كنا نقترب من الضريح…
والهواء تغيّر.
رائحة الأرض لم تعد ترابية فقط،
بل صار فيها شيء قديم…
كأن التراب نفسه يهمس.
مشيت خلفه.
سامورو.
كل خطوة يخطوها تُحدث صوتًا خافتًا على الحصى الجاف،
وكل نَفَس يخرجه من صدره…
كنت أتابعه بعناية،
كما لو أن إيقاع أنفاسه هو دليلي الوحيد في هذا الظلام المتوهج.
كان يمشي أمامي بخطوات ثابتة،
جسده الطويل يسبقني بظلٍ نحيل،
شعره الفضي يتحرك بخفة مع كل هبة ريح.
عينه الوحيدة… تلك التي استعادت البصر،
تُحدق في الجدران،
كأنها تقرأ شيئًا لا أراه بعد.
أما الجرح حول عينه…
فهو لم يلتئم تمامًا.
كان يشقّ الجلد تحتها حتى عظم الحاجب،
يجعل وجهه أكثر قسوة… وأكثر صدقًا.
حول رقبته… أثر جرح قديم،
ليس سطحيًا،
بل كأنه طُعن هناك… من زمنٍ بعيد.
ومع ذلك، لا يتلكأ.
لا يلتفت.
فقط يمشي…
كأن الماضي كله يمشي معه.
**
وصلنا إلى مدخل الضريح.
فتحهُ كان نصف دائري،
والأحجار التي تُكوّنه محفورة بنقوش لا تشبه أي شيء رأيته في حياتي.
عندما دخلنا…
لم يتغير الضوء.
بل ازدادت العتمة جمالًا.
الجدران من الداخل كانت ملساء، سوداء كلون الحبر،
لكنّها تعكس القليل من ضوء الشعلة التي أشعلها سامورو بهدوء.
رائحة الحجر القديم… ثقيلة.
والصمت… لا يشبه الصمت.
وكأن شيئًا هنا… لا يريدنا أن نُزعجه.
أوقفني سامورو بإشارة بسيطة من يده.
كان واقفًا أمام جدار حجري ضخم،
أوسع من أي نقش في معبد هاغورومو.
تقدّمت بخطوات بطيئة،
ثم… رأيتها.
الرسم.
امرأة ترتدي رداءً أبيض واسعًا ، يتدلّى حولها مثل عباءة من الضوء،
وجهها منحوت بنعومة، لكنه لا يحمل ملامح بشرية تمامًا.
في عينيها… بيّاكوجان ناصع،
وفي جبهتها… عين ثالثة .
ليست شارينغان عادية.
بل دائرية،
وتدور فيها أكثر من ثلاث توموي.
تسعة… أو أكثر.
تبدو وكأنها تتحرك، حتى وهي حجر.
الجمود في وجهها… لا يُشبه السكون.
بل يُشبه الانتظار.
وبجانبها…
صبيان.
أحدهما يحمل الشارينغان ثلاثية التوموي.
والآخر يحمل البيّاكوجان.
كأنّ الرسم أراد أن يقول شيئًا لا يُقال بالكلمات.
شعرت بشيء يثقل في صدري.
لم يعد بإمكاني التنفس بنفس الهدوء.
نظرت إلى سامورو…
كان واقفًا هناك، لم يتحرك.
لكن تنفّسه… تغيّر.
صار أعمق… أبطأ.
وشعرت، للحظة،
أن هذا المكان لا يُريدنا أن نخرج منه بذات الهيئة التي دخلنا بها.
همستُ:
“من هذه…؟”
لكني لم أُكمل السؤال.
لأنني…
عرفت الجواب.
وشعرت بالخوف.
ليس من الرسم…
بل مما قد يعنيه.
⸻
كنا ما نزال داخل الضريح،
والهواء صار أكثر ثُقلاً…
كأن المكان يتحسس وجودنا،
ولا يقرر بعد إن كان سيرحب بنا… أم يرفضنا.
تابعنا التقدم في الممر الحجري،
وخطوات سامورو كانت لا تزال تسير أمامي بنفس الثبات.
لكني كنت أراقب.
تنفّسه… أصبح أكثر عمقًا.
يده اليمنى، تلك التي تحمل شعلة الضوء… كانت ترتجف قليلًا.
ثم… توقف فجأة.
نظرتُ حولي،
فرأيت جدارًا حجريًا آخر،
لكن هذه المرة، عليه نقش مختلف.
عشرة أشخاص.
يقفون في دائرة غريبة،
كل واحد منهم يرتدي رداءً أبيضًا ناصعًا ،
لكن ملامحهم… ممزقة.
وجوههم محيت من النقش،
كما لو أن أحدًا قرر أن لا يُعرفوا أبدًا.
لكل منهم قرنان منحنيان على جبينه،
وتوموي غريبة الشكل محفورة على أجزاء من أجسادهم:
في اليد، في الكتف، في الصدر.
لكنّ كل شيء كان ساكنًا…
باستثناء الكلمات المنحوتة تحتهم.
نظرت إليها،
وفعّلت شارينغاني.
لكن حتى الشارينغان لم تُظهر لي إلا سطرًا مشوّهًا…
كل كلمة فيه تالفة، عدا واحدة.
كلمة واحدة.
“استعد.”
همستُ:
“استعد؟… لما؟”
وفجأة…
رأيت سامورو يرفع يده إلى عينه.
وتوهّجت.
المانجيكيو.
بدأت تدور…
وبدأ هو يرتجف.
“سامورو؟”
ناديت، واقتربت.
“ماذا تقرأ؟”
لكنه لم يرد.
وجهه كان مشدودًا، أنفاسه تتسارع.
كأن الجدار يتكلّم معه وحده.
“من هم هؤلاء؟”
قلت، رغم أنني كنت أعرف الجواب.
لقد أخبرني من قبل…
عن الأوتسوتسوكي.
لكن شيئًا في وجهه قال إن ما يقرأه الآن
ليس مما أخبرني به من قبل.
ثم…
كل شيء توقف.
قطرة ماء… كانت تسقط من سقف الكهف.
لكنها توقفت… في منتصف الهواء.
صوت الريح… خفت حتى تلاشى.
حتى قلبي… شعرت وكأنه يُبطئ.
“ما الذي يحدث؟”
همست.
“هل توقّف الزمن؟
أم دخلنا بُعدًا آخر؟”
لم يكن هذا جينجتسو…
ولا وهمًا.
كان الأمر حقيقيًا لدرجة مخيفة.
ثم…
سقط سامورو.
كجسد فقد روحه.
تهويت نحوه،
ووصلت إليه قبل أن يلمس الأرض.
“سامورو!”
ناديت، ووضعت رأسي فوق صدره.
كان قلبه ينبض…
ببطء… لكن بثبات.
“استيقظ… أرجوك.”
مرّت لحظات…
ثم فجأة، عينه ارتجفت.
تحوّلت من السواد… إلى الشارينغان.
ثم إلى المانجيكيو…
لكنّ نظرته لم تكن كما كانت.
كأنّه رأى شيئًا لا يجب أن يُقال.
همستُ:
“ما الذي حدث؟
ما الذي رأيته؟”
لكنّه، بصوته المعتاد،
قام على ركبتيه وقال:
“فلنكمل…
هناك مكان آخر سنذهب إليه.”
وقفت أمامه، أمسكت ذراعه:
“ما هو المكان؟
ماذا حصل لك؟
وماذا قرأت؟”
لم ينظر إليّ مباشرة.
فقط قال:
“سأخبرك… بعد أن نخرج من هنا.”
⸻
كان الضريح أهدأ من المعتاد.
كأن الأحجار نفسها توقفت عن التنفّس.
كان سامورو يسير أمامي…
صامتًا، شاردًا، لكن حادًا في حركته كأن ذاكرته تقوده.
كان يمرر يده على الجدران ببطء، كأنه يبحث عن نبض قديم لا يسمعه سواهما.
ثم، توقف أمام جدار خالٍ، لا نقش فيه ولا رمز،
وضع كفّه عليه،
فارتج الجدار…
وانشقّ بخط لا يُرى، إلا بعين من عرف ما يبحث عنه.
كنت خلفه مباشرة حين همس، بصوته العميق الهادئ:
“يارا… أمسكي يدي.”
نظرت إلى ظهره أولًا.
ثم إلى يده التي امتدت إليّ دون أن يلتفت.
ترددت لحظة.
ثم تقدّمت، ووضعت كفي في كفّه.
يده كانت خشنة…
دافئة بشكل غريب،
كأنها ذُقت فيها الحرب… والطمأنينة.
وفي اللحظة التي تلامسنا فيها…
شعرت بقوة خفية تشدّني،
كأن الأرض اختفت من تحت قدمي.
قبض على يدي بقوة أكبر.
كأنه يخبرني: “لا تتركي.”
ثم فجأة…
انفصلنا.
لا أعني انفصال الأجساد…
بل الانفصال عن العالم.
**
كان أول ما لاحظته…
أن الضوء اختفى.
ثم تبعه الصوت.
ثم الشعور.
لا ريح،
لا جدران،
لا صدى.
ولا حتى شعور بثقل جسدي.
أنا… موجودة فقط كفكرة.
حاولت أن أتكلم:
“سامورو؟”
لكن صوتي لم يتحرك.
فمي لم يتحرك.
لم يكن هناك “فم” لأحرّكه.
الظلام لم يكن مجرد ظلمة.
بل وجود أسود ،
كأنه محيط بلا قرار،
يبتلع المعاني قبل أن تُولد.
سرت.
أو ربما ظننت أنني أسير.
لا أعلم كم من الوقت مضى.
يوم؟
أسبوع؟
عمرٌ كامل؟
كل ما كنت أملكه هو فكرة:
“تابعي السير.
تابعي السير.
تابعي… السير.”
لا أسمع قلبي.
ولا أذكر شكلي.
لكنني شعرت بالوحدة تقرضني شيئًا فشيئًا.
بدأت أفقد صور الأشياء من رأسي.
مَن أنا؟
لماذا أمشي؟
هل كنتُ أتبع أحدًا؟
ثم فجأة…
ظهر الضوء.
نقطة صغيرة…
لا تُشبه أي شيء رأيته في حياتي.
كانت بعيدة…
لكنها تناديني دون صوت.
ركضت نحوها.
كل ما تبقّى مني ركض.
وكلما اقتربت…
شعرت بدفء خافت يحيطني،
كأن الضوء يهمس لي:
“اقتربتِ… لا تخافي.”
وحين لامست ذلك الضوء…
**
استيقظت.
كانت ذراعي ملفوفة بشيء…
دافئ.
كان يحملني.
ذراع قوية تحت ركبتي،
وذراع أخرى تسند ظهري وكتفي.
فتحت عينيّ ببطء،
ورأيت وجهه.
سامورو.
عينه الوحيدة تحدّق للأمام،
ملامحه جامدة… لكن فيها حنانًا صامتًا.
همست، وشفتي بالكاد تتحرك:
“سامورو… ماذا حدث؟”
أجاب، بصوته العميق الرتيب:
“لا شيء…
حين دخلنا الجنجتسو…
فقدتِ وعيك.”
“دخلتُ خلفك،
وحاولتُ إيقاظك…
لكن لم تستجيبي.”
“فأدرتُ الوهم عليك من الداخل…
وجعلتكِ ترين النور.”
سكتُّ لحظة.
ثم همست:
“وهل كنتَ… أنت النور؟”
نظر إليّ.
ثم… ابتسم.
ابتسامة خفيفة، لا تُرى إلا في زاوية العين.
“وصف جميل، يارا.”
**
كان لا يزال يحملني حين تابع السير،
وخطواته تنزل بنا عبر سلالم لا تنتهي.
قلت بخفوت:
“فلتنزّلني يا سامورو…”
قال دون أن ينظر:
“متأكدة؟”
“نعم.”
**
نزلت.
نظرت إلى الأسفل…
لم أستطع رؤية شيء.
ظلام تحتنا… لا يشبه الجنجتسو.
سألت، بنبرة مترددة:
“أين نحن؟”
رد دون تردد:
“أظننا وصلنا… إلى الغرفة السريّة.”
أشار بيده:
“انظري حولك.”
نظرت.
ثم تمتمت:
“لا أرى شيئًا…”
قال:
“فعّلي الشارينغان.”
فعلت.
ثم رأيت.
وتجمّدت.
**
كل شيء توقف داخلي…
حتى الهواء في صدري.
ما رأيته… لا يُمكن وصفه بكلمات.
لا يُمكن أن يكون حقيقيًا.
**
لكنني كنت أراه…
وأنا واقفة هنا.
⸻