت داخل عظامي.
لا صوتٌ صاخب… لا صراخ… فقط همس، يعرف كيف يحفر داخلك دون أن تطلبه.
وقفت.
سحبت سيفي ببطء، أشعر بخشونته في يدي.
ليست المثالية التي كنت أحلم بها، لكنه يكفي لليلة كهذه.
خطوة إلى الأمام.
أدوّر جسدي في نصف قوس.
أضرب.
لا شيء.
ضربة فارغة.
كأن الهواء يسخر مني.
تنفست ببطء.
أحاول من جديد.
خطوة. استدارة. ضربة.
الصمت.
أغلقت قبضتي على مقبض السيف حتى اشتكت مفاصلي.
أريد أن أقطع شيئًا… أي شيء.
لكن لا شيء يُقطع سوى أوهامي.
“افهم ما لا يُرى…”
مرة أخرى، ذلك الصوت.
تقدم المطر فوق وجهي، أشعر بالبرد ينساب إلى عظامي.
دع البرد يكسرني إن استطاع.
أنزلت السيف أمامي، ركّزت شاكراي في راحتي.
حركة بسيطة. تمرين حفظته منذ أعوام.
أحاول أن أجمع البرق.
أحاول أن أجمع شيئًا يستحق أن يُسمى قوة.
طرف أصابعي يومض.
ضوء خافت، أرجواني.
ابتسمت بسخرية.
ليس برقًا… بل ارتعاش طفل خائف.
شدّدت قبضتي.
استدعيت الذكريات القديمة.
صرخات لم أسمعها إلا داخلي.
وجوه أبت أن تثبت، تتلاشى قبل أن ألمسها.
لا أحتاج إلى صور.
لا أحتاج إلى كلمات.
أحتاج إلى الألم.
استللت الألم من صدري، أجبرت البرق أن يسمع نبضي.
تراقصت خيوط أرجوانية فوق جلدي، ترتجفت، احترقت ثم تلاشت.
“أنت أضعف من ذلك…”
صوت آخر من ذاكرتي القديمة.
أغضبتني الحقيقة التي يحملها صوته.
اندفعت بسيفي، ضربت الهواء أمامي، صنعت قوسًا كهربائيًا باهتًا تلاشى قبل أن يُلامس الأرض.
سقطت على ركبتي.
تنفست بقوة.
يدي ارتجفت.
كم مرة فعلت هذا؟
كم مرة وعدت نفسي أن المرة القادمة ستكون مختلفة؟
حدقت في كفي…
البرق لم يستجب لي.
ولا روحي استجابت لي.
ضحكت ضحكة قصيرة، مرة، متعبة.
“مضحك، أليس كذلك؟”
همست لنفسي وأنا أتنفس المطر.
صوت خافت خلف الأشجار.
تجمدت.
رفعت رأسي ببطء.
رأيت ظلًا بين الأغصان.
صامت. جامد.
يارا.
لم أحتج إلى رؤيتها بوضوح.
لا أحد سواها يتقن الوقوف بتلك الصرامة.
ابتسمت رغم كل شيء.
طبعاً، يجب أن تكون هي.
خفضت رأسي، أكملت استنشاق الهواء كأنني لم أرها.
كانت تراقبني.
وأنا… سمحت لها.
للمرة الأولى، ربما أريد أن يراني أحدهم.
لكن فقط… على طريقتي.
نهضت، سحبت سيفي مرة أخرى.
أرخت عضلاتي، كأنني لم أتعب لتوي.
“أعطني ليلة إضافية يا مطر…”
همست للمطر، كأنه يسمعني.
تحركت.
خطوة.
استدارة.
ضربة.
هذه المرة، لم أبحث عن الجذع.
ولا عن النصر.
بحثت عن نفسي.
البرق عاد، هذه المرة لم يتراقص وحيداً.
انساب فوق شفرة السيف، مرتجفًا بلون أرجواني خافت.
نقطة صغيرة.
شرارة في قلب العاصفة.
تخيلته.
خصمي.
لا شكل له. لا اسم.
هو ضعفي.
هو ماضيّ.
هو كل الوجوه التي نسيتها.
ضربته دون رحمة.
السيف قطع الهواء، والبرق همس.
لا صراخ.
لا ضجيج.
إنه البرق الذي لا يريد أن يسمعه أحد.
إنه أنا.
توقفت.
تنفست.
خفضت السيف ببطء.
رفعت رأسي نحو الظلال حيث تقف يارا.
علمت أنها رأت كل شيء.
ولأول مرة… لم أهتم.
دعها ترى.
دعها ترى الرجل الذي يدفن نفسه تحت الضحك.
دعها ترى الهشاشة التي أخفيها خلف ابتسامة متعبة.
ودعها تحتفظ بالصمت… كما أفعل أنا.
خطوة خفيفة على الوحل بلّغتني أنها قررت أن تُعلن عن وجودها.
وقفت، ثابتة، لا تقترب أكثر مما يجب.
مظلة صمت كانت تفصل بيننا، مبللة بالمطر وبشيء آخر لا اسم له.
رفعت نظري نحوها بكسل مصطنع، سيفي لا يزال مرتخيًا بيدي.
“أوه، يارا-تشان.”
قلت، ونبرة التهكم تسيل من لساني.
“إن كنتِ هنا لتحكمي على عرضي المتواضع، فاعلمي أنني لم أصل للفقرة المثيرة بعد.”
لم تبتسم.
لم تتحرك حتى.
كانت نظرتها ثابتة علي، كأنها تنظر من خلالي، إلى شيء لا أراه.
صمتها أثقل من المطر.
رفعت حاجبي باستخفاف، سحبت سيفي إلى غمده بتكاسل متعمد، ورجعت خطوة للوراء.
“لا تخبريني… أتيتِ لتنقذيني من نفسي؟ دراما ليلية لطيفة، لكنها مكررة.”
ظلت صامتة.
نظرت بعيدًا، إلى الظلال السوداء الممتدة خلفي، ثم عادت بعينيها إلي.
وأخيرًا، تحدثت:
“لماذا… تتظاهر دائماً، سامورو؟”
ابتسمت، لكنها كانت ابتسامة خاوية، كالعادة.
“أليس من الجميل أن نترك للناس شيئًا من الغموض؟”
رفعت ذراعي وكأنني ألقي محاضرة.
“أحيانًا… القناع أفضل من الحقيقة.”
اقتربت خطوة، حذرة كأنها تقترب من حيوان جريح.
“القناع… ينهار دائماً.” قالت.
ضحكت، ضحكة قصيرة، بلا طعم.
“لهذا أحمل أكثر من قناع.”
تقدمت أكثر، حتى صار بيننا بضع خطوات فقط.
رائحة المطر العالق بثوبها ضربت أنفي، كانت رائحة الأرض… ورائحة العناد.
“رأيتك، سامورو.”
قالتها بهدوء.
صوتها لم يكن فيه شماتة، ولا شفقة.
فقط حقيقة عارية.
خفضت رأسي قليلاً، شعرت أن أطراف أصابعي ترتجف.
لم أرِد أن يراني أحد هكذا.
خاصةً… ليس هي.
رفعت عيني إليها، أجبرت نفسي على الضحك مجددًا.
“وماذا رأيتِ؟ فتى مبللًا غارقًا في محاولات فاشلة لاستحضار برق رخيص؟”
لوّحت بيدي مستهزئًا.
لم تبتسم.
لم ترد.
سكونها كان الجواب.
أطرقت رأسي.
لا أريد أن ترى أكثر.
“عودي إلى البيت، يارا.” قلت، ونبرتي لأول مرة فقدت سخريتها.
سمعت صوت خطواتها فوق الوحل، تقترب أكثر.
لعنت قلبي السخيف الذي بدأ ينبض أسرع.
لا يجب أن يراها تقترب.
لا يجب أن يأمل.
“لا يمكنك أن تخفي نفسك إلى الأبد.” قالت.
تجمدت مكاني.
يدي قبضت على السيف بضعف.
يارا وقفت بجانبي الآن، تفصل بيننا مسافة خطوة، مسافة حلم ممنوع.
بصوت أكثر نعومة، سألت:
“أهذه… هي التقنية التي كنت تتحدث عنها دائماً؟ سيف الوهم؟”
هززت كتفي بلا اهتمام مصطنع.
“محاولة فاشلة لتقليد العظماء.”
رمقتني بنظرة طويلة، ثم قالت:
“ستنجح.”
همست بعدها بصوت خافت، أقرب للرياح الباردة:
“ولم يكن موت خالي… ذنبك.”
صمت.
كأن الزمن توقف للحظة.
الرياح خفّت، المطر أصبح همسًا بعيدًا، وأنا… كنت عاجزًا عن الكلام.
لم أرفع رأسي.
لم أحرك شفتيّ.
الصمت كان جوابي الوحيد.
كانت كلمتها سكيناً صامتةً غرزت بهدوء في عمق صدري، دون أن تترك دماً… فقط وجعاً لا يُقال.
لم تنتظر مني رداً.
استدارت بهدوء، وقبل أن تبتعد كلياً، توقفت لوهلة، استدارت برأسها قليلاً، وهمست:
“كان رجلاً عظيماً… وترك أثراً عظيماً.”
ثم مضت.
وتركتني وحدي.
مع المطر.
مع البرق الذي لا يسمعه أحد.
ومع صمتٍ لم أعد قادراً على كسره.
⸻